د. محمد عياش الكبيسي
كيف نحمي مجتمعاتنا من خطر الخرافة؟ (١-٣)
تنتشر في مجتمعاتنا المحافظة والمتديّنة بعض الخرافات الملتبسة بالدين والتي تهدد نسيج المجتمع وروابطه الأسريّة فضلا عن إخلالها بالمنظومة الفكرية وفتح المجال لحالة من الاضطراب والقلق النفسي والمعرفي.
من الكلمات التي تشيع اليوم دون علم دقيق ولا حصانة كافية والتي لها انعكاس خطير في حياة الناس (الحسد، والعين، والمس، والسحر)، وهي كلها مصطلحات شرعية من حيث الأصل، لكن طريقة تعاطي الناس معها أخذت منحى آخر بعيدا عن مقاصد الشرع.
حذّرنا الإسلام من الحسد لأنه خلق ذميم بنفسه، وخطير بآثاره، والحسد إنما هو تمنّي زوال النعمة عن الغير، وقد يظهر هذا التمنّي بإشارات الكلام أو محاولة الانتقاص من المقابل أو بعداوة لا مسوّغ لها ومحاولة الإضرار لا لذنب ارتكبه المقابل، فهذه كلها داخلة في باب (الخُلق السيء)، ولا شك أن هذا يكدّر صفو العلاقات ويثير الخصومات والعداوات، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا) رواه البخاري.
فالدين إذاً وضع الحسد في إطاره الأخلاقي، بمعنى أنه خلق مذموم يؤدّي إلى التباغض والتدابر ويفكك عرى الأخوّة الإيمانيّة، هذا هو منطوق الحديث وهذا هو سياقه.
إلا أن الخرافة جنحت بالحسد من مفهومه الأخلاقي إلى مفهوم آخر لا يمت إلى المفهوم الأول بصلة، فصار الناس إذا أصابتهم مصيبة حتى لو حادث سيارة أو مرض طارئ أو رسوب في الامتحان تذكروا الحسد والحاسدين، واستعرضوا قائمة الأقرباء والأصدقاء لينتقوا منهم ذلك الذي كان السبب في هذه المصيبة! وقد يتبيّن لهم بالشواهد والقرائن أن هناك أكثر من شخص، كلهم قد تمالئوا وتعاونوا.
وإذا كانت القرائن لا تكفي فهناك بعض (الشيوخ) الذي يعتقد العامة فيهم أنهم ربما يعلمون الغيب، وهذا يكفي منه كلمة واحدة أن يقول لصاحب المصيبة (أنت محسود)! هنا لا يُسأل الشيخ عن مصدره في هذه المعلومة، لأنها ستجد طريقها إلى القلب دون تردد أو استئذان، فالطالب لم يرسب بسبب إهماله بل لأنه محسود، والحادث لم يحصل بسبب تجاوز السرعة والانشغال بالجوال، بل بسبب الحسد..وهكذا.
إن الخوف من الحسد أو من الاتهام بالحسد جعل الناس تتدابر وتتقاطع، فكان مؤدّى ذلك مخالفا لنص حديث البخاري (ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا)، كما أنه متضمن لسوء الظنّ بالمؤمنين وهو مخالف أيضا لصدر الحديث (إياكم والظنّ فإن الظنّ أكذب الحديث)، فانظر كيف سلبت الخرافة مدلول الحديث، وعكست تأثيره تماما، فأصبح الخوف من الحسد أشدّ من الحسد نفسه.
ثم هناك مخاطر لا تقل عما تقدّم، فالمجتمع الذي يعلّق كل إشكالاته وإخفاقاته على عين الحاسد متى يتاح له أن يراجع نفسه وأن يتعلم من أخطائه وأن يهتدي لمفاتيح الحل والأخذ بأسباب النجاح؟
ثم هذا الذي يصدّق (الشيخ) في مسألة بهذه الخطورة بلا دليل وكأنه يعلم الغيب، أو يعتقد في الحاسد أنه قادر على تدمير سيارته وتغيير نتيجته في الامتحان، ماذا بقي له من عقيدة التوحيد والتوكل على الله؟
1159 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع