
أ. د. نزار الربيعي
الفارابي وجدله التاريخي ونظرية العظيم
وظف ابو نصر (ت ٣٣٩هـ / ٩٥٠م) التراث المعرفي العربي ، في قراءة (واقع) يعاني من الاخفاق (الذي اقصى من حياة العرب ، في صدر الاسلام ومع دستوره (القرآن) باعتبارهما الانموذج الشاخص في ذاكرة الفارابي والامة ، لا في واقعها المضطرب .
لقد رأى هذا الفيلسوف تحت سطح «الواقع تفاعلات المرحلة التأريخية الاكثر حركية في حضارة الاسلام ، لا سيما في بغداد وبما يؤلم بعد ان بذرت عوامل الضعف الناشئة عن التسلل الاجنبي الى (كيان الدولة) بذورها منذ زمن (المتوكل ٢٤٧هـ) وتغيير مركز الخلافة والعودة اليه
لذلك راح (الفارابي) يتفحص حركة التاريخ (ماضيا) و (حاضرا) و(مستقبلا) على سبيل المقارنة والمقايسة، فوجد الماضي (مزدهرا) و(الحاضر مضطربا) و(المستقبل غامضا مشوشا) فكيف لا يقلق لاضطراب العلاقة بين (الدولة والمجتمع)، الذي نشأ بسبب الضعف العلاقة بين (الخليفة وسلطته من جهة) و (الحكمة) من الجهة الثانية . مع ان الخليفة هو الرأس ، بل هو سر (التقدم) او (الانكفاء) ومحور حركة التأريخ
ولإيمان الفارابي بتواصل التأريخ العربي وديمومته واصالته راح يذكر الجميع بعراقة الحكمة في هذا الشعب الحضاري العريق - سبقوا بها اليونانيين ، والتي لا سعادة الانسان الا بها ولا تقدم للمجتمع الا بدولة يحكمها حكيم في هذه الربوع المعروفة بعراقة حكمها وقوة سلطانها. بخلاف عليه في زمانه حيث تشاغل الناس عنها ، بهمومهم ، والحكام بترفهم ، والمسؤولون بتنافسهم على الثروات . فتدنت هيبة الدولة واضطرب حبل الامن ، وتلكأت مسيرة الحكمة.
لقد عول الفارابي كثيرا على (رئيس الدولة) وسلطته وعدها العامل الاهم في حركة التأريخ (ايجابا) و (سلبا) . فمتى قام الحكم على (الحكمة) و (العدالة) كان رئيس المجتمع قادرا على ادراك موازين الاعتدال في القول والعمل فيصلح بصلاحه ، الناس ، وتتوفر لهم ظروف العيش في مدينة سعيدة ((فاضلة)) لا تنقطع عن اشراقات الماضي ، وتتجاوز عقبات الحاضر ، الذي افتقر لشروطها بحثا . عن حل مستقبلي .
ان الحكمة تحث على (استحضار) هذا الانموذج وبعثه طلبا للحيــاة الكريمة ولتحقيق نهضة مستقبلية تتراجع بفضلها عوامل الضعف والتخلف، انه مشروع (آراء اهل المدينة الفاضلة)
قدم الفارابي مشروعه الاصلاحي الشامل ، من وجهة نظر (فيلسوف التأريخ) لا المؤرخ حين ربط المجتمع بالعقيدة والفكر بروح الاجتماع والرئيس بحاجات الامة ، التي لا تعالج الا بحكمة قرارات المسؤولين وضمن شروط تأريخية لا يمكن اغفالها .
وانطلاقا من (قوة الفكر = الحكمة) جعل الفارابي الدور الايجابي للدولة ورئاستها مشروطا (بالحكمة) الواقعية ، ويسميها بالفضيلة الفكرية ذات الاثر على حياة الامم بخلاف (الفضيلة المدنية) المحدودة – الفائدة.
وظف (ابو نصر) نظريته الفلسفية في حركة التأريخ توظيفا شموليا ، فجعل سعادة الناس ، مرهونة باتساع (الاجتماع الانساني) و(بالدولة العظمى) كنظام نموذجي تضيق - بغيابه قوة الدفع التاريخي بضيق مساحة الفعل الاجتماعي والجغرافي .
هذا الاطار، ادرك الفارابي - منطق (التطور) والتغير في مسار حركة التأريخ وفقا لمنطق (الفضيلتين) على الصعيدين العام والخاص.
الاول سمته الاستقرار النسبي ، بخلاف الخاص المتميز بالتبدل المستمر.
عليه يصبح (الاجتماع الانساني) هو الذي يوفر للانسان – مسرحا تأريخيا وحيويا جيدا يستحق معه اسم الحيوان الانسي او المدني. و بذلك ، استخرج الفارابي مبدأ مهما في حركة التأريخ يقترن (بطول زمن التجربة) فكلما طال الزمن وازدادت التجربة الحضارية اصبح بالامكان وضع (قانون) يعبر عن اتجاه حركة ركة التأريخ تعبيره عن ((اكمل رياسة واعظم قوة يصدق)) ذلك على (العمران) و (الدولة) لانهما يربطان التأريخ بالاخلاق والسياسة (۷۸) كما وظف الفارابي الفضيلتين الفكرية والمدنية لاغراض تربوية هدفها مجيء افعال الافراد فاضلة حميدة ومتطابقة مع طموح الجماعة ، اذا ما احسنت الدولة فن الاقناع بحسب طبائع كل فرد وجماعة بما فيه الخدمة للجميع.
أما جدله الذي يحرك التأريخ ، فيقوم على احكام العلاقة بين (الطبيعي) و (الاجتماعي) حيث ينتقل بفضله ، التطور النوعي الى المجتمع الانساني وفق قانون ثلاثية الاحداث دون فصلها عن العلاقة القائمة بين (الذاتي= الداخلي) و(الموضوعي = الخارجي) على أساس فلكي - تنزيهي ، فيضي، ترك للانسان مطلق الحرية في ان يعمل ، ويتحمل مسؤولية الفعل لان سعادته مرهونة بحجم الجهد الذي يبذله من أجل ادراك المرامي (الاسباب) البعيدة والاستعداد لها .
ان (التجاذب والتدافع) عند الفارابي محكومان (باعتدال) الفعل الذي ينشأ عن التقاء (الشيء وضده) بثالث يجمع صفات الضدين دون ان ينفي وجودهما، بعيدا عن (الضرورة = الجبرية) التي تتعارض مع الاخلاق والسياسة والدولة والرئيس ، فعلى الاخير ان يوفر لاتباعه فرصة الاستجابة لدواعي التأريخ من اجل الافضل مستفيدا من قدرته على ادراك مرامي العقل (الفعال) (للتوقع) ولتحقيق الخير والسعي من اجله.
وبهذا رهن صناعة التأريخ باستجابة الناس للرئيس الذي ندب نفسه لخدمتهم ، وبمناخ الحرية والاعتدال المعبر عن (الارادات الحرة والعقلانية) التي تختلف تختلف باختلاف الجماعات والازمنة والاماكن والوعي والمراحل التأريخية تؤشرها قوانين ترتكز على اربع قواعد هي (الفضائل النظرية والفكرية والخلقية والصناعات العملية حتى تعبر عن طبيعة حركة التأريخ ومنطق التطور والتغير ، الكاشف عن حجم الجهد التأريخي للامم (السعادة)، وهي قواعد لا يدركها الا امتلك استعدادا قياديا واراديا ، ملكا كان ام من مدينة ام امة : او دولة تمكنت من فن الاقناع وتربية المجتمع
أما كيف يثمر فعل الانسان حضارة وسعادة ، ومتى يصبح فعلا تأريخيا متميزاً ؟ فيجيب عن ذلك الفارابي في كتابه تحصيل السعادة ، منطلقاً من حقيقة التفاوت الطبيعي والارادي بين الناس في قوتهم الفكرية وفضائلهم الخلقية ليقول لنا ان الانجاز التأريخي (الاعظم) و(السعادة العظمى) لا يتحققان الا لمن فطر على المعقولات الاولى ، من المفكرين والقادة ممن يقف وراء سعادة امتهم ورقي دولهم بفضل اشاعتهم للعلم المدني والمعرفة العقلية والعملية، عن طريق التعلم وتطهير النفوس.
فجاءت صناعة التأريخ عملا جماعيا مشتركا، وهو امر لم تبلغه الامة التي يكون على رأس دولتها ، ملوك تمكنت من نفوسهم روح القهر والتغلب والمغامرة والطيش، فيكون مصيرهم الانتحار، ومصيرها السقوط ، بدلا من الرقي والسعادة .
لقد وجدنا الفارابي هنا يفتش عن الرئيس الذي يتمتع بالقدرة على وضع (النواميس) الجالبة للسعادة والمتميز برئاسة (قيادية تأريخية) لا رئاسة خدمية (تنفيذية) فقط قيادة توفر للانسان ، المناخ المولد للفعل الحضاري المشترك والمتصاعد نحو الخير الاعظم. وكما يكون (الرأس الحكيم) سببا لاعمال الاعضاء النافعة ، يكون القائد لشعبه في مدينته الفاضلة .
وبهذا جعل الفارابي (القيادة العلمية التوجيهية) الفكرية ، الشرط الاول للفعل التأريخي الخاص والعام ، للافراد ، وللرئاسة التنفيذية (الوزارة).
لذلك أجاز في مدينته الفاضلة ، وجود رياستين (عند تعذر وجود الرئيس الفيلسوف) ، الاولى فلسفية (حكمية) - توجيهية - والثانية سياسية خدمية تنفيذية لتحقيق الغايتين (المعرفية الاخلاقية) و(السياسية العملية) تحقيقا متوازنا ومعتدلا.
يبدو لنا مما تقدم ، ان ابا نصر قد وضع (الدولة) كقطار لا يتحرك الا على (النواميس والاخلاق) (حركة حرة) (غير مضطرة) يقوده رئيس عاقل حريص على ايصال ركابه المطيعين الى حيث السعادة والامن والامان وهي غاية مشروعة
هكذا هو التأريخ ، وحركته ومحركاته، تتسارع ، حيث تتسع مديات الفعل والحركة ، باتساع دائرة تأثير القائد ، واندفاع الدولة ، واستيعابها للعدد الأكبر من المواطنين الفاعلين . وهو امر تحدث عنه الفارابي في جل مؤلفاته السياسية ولو انه جمع في (كتاب المدينة الفاضلة) مجمل نظريته في الحضارة، التي حذر من آفاتها القاتلة (كالتحلل الحضاري ونكوص الدولة - واستبداد الرئيس - وترف الخاصة . ونزوات الاحتكار والغلبة واهمال (الشرع) وما يترتب على ذلك من خلل اجتماعي يترك عيوبا ويخرج بالمجتمع من حياة الفضيلة في نفوس الناس ويضعف عقولهم الى نمط المدن المنحطة والضعيفة وعموم المدن الجاهلة بعد ان قلب حكامها. القاعدة القائلة ان الاعدل هو الاسعد (الى القاعدة القائلة ان الأقوى هو الاسعد) متناسين أن الأقوى هو الاقهر وليس الاسعد والقهر يتعارض وحكمة الانسان وارادته الحرة. فلا فاعلية تأريخية الامـع الحكمة والعدالة والحرية ، وبخلافه يكون الانحطاط والسقوط.

832 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع