الدماء والدموع تستصرخ الإصلاح

                                         

                       د.علي محمد فخرو

عندما تفشل مجتمعات في منع حدوث الانتهاكات الحقوقية والإنسانية بحق الأقليات الدينية أو المذهبية أو الثقافية من مواطنيها فان عليها أن تفتش في أعمق أعماق مكونات وجودها عن الأسباب والمهيئات لحدوث تلك الانتهاكات. هذا هو واقع دول ومجتمعات العرب في حاضرهم الذي يعيشون. وهو ما يرى في أبهى صوره في ارتكاب التهجير والمجازر واغتصاب النساء بحق المواطنين المسيحيين العرب أو في احتلال ميليشيا شيعية لقرية سنية أو في احتلال ميليشيا سنية لقرية شيعية. في بشاعة وحقارة وفسق تلك الصور ينجلي الجانب المتقيح في مكونات الوجود الاجتماعي العربي.

الدلائل كلها تشير إلى أن التهيئة لارتكاب تلك البشاعات تبدأ في القراءات المتخلفة والفهم اللامعقول، التاريخي والحاضر، لمنطوق الوحي الإلهي في الدين الإسلامي من جهة، وتنتهي في إصرار أعداد لا حصر لها ولأعد من الملقبين بالأئمة والفقهاء، والعلماء وآيات الله وحجج الإسلام والمجاهدين وأمراء المؤمنين ومنقذي ومجددي الدين عند رأس كل قرن إلخ 000 إصرارهم على تعيين أنفسهم كوسطاء ومعلمين وميسرين وشارحين ومشرعين بين الخالق والمخلوقين.
وهكذا تبعد المسافة بين المسلم وربه الرحيم الغافر الذنب المتسامح المحب بينما تصغر المسافة بينه وبين زمرة المتوسطين المتزمتين المتعصبين عن جهالة، غير المتسامحين بانتهازية ونفعية، المنصبين أنفسهم بأنفسهم على أنهم الحماة الوحيدين لمشيئة الله ووحيه ورسالته، الذين أغرقوا الرسالة البسيطة الموجهة لفطرة الإنسان الفرد البسيط في لجج من مدارس وشروحات وتفسيرات فقهية بشرية، ألبسها بعض من أصحابها وكثير من أتباعها لباس القدسية والدلالة المؤكدة للفرقة الناجية. وهكذا تكونت إشكالية كبرى في ثقافة الإنسان العربي وترسخ مرض في عقول المجتمعات العربية. أما الإشكاليات فيجب أن تحل وأما الأمراض فيجب أن تعالج. والحل هو الإسراع بإصلاح المجالات التي أقحم الدين الإسلامي فيها بحسن نية وبجهل، إذ لا مشكلة في جوهر الدين نفسه والمقاصد الكبرى لرسالته.
ومن البداية يجب التأكيد بأن الورع الديني الذي تتميز به مجتمعات العرب لن يرفض محاولة إصلاحية تستند إلى العقل والعلم وتحترم التقوى الروحية وذلك على الرغم من التطرف والتخبط الذي تمارسه بعض حركات الإسلام السياسي المتطرفة وجماعات الجهاد التكفيري العنفي.
قضية الإصلاح ثم التجديد في المجال الديني، من مثل مراجعة مكونات وآليات ومناهج علوم الحديث والفقه، مضى عليها أكثر من قرن ونصف القرن وهي تراوح مكانها. الأسباب واضحة. فهي أولا اعتمدت في معظمها على جهود فردية أو مؤسسية محددة النفوذ والسلطة. وهي ثانيا اعتمدت على سلطات دول، هي إما غير مقتنعة بضرورة الإصلاح أو مكتفية بالاستعمال الانتهازي للدين في صراعات السياسة أو في أحسن الأحوال قانعة بإصلاحات جزئية ترقيعية مظهرية محدودة. والنتيجة هي أن ذلك الإهمال الذي مارسته سلطات الدول للبدء بعملية إصلاح حقيقي، قائم على العلم والعقل ودروس التاريخ، ومبتعد عن مماحكات السياسة ونفعيتها، قد أدى إلى الوضع المأساوي الذي أمامنا:
عنف وإرهاب وتضليل وملاسنات وأكاذيب سممت المجال الديني وادخلته في تيه التعصب والجنون وانتهاكات حقوق الناس وانتهازيات السياسة. وعندما نضع اللوم الأكبر على الدولة العربية فلأنها الأقدر على القيام بعملية إصلاح شاملة. لكن ذلك لا يعفي الأحزاب السياسية الإسلامية الإصلاحية ولا المرجعيات الدينية شبه المستقلة ولا الجماعات الثقافية الإسلامية. لا يسمح المجال للدخول في تفاصيل متطلبات هذه العملية الإصلاحية التي صدرت طيلة القرن الماضي مئات المؤلفات الرصينة بشأنها. لكنها لن تثمر إصلاحا حقيقيا وعميقا إن لم تتوافر لها المتطلبات الآتية:
أولا: إخراج منطوق الوحي الإلهي من قبضة التاريخ، ليعود إلى حالة طهارته وبساطته وتوجهه المباشر إلى النفس الإنسانية العاقلة المكلفة المستقلة عن إدعاءات الوساطات والإملاءات. إن ذلك سيتطلب بدوره وجود مراكز بحوث ودراسات في الإسلاميات، تضم إضافة إلى علماء الدين علماء متخصصين في ميادين علوم التاريخ والاجتماع والنفس واللسانيات والطبيعيات وغيرها. وهو ما سيجعل الدراسات الإسلامية تستعمل المناهج الحديثة وتستفيد من منجزات علوم العصر.
ثانيا: معالجة كل أنواع الخلل في منظومة التعليم الديني التخصصي، ومنظومة التثقيف الديني المدرسي والجامعي، ومنظومة الإعلام الجماهيري الديني، ومنظومة الاجتهاد الديني ومنظومة العمل السياسي الديني، وذلك كله من أجل هدف جعل مجال الدين ملكية تخص الأمة كلها وعموم المجتمع، وتمنع الاستحواذ عليه من قبل فئة أيا يكون مسماها، أو ممارسة بيعه وشرائه في عوالم السياسة والصراعات الأيديولوجية المختلفة.
ثالثا: تنفيذ تلك العملية الإصلاحية من خلال مبادئ العدالة، والحرية المسؤولة، وتعايش الأفكار المتعددة، والاحتكام إلى القوانين، والمساواة بين المواطنين. وذلك لأن الدين يفسده المجتمع الفاسد. إصلاح المجال الديني سيس هم إلى حدود كبيرة في تسهيل إصلاح مجالات السياسة والاجتماع والثقافة في وطن العرب المريض المأزوم المنهك.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1636 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع