بعض ما لا تريد النفس معرفته !! هل يؤدي إلى الجنون؟

د. اسعد الامارة

بعض ما لا تريد النفس معرفته !! هل يؤدي إلى الجنون؟

هل حقًا ما لا تريد النفس معرفته ، هل يؤدي إلى عقوبة الذات ؟ نعم ، لأنه يمس بخصوصيتها وعمق ما ترك فيها من أثر وندبات ، موضوع يمس ذواتنا ونحن في حالة اليقظة والوعي ، ندرك تمامًا ما نراه ونُقيمهُ ، ولكن تساؤلنا هل فعلا ما لا نعرفه عن أنفسنا ويدلنا إليه الآخر ، لا نقبله ؟ وهل هو شيء أحدث جرحًا فينا واصبح جرحًا نرجسيًا في أنفسنا نحاول عدم معرفته؟
حينما يفاجئنا أحدهم بشيء فينا ولا نعرفه ؟ نستعير هذا النص لمعرفة دلالته وهو أن يرى الآخر فينا ما لم نعد نراه بأنفسنا ، ليس في موقف واحد من مواقف الحياة ، بل في مواقف متعددة منها الأبوة وشدة تأثيرها في بناء شخصيتنا ، أو التعلق الأمومي ، المحبة تجاه من نكن له العاطفة ، الحب والعلاقات العاطفية، حينما نستدعي المؤلم الدفين في دواخلنا في لحظة غير متوقعة .. ترك فينا الأثر والندبة النفسية العميقة ، لن تغادرنا طالما نحن نعيش ونتذكر تلك الندبة " الذكرى الدفينة" في حياتنا اليومية ومهما بلغنا من العمر ، ومن النضج ، ومن القوة ، ستعود حتمًا ولكن ليست كما كبتت " الكبت" ، بل ستعود بصور حياتيه مختلفة ومتغيرة، مضللة ومدغمة بلفافيف قاتمة أحيانًا ، لأنها موقف يتعامل أي منا في مواقف الحياة المتنوعة .. ويمكننا أن نقول صارت سمة تتسم بها شخصياتنا ، لأنها تنبع من ذات خبرت تلك وتركت الأثر ونتفق مع سيجموند فرويد بقوله: لا يوجد كبت إلا ويفتضح في أثرٍ ما يدل عليه " صفوان ، الكلام أو الموت ، ص 31".
طالما أننا نجدد رؤانا كل يوم ، لا بل كل ساعة أزاء مواقف الحياة المتنوعة ، سوف يكون حضورها حتميًا ، لأن النفس لا تمحو شيء ، ولا تنسى نسيانًا نهائيًا. وكما يقول " جاك لاكان" الرغبة مجازية بالطبع ، فهي تنتقل من شيء إلى آخر ، ومن خلال هذه التنقلات تختفظ الرغبة بحد أدنى بالالتصاق الشكلي ، وهي مجموعة من السمات الخيالية .
ونقول إذا كانت إيجابية تجعلنا نرغب في ذلك الشيء ، أما إذا كانت سلبية فإنها تترك فينا أثر سيء وربما سلبي يدركه من حولنا الآخرين.
الغيرة كما يقول العلامة "مصطفى زيور" تقوم على ضرب من التعاطف تختلط فيه معالم الذات بالآخر ، إلا أنه تعاطف معذب ، ويقودنا هذا أن كل سمة من سماتنا تحمل بين ثنايا وجودها أثر نرجسي يتعمق تارة ، وربما يبقى على السطح تارة أخرى وفي كلا الأمرين ، الموضوع سيان حيث يكون الأثر الذي لا .. ولن يمحى من تشبثه في عالم لا حدود له وهو عالم اللاوعي – اللاشعور، فيكون حضوره مرة أخرى وارد في أي موقف من مواقف الحياة المختلفة في العمل أو في العلاقات العامة ، أو في العلاقات العاطفية ، وربما في العلاقات الحميمية ، أو الزوجية موطن اعلان كل الأسرار لدى الطرفين أعني الرجل والمرأة .. تستعيده ظروف مماثلة ومختلفة معًا عن ما جعله يكبت . وقول " لاكان" ما دام الموضوع موجودًا ، فإنه يظل نقصًا، كل ما يمكن فعله هو مطاردة ذلك الجزء من ذاته الذي هو ليس جزءًا على الاطلاق ، هو نقص يلاحق نقصًا ملموسًا.
إن بعض المواقف التي تستدعي ما كان يؤلمنا وهربنا منه إلى عالم آخر ، ونسترجعه كأننا نسترجع جرحًا نرجسيًا ، وقول " سيجموند فرويد" الجرح هنا ليس في الفقد ، بل في تذكر ما كان ينبغي أن يُمنح منذ البداية ولم يمنح .
نحن أسوياء كما نعتقد بقدر تعاملنا في تجميل وجودنا مع الناس ، مع من نلتقي بهم في دوامة الحياة ولكن ليس في مدورة الألم وخزين النفس ، لا ننساه إلا في ظروف الحياة اليومية المتنوعه ، وفي الحقيقة ليس هو كماضي منسي ، بل كحاضر متكرر .
يرى كاتب هذه السطور ، وربما غيري ليس كذلك ، بأن أي تعلق بشيء في حياتنا من الطفولة ، هو تكوين وبناء لن يزول .. لا أقول أبدًا ، لكن يحتاج إلى جهاد من النفس لا نضير له ، جهاد لم نألفه ونحن في حضارة العجلة واللحاق بالجديد ، وهذه العجلة واللحاق بالجديد لا تعطي النفس برهة تأمل ممن هربت منه لتستعجل في كل شيء ، ويصدق قول الفيلسوف الألماني " نيتشه" المستعجل هارب من نفسه دائمًا . فكيف إذن يكون التعمق في ما تم التعلق به وأسس بنية النفس البشرية وهو النقص والفقد معًا ، هل يبرأ الأصحاء أولا منه وهم يدركونه ؟ فكيف إذن بمن يعاني منه ويدركه كعائق وجودي في كينونته ، ليومه ومسيرة حياته اليومية ، وإن أستطاع البعض ممن جاهد من " النفس" – مع نفسه ضد نفسه لتبديل ما أنهكه وألمه من أفكار وهواجس تلازمه في كل يومه.. يكون قد حقق التسوية الناجحة بين أخطر أمرين في النفس ، قبوله ورفضه معًا.
نتفق مع القول الذي يرى أن الجرح النرجسي لا يشفى بالكامل ، لكنه يعاد تشكيله عبر علاقات تحتمل الإنكشاف عبر مساحات لا تطلب الكمال ، وعبر لحظات يستطيع فيها الفرد أن يرى نفسه ، لا كما يريد أن يكون ، بل كما هو ، وأن يجد في هذا القبول نفسه بديلًا عن الانعكاس المفقود . ونقول من هو الذي خلق الفقد ؟
تساؤل وجودوي- تساؤلٌ يختص بكينونة الإنسان ؟ هل هو أنا كما أدرك ذاتي ؟ أم الام التي هي تمنح العاطفة والحنان مع الغذاء معًا . ما نراه في الفصامي هو نفسه ما نراه في الاكتئابي ولكن بصورتين مختلفتين تمامًا ، فالأول يكره أمه لأنها سبب أزمته كما يدرك ذلك من داخل نفسه ، وهو أمر ليس عقلاني . والثاني الذي يشعر بأنه دمر أمه لما تحملت من أجلهِ كل تلك المعاناة ، فأدرك ذلك بأنه إجحاف في حقها ، كيف يعيد لها تقديرها في نفسه ، وهو أن يقدم نفسه هدية لها ، ومكافأة لما قدمته بأن يقدم لها أعز شيء هو نفسه، لكي لا يشعر بالذنب ولوم ذاته ويستمر في حياة مظلمة دائمًا ، وهو الموت أختيارًا .. والخلاص من هذا السقم النفسي الذي لا ينتهي ، هذا الألم الذي يستجد كل صباح مع التشاؤم الذي يصل حد الوهم ، فضلا عن الثقل الواضح في الحركة الجسمية مع الأرق وفقدان الشهية للطعام ، ففي كل صباح تكون الاستفاقة مبكرة واشتداد في نوبة الاكتئاب ، وأقصد هنا الاكتئاب العقلي ، وبأمكاننا أن نميزه عن الاكتئاب النفسي الذي الذي ينجم عادة عن انفعال أو رد فعل لموقف خارجي Reactive ، في حين يكون الاكتئاب العقلي – الميلانخولي – السوداوي هو اضطراب بنيوي ذاتي يساعده العامل الذاتي والاستعداد الداخلي للاكتئاب.
هنا يقودنا تساؤل به من الأهمية استنادًا لمقولة " جاك لاكان" الذات تحيا اثر نقص بنيوي يؤسس الرغبة ، لذا فهي تفتقد ما لم تملكه أصلًا ، وتنتظر ما لن يأتي وهذا هو الموضوع الصغير- الألف الصغير " a " ذو الدلالة العميقة عند جاك لاكان . وهو بنفس الآن ليس شيئًا فقدناه ، انه عندئذ نكون قادرين على العثور عليه واشباع رغباتنا ، بل إنه الاحساس الدائم الذي ينتابنا كذوات بأن شيئًا ما ينقصنا بحياتنا.
ولا نغالي لو أتفقنا مع سيجوند فرويد بمقولته وهي أن اختيار نوع العصاب ، أي الشكل الذي يتخذه المرض فيما بعد ، رهن بالموضوع الذي حدث عند التثبيت. وعودًا لما تقدم به لاكان وفرويد أن نجد البعض من الشباب الذي يقدم على الانتحار بكل جدية وثقة بالنفس لا خوفًا من الموت أو رعبًا منه ، بل إن إيمانه وعقيدته الزمته بتقديم نفسه قربان لآخر – هو من يقدسه وهو "الإمام" الذي يرى فيه المخلص من هذا الجحيم في هذه الحياة ، هذا "الإمام" الذي يقدسه في داخله وهو مبعث الطمأنينة له .
أما العامل الخارجي " اعني به من يبشر لهذا المذهب، أو الاتجاه حيث يكون دافعًا للإقدام على فعل الانتحار ، وهنا نذكر القول ان المحاولات الانتحارية هي رسالة استغاثة يرسلها الفرد إلى محيطه ومجتمعه ، وهي استغاثة لاواعية – لاشعورية ، وهي تضم عقابًا ذاتيًا، أو محنة عليه أن يقاسيها ، وقول " د. فخري الدباغ " وإذا كانت درجة خطورة المحاولة الانتحارية قليلة فإن ذلك لا يعني بأن الدوافع اللاواعية – اللاشعورية للموت كانت غير صادقة ، ونقول أبدًا أن الجرح النرجسي ساهم في التحفيز سواء لدى مضطرب الاكتئاب العقلي ، أو المؤمن المتمسك بقدسية رجل ما ، بأن الانتحار كهدية تقدم قربان للإمام – السيد المخلص الذي ينتظر قدومه للحياة الأبدية وهذا في فكر " العلياللهية " ، فالأمر لا يعدو أن يكون بنية ذهانية أخذت في الأولى طابع الميلانخوليا – الاكتئاب السوداوي ، وفي الثانية درجة العتمة في رؤية الحياة ومسارها الذي لن يستقيم إلا من خلال تقديم نفسه قربان للامام – السيد بالانتحار ، وهو يقوم على مدى الشعور بالذنب عند الشخص المنتحر متدينًا مؤمنًا بفكر متطرف ، فالأمر لا يختلف في دوافع الانتحار والشروع به فكما هو الأمر في العوامل النفسية في مرحلة الطفولة في سنواتها الأولى ، وعلاقة الفرد بأبويه ، وكلاها لها تأثير في الميول الانتحارية، وما تركه من أثر في جرح نرجسي لن يندمل ..يستثار في مواقف الحياة ، ربما يؤدي بصاحبه إلى الإقدام لفعل الانتحار.. يبقى أن نقول ليس بعض ما لا تريد النفس معرفته .. هو عفوي ، أو بلا دلالات عميقة منشأها ما تُرك في النفس أثر ربما يؤدي إلى الجنون أحيانًا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1036 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع