فهمي هويدي
في الغضب مرغوب ومحظور
هذه بعض العناوين التي ظهرت في الفضاء المصري خلال الثماني والأربعين ساعة التي أعقبت تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية. فبعض الأصوات دعت إلى عدم الاكتفاء بإعلان الطوارئ وإضافة ما أسموه «إعلام الحرب» الذي يكمم كل الأفواه. في الوقت ذاته تعالت أصوات أخرى داعية إلى التوسع في الإعدامات بحيث تشمل من يفجر نفسه (يقتل مرة ثانية). كما رفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت الأمن». في الوقت ذاته فوجئنا بإعلان رئيس البرلمان أنه سيتولى من جانبه تجديد الخطاب الديني، دون انتظار جهة أو وزارة.
على الأقل، فذلك بعض ما أعلن خلال اليومين الأخيرين. ولا علم لنا بما لم يعلن. وهي قرائن كافية في التدليل على أن الانفعال بلغ مداه حتى خرج أو كاد يخرج عن السيطرة. وهو أمر مبرر ومفهوم، لأن الصدمة أحدثت زلزالا هز المجتمع المصري وفجر في كل جنباته عوامل السخط والنقمة والغضب. وإذ أزعم بأن الغضب جراء ما جرى بات فرض عين على كل مواطن مصري شريف، إلا أن له محظورا واحدا هو أن يتجاوز الأفراد ويصبح حاكما للقرار السياسي. ذلك أن غضب الأفراد إذا كان من علامات الصحة والتوازن النفسي، إلا أن انفعال أو غضب أهل القرار له حسابات أخرى مختلفة تماما. فغضب الأفراد يؤثر على محيطهم الخاص، لكن غضب أهل القرار له مردوده الذي يتعلق بمصالح ومصائر المجتمعات.
ولئن قيل في الأثر إنه لا يقضي القاضي وهو غضبان (الأرجح أنه حديث نبوي) فإن ما يسرى على طرفين متخاصمين أولى له أن يصبح نهيا حين يتعلق الأمر بالناس كافة. وإذا اعتبر الغضب مفسدا لعدالة القاضي، فإنه أيضا يجرح ــ بدرجة أكبر وأخطر ــ عدالة السياسي.
إن استسلام الأفراد للغضب يظل محدود الأثر في أسوأ فروضه. إلا أن السياسي إذا وقع في ذلك المحظور فإن الأثر يصبح أفدح وقد يفضي إلى ويلات لا تخطر على البال. وتدفع أعدادا غفيرة من البشر أثمانا باهظة جراءه. وليس غائبا عن البال أن شرارة الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ ــ ١٩١٩) انطلقت في لحظة غضب استسلم لها امبراطور النمسا والمجر فرانسوا جوزيف، حين قتل ولى عهده على يد دولة صغيرة هي صربيا. فشعر الرجل بالإهانة التي دفعته إلى إعلان الحرب عليها مع إدراكه بأن موازين القوى في أوروبا لم تكن في صالحه. الأمر الذي أشعل الحريق الكبير الذي راح ضحيته نحو ٢٠ مليون شخص.
أرجو ألا يلتبس الأمر على أحد لأن ما أدعو إليه على وجه الدقة أن يستمر الغضب بشرطين أولهما ألا يصبح حاكما للقرار السياسي. وثانيهما أن تقدر الأمور بقدرها، فلا نشتط فيه. بحيث يهدر مصالح أخرى تتعلق بأمن الناس وحرياتهم، ولا نتخذه ذريعة لتمرير أمور أخرى لا علاقة لها بالموضوع، مثل قضية تيران وصنافير التي أثير حولها لغط كبير نظرا لحساسيتها الوطنية، الأمر الذي من شأنه أن يوقعنا في محظور أكبر.
إن أكثر ما يبعث على القلق فيما يجري أن توظف دماء الأقباط التي أريقت ليس في توثيق عُرى اللُحمة الوطنية، وإنما في تشديد قبضة السلطة وإهدار مبادئ الدستور وضمانات القانون. وأزعم في هذا الصدد أن إسقاط أولوية الديمقراطية ورفع شعار «الأمن أولا» يمثل منزلقا خطرا يخدم نزعات السلطة ويلحق ضررا فادحا بالمجتمع. ذلك أن الأمن تحرسه الأجهزة الأمنية ولا توفره. في حين أن وحدها الديمقراطية التي ترسى قواعد السلام والأمن للمجتمع. وأي تجاهل لها أو إهدار لمبادئها يخدم الإرهاب وإن ظن بعض حسنى النية أنه يخدم السلطة.
1151 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع