د. علي محمد فخرو
ظاهرة التقدم والتراجع في بلاد العرب
شعار التقدم الانساني الذي طرحه عصر الأنوار الأوروبي منذ حوالي ثلاثة قرون، بل وقدًّمه كحتمية من حتميات التطور البشري نحو الأفضل والأسمى، يخضع الآن للتساؤل والشك.
فالذين طرحوا الشعار في البداية اعتقدوا بأنه كلما زادت المعرفة وتقدًّمت شتًّى العلوم وتطورت وتحسَّنت التكنولوجيا، فان الانسان سيصبح أكثر عقلانية واتزاناً في الأحكام والتصٌّرفات وأكثر تحضُّراَ. وهذا، حسب رأيهم، سيقود الى عالم أكثر رخاءَ وسلاماَ وسعادة، اذ إن العلم سيؤدًّي الى أنسنة البشر.
دعنا مَما يقوله المفكرون الغربيون عن موضوع التقدم في بلادهم، اذ بالرغم من التطور الهائل في المعلومات والمعرفة والتكنولوجيا الذي تحقق في بلدانهم، فانًهم لم يحصدوا الاً الحروب الكونية والعبثية، واستعمار الآخرين، والأزمات الاقتصادية المتعاقبة، وصولاً في أيامنا الحالية الى صعود الفاشية اليمينية، وعودة الأصولية الدينية المتزمتة، ورجوع التعصُّبات العرقية ضدً هذا الجنس أو ذاك، وانتشار أوبئة المخدًّرات والبغاء والجرائم. من هنا مراجعة الكثيرين لمفهوم التقدم برمًّته. بدلاً من ذلك دعنا نتفحًّص بامعان موضوع التقدم في بلاد العرب، اذ ستصدمنا المفارقات وسنكتشف لأنفسنا، على غرار ما اكتشفه الغرب، بأن التقدم في ساحات المعرفة والعلوم والتكنولوجيا لا يقود بالضرورة الى استعمال العقل والمنطق، ولا الى ارتفاع مستوى القيم والأخلاق أو الالتزام بمصالح الأوطان.
المفارقة الأولى تتمثًّل في الصورة التالية: المنتمون للقاعدة، أو لبناتها داعش والنصرة وغيرهما، يستعملون أحدث وسائل الاتصال الالكتروني وأكثر الأسلحة الحربية تطوراً، وذلك بكفاءة مبهرة تفوق حتى كفاءة مخترعيها. كما أنهم يبرعون بصورة مذهلة في الاستفادة من كل ما توصًل اليه علم النفس الجماهيري العصري، وفي الاستعمال المبدع لآخر صيحات العلاقات العامة المضلًّلة، وفي استغلال كل ما هو غريب وشاذ في التراث الفقهي الاسلامي بعبقرية انتهازية فريدة، وذلك كله من أجل الهيمنة التامة على عقول الشباب المسلمين عبر قارات العالم كله.
لكن ذلك التفاعل المدهش فيما بين أفراد ما يسمًّى بالحركات الجهادية التكفيرية ومنجزات العصر المعرفية والعلمية والتكنولوجية لم يمنع أفرادها من تفجير الأحزمة الناسفة في التجمعات الجماهيرية الآمنة، سواء في المستشفيات أو الأسواق أو المدارس وحتى في بيوت الله، ومن سبي النساء وبيعهنً كالسًلع، ومن تهجير الملايين من مدنهم وقراهم ومزارعهم، ومن حرق وقطع رؤوس المكبلين المغلوبين على أمرهم. كل منجزات العصر العلمية والفنيًة لم تمنع أولئك المستوعبين لها والمستعملين لكل أدواتها عن التراجع الى أدنى مستويات البدائية وأعلى توحٌشها.
المفارقة الثانية تتلخص في الآتي: لقد انتشر التعليم المدرسي والجامعي بين ملايين العرب والمسلمين. ولقد أطًلعت الملايين على منجزات الدولة الحديثة في بنائها على أسس المواطنة والتساوي في الفرص والاحتكام الى القانون، وبالتالي اعلاء الولاء للوطن فوق كل ولاء آخر، وشاهدت الملايين يومياً عن طريق التلفزيون أنواعاً مبهرة من مظاهر التقدم الحضاري في مجتمعات الآخرين... ومع ذلك لم يمنع كل ذلك ارتداد أعداد هائلة من العرب والمسلمين الى الولاءات الدينية والمذهبية المتحجَرة المتصارعة البدائية، والى ولاءات ما قبل قيام الدولة، من مثل القبلية والعشائرية والمناطقيه العرقية، وذلك كله على حساب الولاء الوطني المشترك.
مرة أخرى، لم يمنع الاحتكاك بمنجزات العصر الفكرية في السياسة والتنظيم الاداري، والتعرًف على فوائد التطبيقات العقلانية من قبل الآخرين، لم يمنع تراجع كل ما وصل اليه العرب من تقدم، ولو كان محدوداً، الى الوراء، وفي شكل تقهقر سريع يهدًد بأن تصبح الأمة العربية خارج التاريخ وعلى هوامش مسيرة الانسانية.
اليوم، نرى حتى الممارسات الديموقراطية المحدودة تنتقل الى عوالم الاستبداد، وحقوق الانسان العربي المتواضعة الى عوالم قبضة البطش الحديدية، والمشاركات المجتمعية السابقة، وحتى لو كانت مقيَّدة وموسمية، تدخل في متاهات الشروط التعجيزية والمذلًة.
يقول المفكر والفيلسوف البريطاني جون جَري بأن الذين لايزالون مؤمنين بفكرة وحتمية التقدم هم في عصرنا (عصر الغرب) ينشدون في التكنولوجيا ما كانوا ينشدونه من قبل في الايديولوجيات، ومن قبل ذلك في الدين: انهم ينشدون الخلاص والانقاذ من أنفسهم. ياله من تصوير مروًّع لنهاية بائسة لانسان الغرب.
ذلك أن التكنولوجيا اثبتت دائماً أنها بجانب ما تحمله من فوائد للانسان، فانها تحمل مخاطر وأهوالاً تدميرية هائلة، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها لخلاص الانسان من شياطين نفسه.
اذن، فماذا عن الانسان العربي؟ ما هو الحقل الذي سينشد فيه خلاصه من نفسه المأزومة المحبطة التائهة في لحظته الراهنة؟ وهل سيستطيع، وهو في لحظات أتون الجحيم والفوضى والدًمار التي يعيشها، أن يحلً اشكالية التقدم والتقهقر تلك؟ لماذا تتقدم المجتمعات العربية خطوة، ثم تتقهقر خطوتين؟
مفكرو الغرب يفتًشون عن حلول فلسفية جديدة لاشكاليتهم، فهل نأمل في أن ينبري المفكرون العرب لايجاد حلول فلسفية وثقافية جديدة لحل اشكاليتنا؟
954 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع