كاظم فنجان الحمامي
على الرغم من تنافر الكيانات العراقية المشتركة في العملية السياسية, وعلى الرغم من تباعد زعمائها وتناحرهم, وعلى الرغم من تقاطع أهدافهم, واقتراب معظمهم من منزلقات الهاوية في خضم مواقف التوتر الطائفي, فإنهم اتفقوا من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون على حبهم لآل بيت النبوة الأطهار, وولائهم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وإن كانوا متأرجحين في مواقفهم الولائية لهذا الرجل العملاق, بين من يتظاهر بحبه مدعيا التمسك بنهجه, وبين من يستظل بظله, وبين من يؤمن بفكرة التحرري المتجدد باعتباره يمثل صوت العدالة الإنسانية.
بيد أنهم لم يطبقوا الحد الأدنى من دستوره ومنهجه, ولم يكلفوا أنفسهم مشقة العمل بأحكامه المستمدة من القرآن المجيد والسنة النبوية المطهرة, فكان لابد لنا من التحاور معهم ومناشدتهم بوجوب الالتزام بما ورد من أحكام دستورية في ميثاقه وعهده الذي عهد به إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر, فنحاججهم به إن كانوا صادقين في ولائهم له, ونجادلهم ببنوده إن كانوا مؤمنين بما آمن به, عسى أن تنفع دعوتنا في العودة إلى تطبيق ميثاقه في العراق, وفي إجبار السياسيين الذين أزعجونا بممارساتهم السياسية البايخة, وكرهونا بالسياسة, حتى سئمنا الحياة في ظل هذه الأجواء الكئيبة, وعسى أن تسهم مواد الميثاق في القضاء على الفساد المستشري في جسد مؤسساتنا الحكومية, وعسى أن تهبط عليهم ملائكة العفة والنزاهة فيعلنوا التوبة, ويعودون إلى رشدهم, إن كانوا متدينيين وخايفين الله, وهذا الميدان يا حميدان. .
أغلب الظن إن معظم الكيانات السياسية, وليست كلها, لا تعلم حتى الآن أن ميثاق الإمام علي وعهده لمالك صار من مصادر التشريع في القانون الدولي, في مبادرة رسمية تقدم بها الدكتور كوفي عنان عندما كان أمينا عاما للأمم المتحدة, وهو الذي اختار العبارة التالية من العهد, وطالب المؤسسات الحقوقية العالمية بتعليقها والعمل بأحكامها, وهذا نصها:
((وأشعر قلبك الرحمة للرعية, والمحبة لهم, واللطف بهم, ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم, فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين, وإمّا نظير لك في الخلق)).
لذا دعونا نستعرض العهد كله, ونحاجج به القوى السياسية العاملة في العراق على اختلاف تنظيماتها, فنقول لهم, أين أنتم من تطبيقات هذا الميثاق ؟. وما الذي يمنعكم من العمل بأحكامه إن كنتم تدعون تمسككم بنهج أمير المؤمنين ؟. والكلام هنا موجه إلى الطوائف والفرق الإسلامية وغير الإسلامية, خصوصا بعد أن صار الميثاق من مواد القانون الدولي ومن مصادره الرسمية والشرعية.
تعالوا معنا نقرأ فقرات هذا الميثاق, ونستعرضها, من دون أن نتفلسف بشرح مفرداته, فقد كتبه أمير المؤمنين بلغة سلسة وعبارات مبسطة يفهما الحاكم والمحكوم كي يستعينوا بها في بناء نظام الدولة والمجتمع, وتعزيز قوتها في هياكل قائمة على الأسس الرصينة. .
ديباجة الميثاق
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أمر بها عبد الله (علي) أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها, وجهاد عدوها, واستصلاح أهلها, وعمارة بلادها.
السلوك العام للحاكم
أمره بتقوى الله, وإيثار طاعته, وإتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه, التي لا يسعد أحد إلا بإتباعها, ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها, وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه, فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره, وإعزاز من أعزه, وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات, ويزعها عند الجمحات, فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله. .
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور, وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك, ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم, وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده, فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح, فاملك هواك, وشح بنفسك عما لا يحل لك, فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت.
لزوم حب الحاكم لمواطنيه
وأشعر قلبك الرحمة للرعية, والمحبة لهم, واللطف بهم, ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم, فإنهم إما أخ لك في الدين, وإما نظير لك في الخلق, يفرط منهم الزلل, وتعرض لهم العلل, ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ, فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك من عفوه وصفحه, فإنك فوقهم, ووالي الأمر عليك فوقك, والله فوق من ولاك, وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم, ولا تنصبن نفسك لحرب الله, فإنه لا يدي لك بنقمته, ولا غنى بك عن عفوه ورحمته. .
العفو هو الأصل, والعقاب هو الاستثناء
ولا تندمن على عفو, ولا تبجحن بعقوبة, ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة, ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين, وتقرب من الغير. .
لا للغرور والظلم
وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك, فإن ذلك يطامن إليك من طماحك, ويكف عنك من غربك, ويفئ إليك من عزب عنك من عقلك, إياك ومساماة الله في عظمته, والتشبه به في جبروته, فإن الله يذل كل جبار, ويهين كل مختال, أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك, ومن لك فيه هوى من رعيتك, فإنك إلا تفعل تُظلم, ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده, من خاصمه الله أدحض حجته, وكان الله حرباً حتى ينزع ويتوب, وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله, وتعجيل نقمته من إقامة ظلمه, فإن الله سميع دعوة المضطهدين, وهو للظالمين بالمرصاد. .
العامة أولاً ثم الخاصة
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق, وأعمها في العدل, وأجمعها لرضا الرعية, فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة, وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة, وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء, وأقل معونة له في البلاء, وأكره للإنصاف, وأسأل بالإلحاف, وأقل شكراً عند الإعطاء, وأبطأ عذراً عند المنع, وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة, فليكن صغوك لهم وميلك معهم. .
تقارير المخبر السري
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس, فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها, فلا تكشفن ما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك, والله يحكم على ما غاب عنك, فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك, وأطلق عن الناس عقدة كل حقد, واقطع عنك سبب كل وتر, وتغاب عن كل ما لا يضح لك, ولا تعجلن إلى تصديق ساع, فإن الساعي غاش, وإن تشبه بالصالحين. .
المعيار الصحيح لاختيار المستشارين
ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك بالفقر, ولا جباناً يضعفك عن الأمور, ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور, فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله. .
المعيار الصحيح لاختيار الوزراء
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً, ومن شركهم في الآثام, فلا يكونن لك بطانة, فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة, وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم, وليس له مثل آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه, ولا آثماً على إثمه, أولئك أخف عليك مؤونة, وأحسن لك معونة, وأحنى عليك عطفاً, وأقل لغيرك إلفاً, فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك. .
ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك, وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه, واقعاً ذلك من هواك حيث وقع, والصق بأهل الورع والصدق, ثم رُضْهُم على أن لا يطروك, ولا يَبْجَحُك بباطل لم تفعله, فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهوة, وتدني من الغِرَّة. .
ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء, فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان, وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة, وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه. .
حريات الناس
وأعلم أنه ليس بأدعى إلى حسن الظن راع برعيته كن إحسانه إليهم, وتخفيفه المؤونات عليهم, وترك استكراهه إياهم على ليس قبلهم, فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك, فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً, وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده, وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده, ولا تنقص سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة, واجتمعت بها الألفة, وصلحت عليها الرعية, ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها, والوزر عليك بما نقضت منها. .
اللجان الاستشارية
وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك, وإقامة ما استقام به الناس قبلك. .
طبقات المجتمع
وأعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض, ولا غنى ببعضها عن بعض, فمنها جنود الله, ومنها كتاب العامة والخاصة, ومنها قضاة العدل, ومنها عمال الإنصاف والرفق, ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس, ومنها التجار وأهل الصناعات, ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة, وكلا قد سمى الله سهمه, ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه عهدا منه عندنا محفوظاً, فالجنود بإذن الله حصون الرعية, وزين الولاة, وعز الدين, وسبل الأمن, وليس تقوم الرعية إلا بهم, ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم, ويعتمدون عليه فيما يصلحهم, ويكون من وراء حاجتهم, ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والكتاب لما يحكمون من المعاقد, ويجمعون من المنافع, ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها, ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم, ويقيمونه من أسواقهم, ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم, ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم, وفي الله لكل سعة, ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه, وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله, وتوطين نفسه على لزوم الحق, والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل. .
قادة الجيش والشرطة
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك, وأنقاهم جيباً, وأفضلهم حلماً, ممن يبطئ عن الغضب, ويستريح إلى العذر, ويرأف بالضعفاء, وينبو على الأقوياء, وممن لا يثيره العنف ولا يقعده الضعف, ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة, ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة, فإنهم جماع من الكرم, وشعب من العرف. .
ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما, ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به, ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل, فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك, ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به, وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه, وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته, وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم, حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو, فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. .
وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد, وظهور مودة الرعية, وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم, ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم, وقلة استثقال دولهم, وترك استبطاء انقطاع مدتهم, فأفسح في آمالهم, وواصل في حسن الثناء عليهم, وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم, فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع, وتحرض الناكل إن شاء الله. .
مع حسن الثناء في العباد, وجميل الأثر في البلاد, وتمام النعمة, وتضعيف الكرامة, وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة, والسلام على رسول الله صل الله عليه وآله الطيبين الطاهرين, وسلم تسليماً كثيراً, والسلام. . . .
متى تكون هذه أهدافكم ؟؟؟
كان هذا خطاب علي بن أبي طالب وعهده وميثاقه, الذي سارعت الأقطار الغربية إلى تفعيله وتطبيقه قبل أن تلتفت إليه القوى السياسية المتناحرة في العراق. .
لقد سار الغرب على نهجه و تمسكوا بمبادئه, فما الذي يمنع جماعتنا من تطبيق مفاهيمه على أرض الواقع ولو على نطاق ضيق ؟؟؟. .
قبل بضعة أيام جلبت انتباهي مبادرة جامعة هارفرد الأمريكية عندما ترجمت الآية (135) من سورة النساء, وكتبتها بلوحة كبيرة علقتها في أروقة كلية القانون, بالشكل التالي (1):-
O ye who believe! stand out firmly for justice, as witnesses to Allah, even as against yourselves, or your parents, or your kin, and whether it be (against) rich or poor: for Allah can best protect both. Follow not the lusts (of your hearts), lest ye swerve, and if ye distort (justice) or decline to do justice, verily Allah is well-acquainted with all that ye do.
http://www.youtube.com/watch?v=wNsFZ-2V3h8
انظروا كيف يعمل غيرنا بالقرآن المجيد(2), وكيف يتسابقون لإرساء قواعد العدل والإنصاف بالصيغة التي أوصانا بها ديننا الحنيف, في الوقت الذي ترك فيه جماعتنا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما حملته أجنداتهم السياسية الباهتة من أفكار طائفية عمقت البغضاء والكراهية, وسلكت دروب التنافر والتناحر والتباعد في ممارساتها اليومية, فانعكست علينا نحن الفقراء, وسودت عيشتنا. .
والله يستر من الجايات
864 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع