د.محمد عياش الكبيسي
يخضع أكثر من 40% من البشر اليوم لأنظمة حكم فيدرالية، وقد تتضاعف هذه النسبة إذا أخذنا بنظر الاعتبار الدول التي تمارس الفيدرالية عمليا من غير قرار دستوري كما هو في الصين.
تزايدت القناعة العالمية بهذا النوع من الحكم مع انتشار الثقافة الديمقراطية ومبادئها المعروفة كالحريات العامة وحقوق الإنسان والتعايش السلمي..الخ حيث أصبحت الفيدرالية الضمانة الأقوى لحماية الدولة المعاصرة من سطوة القائد الأوحد وهيمنة الحزب الحاكم.
كان التخوف الوحيد أن تكون الفيدرالية سببا لإضعاف الدولة أو تفتيتها، خاصة في المجتمعات الشرقية التي لا ترى هيبة للدولة إلا بهيبة زعيمها وقائدها، وهو شعور طبيعي متولد من تربية قبلية تتجسد فيها مكانة القبيلة بمكانة زعيمها (شجاعة وكرما وشهامة) وقد ساعد على هذا القراءات التاريخية التي يأخذ فيها الرمز أو البطل المساحة الأوسع من التركيز والاهتمام، إلا أن التجربة المعاصرة أثبتت أن الدولة الفيدرالية أشد تماسكا وأقوى شكيمة من الدولة المركزية، وقد كانت تجربة الحرب الباردة طويلة الأمد بين النموذجين الفيدرالي(أميركا) والمركزي (الاتحاد السوفيتي)من أقوى الشواهد على هذا.
ربما لا يختلف اثنان أيضا أن التجربة الإسلامية كانت من التجارب الرائدة في تطبيق الحكم اللامركزي أو «الفيدرالي» يقول الإمام بدر الدين بن جماعة : «لإمام المسلمين أن يفوّض ولاية كل إقليم أو بلد إلى كفؤ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك لاسيما في البلاد البعيدة ..فإن كان تفويضا عاما جاز له تقليد القضاة والولاة وتدبير الجيوش واستيفاء الأموال من جميع جهاتها وصرفها في مصارفها، وقتال المشركين والمحاربين» تحرير الأحكام ص58-60.
شهدت التجربة الإسلامية نماذج في الحكم اللامركزي أبعد بكثير من نماذج الفيدرالية المعاصرة، ومن أقوى تلك النماذج تجربة الدولة الأيوبية والتي أسسها صلاح الدين الأيوبي، والتي أخذت على عاتقها تحرير بيت المقدس من الصليبيين وإنهاء الدولة الفاطمية التي كانت تمثل خطرا جديا على هوية الأمة ومنظومتها القيمية، وكانت الدولة الأيوبية لا ترتبط بالخلافة العباسية إلا ببعض الرسوم والأدبيات السياسية العامة، وقد كان صلاح الدين حريصا على التواصل مع العلماء والفقهاء لمساعدته في بناء دولته وتحقيق أهدافه، وقد كان له ذلك وفتح الله على يديه حتى طغى اسمه على اسم الخليفة العباسي.
إن الإسلام لم يأت بنظام محدد في الحكم، بل جاء بمبادئ عامة ومقاصد كلية، ثم ترك التفاصيل لأهل الحل والعقد وذوي الاجتهاد في الأمة، ولذلك نرى التجارب الإسلامية متفاوتة زمانا ومكانا، وفي كل تجربة هناك غطاء واف من الفقه ومشاركة فاعلة من الفقهاء، حتى بالنسبة للدول التي آثرت الانفصال كالدولة الأموية في الأندلس.
في العراق اليوم يثور جدل حاد حول مشروعية النظام الفيدرالي، ومما يؤسف له أن يخرج هذا الجدل عن دائرة البحث العلمي إلى دائرة الاستقطابات والمنافسات السياسية التي تحول دون التوصل إلى رؤية ناضجة ومتكاملة للخروج من الأزمة التي يغرق بها العراقيون عامة بينما يتحمل أهل السنة بشكل خاص عبئها الأكبر.
لقد ورد عن ابن عمر أنه قال: «إنكم تسألون عن مسائل فتفتون فيها، ولو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر» إن مشاريع الانقاذ الكبرى تتطلب اجتهادا جماعيا تشارك فيه كل الكفاءات العلمية، وكل التخصصات والخبرات، وإنه لمن المجازفة بمكان أن تضغط بعض الجهات المحكومة بنمط محدد من السياسات لاستحصال فتاوى فردية دعما لتوجهاتها الخاصة، مما يعمق في الأمة حالة الانقسام والفوضى في ظرف تحتاج فيه إلى لملمة شملها وتضميد جراحها.
إن التعامل الواعي مع مختلف الفتاوى والآراء السياسية من شأنه أن يوسّع دائرة النظر الإيجابي للخيارات المتعددة والمفتوحة، بديلا عن النظرة الضيقة والمتشددة والتي تتعامل مع الفتاوى كنصوص مقدسة لا يمكن أن تختلف أو تتضاد، مع أن العلماء الذين تلقتهم الأمة بالقبول كأبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي قد اختلفوا في مئات المسائل بل وداخل المدرسة الواحدة كما خالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن وزفر شيخهم أبا حنيفة في الكثير من المسائل وكان كل هذا إثراء للفكر وتوسيعا للمدارك وتنويعا للخيارات، وكل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
إنه بداية لا يمكن إصدار حكم قاطع في المسألة مدار الجدل، لأنه لا يوجد نص أصلا في الموضوع، وإنما هي اجتهادات وموازنات بين المصالح والمفاسد، فإن تمكنا من التوصل إلى الشورى الواسعة والاجتهاد الجماعي فهذا هو المطلوب شرعا وعقلا، وإن قصرنا في ذلك فإن فتح المجال للاجتهادات المتعددة قد ينشّط الحركة الثقافية ويسهم في سبر المعلومات وتجميعها وتحليلها.
إن خط الصلاحيات بين المركز والمحافظات خط مستقيم، فكلما توسعت صلاحيات المحافظات تقلصت صلاحيات المركز، والعكس صحيح، وحينما طالبت محافظة ديالى ثم صلاح الدين بتحول المحافظة إلى إقليم لم يكن المقصود سوى تقليص سلطة المركز، خاصة في المجالين التشريعي والأمني حيث ينص الدستور العراقي الحالي في المادة 120 : (يقوم الإقليم بوضع دستور له يحدد هيكل سلطات الإقليم وصلاحياته وآليات ممارسته تلك الصلاحيات) وفي المادة 121 : (تختص حكومة الإقليم بكل ما تتطلبه إدارة الإقليم وبوجه خاص إنشاء وتنظيم قوى الأمن الداخلي للإقليم كالشرطة والأمن وحرس الإقليم)
المالكي أدرك المغزى من الدعوات الإقليمية هذه فاستخدم كل وسائله لإحباطها، ولم يتورع عن استخدام القوة، وفتح الباب أمام المليشيات الطائفية لاحتلال مبنى المحافظة وكل المؤسسات الحساسة، وهذا لوحده ينفي ما يشاع أن مشروع الأقاليم مشروع صهيوني أو أمريكي، فلو كان كذلك لكن المالكي أسرع إلى تنفيذه، ولو تجرأ على غير هذا لكن للأمريكان موقف آخر من المالكي غير هذا الذي نشهده اليوم.
ربما لا يختلف اثنان أن تقليص صلاحيات المالكي يحقق مصلحة راجحة لكل المحافظات، لكن هناك تخوف من أن تتحول هذه الأقاليم إلى دول منفصلة!! وهو تخوف مشروع فلا يمكن لأي عراقي أن يستسيغ رؤية العراق مهشما ومفتتا، وإني أرى خارطة السودان بعد التقسيم فأشعر بالجرح الدامي فكيف لو تقسم العراق؟
إن ربط الأقاليم بفكرة التقسيم فيه قدر كبير من الاستغلال العاطفي لصالح رؤى سياسية معينة، فتحويل المحافظة إلى إقليم لا يعني أن هذه المحافظة قد امتلكت مؤهلات الدولة المستقلة، فمحافظة ديالى مثلا أو محافظة صلاح الدين كيف يمكن أن تنفصل عن العراق بكيان مستقل؟ وأمامنا تجربة كردستان وهي ليست محافظة واحدة وفيها من المقومات الذاتية والموارد المتنوعة ما يؤهلها لفرض إرادتها، ومع هذا فهم لا يتحدثون بلغة الانفصال بل يؤكدون أنهم جزء لا يتجزأ من العراق الواحد.
يخيّل للبعض أننا بين خيارين أحلاهما مر، إما حكومة مركزية قوية وإما التقسيم!
مع أن أصل التجربة الفيدرالية في العالم كان لضمان وحدة الدولة بفك الاشتباك بين مكوناتها المختلفة في هويتها الثقافية والاجتماعية لتحقيق قدر من العدالة الآمنة والمطمئنة، وإذا كانت هناك خشية من الاصطدام بعد تشكيل الأقاليم أو لمنع قيام الأقاليم، فهذا ليس معناه أن الإقليم هو سبب المشكلة، وإنما هو في رغبة الفئة المتغلبة لسحق الفئات الأخرى وعدم منحهم أية فرصة للاحتفاظ بهويتهم وخصوصيتهم أو التمتع بحقوقهم الدستورية والقانونية، وهذا يتطلب معالجة أخرى ليس لها علاقة بموضوع المحافظات أو الأقاليم
533 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع