صفحات من تاريخ العراق :المماليك

                                                 

                            قاسم محمد داود

صفحات من تاريخ العراق : المماليك

عند ذكر المماليك يتبادر الى ذهن الكثير من الناس مماليك مصر والدولة التي أقاموها هناك .الا ان حكم المماليك لم يقتصر على مصر بل امتد الى الشام والعراق وأجزاء من الجزيرة العربية وقد دام حكمهم أكثر من قرنين ونصف القرن وبالتحديد من 1250 م إلى 1517 م .وسيكون حديثنا عن فترة حكمهم في العراق والتي دامت مايقرب من 82 عام ابتداء من عام 1749م وانتهت عام 1831م .

      
المماليك في اللغة العربية هم العبيد أو الرقيق، وبخاصة هم الذين سُبُوا ولم يُسبَ آباؤهم ولا أمهاتهم.. ومفرد المماليك مملوك، وهو العبد ذو البشرة البيضاء الذي يباع ويشترى، والكثير من المماليك كانوا فرساناً وجنود محاربين يؤسرون في الحروب او اطفالاً صغاراً يخطفون في غارات لصوصية او كسبايا حروب يتم عرضهم في أسواق النخاسة ليتم شرائهم وجلبهم الى الدول المعنية مثل الدولة العباسية والدولة الايوبية ولاحقاً الدولة العثمانية ليتم تعليمهم وتدريبهم عسكرياً ليتخرجوا قادة وفرسان مؤهلين لرفد الجيش بخبراتهم .وعليه فأن معظم المماليك كانوا من أصول تركية واوربية وشراكسة تم شرائهم من قبل السلاطين والحكام واتخذوا منهم قوة تساندهم وتعزز قوتهم في الحكم ،كما كان المماليك يبايعون الملوك والامراء على الطاعة ثم يدربون تدريبا عسكرياً راقياً بالإضافة الى تعليمهم علوم أخرى .
يذكر تقي الدين القريزي (1364م-1442م)كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يشترى في طفولته المبكرة فيقول:
"إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلي من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جداً بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عوقب".
اجمع الكثير من المؤرخين ان الوالي العثماني حسن باشا(1657م-1724م) الذي تسلم ولاية العراق منذ سنة 1704م حتى وفاته في 1724م هو اول من اتى بالمماليك الى العراق بعد ان دب الفساد في النظام العسكري الانكشاري ليجعل منهم جنده الخاصين يستعين بهم ويدينون له بالولاء المطلق،لذا ارسل المندوبين الى بلاد القفقاس ليأتوا له بالصبيان حيث ان أسواق مدينة تفليس او تبليسي (عاصمة جورجيا الآن )زاخرة بالصبيان المعروضين للبيع ،واسس في بغداد دائرة خاصة سماها (ايج دائرة سي )أي دائرة الداخل ومهمتها هي الاشراف على شراء المماليك وتدريبهم واعدادهم،وعندما تولى الحكم من بعده ابنه أحمد باشا اكثر من شراء المماليك واعتنى بهم حتى اصبحوا قوة لايستهان بها .
توفى احمد باشا الذي لم يخلف ابناً او حفيداً وكان المماليك قد كثر عددهم وصار بأستطاعتهم فرض ارادتهم على الدولة العثمانية .
كان من بين المماليك الكرج (جورجي)الذين اشتراهم حسن باشا وتعهدهم بالتربية مملوك يدعى سليمان آغا ،وقد حاز هذا المملوك على حريته بمقابل خدماته الكبيرة لابن سيده ، وبشجاعته التي ظهرت أوقات المعارك التي خاضها احمد باشا في الداخل وفي صد الهجمات الإيرانية على العراق ،ثم تزوج عادلة خانم (البنت الكبرى لاحمد)سنة 1732م وصار كهية (نائب الوالي) للولاية لعدة سنوات نال فيها شهرة واسعة لاتدانيها الا شهرة الوالي نفسه ،وقد حببت قسوته التي اخضع فيها القبائل المتمردة شخصيته لسكان بغداد الذين كانوا يرحبون بالاستقرار،ولما مات سيده احمد باشا في (1747م)   كان سليمان برتبة ميرميران (رتبة عثمانية ،وهي درجة من درجات الباشوات تقع تحت رتبة الوزير ).
تدهورت أحوال البلاد بعد وفاة احمد باشا ولم يستطيع أربعة حكام ارسلتهم العاصمة اسطنبول تثبيت الامن لجهلهم بأحوال العراق وعدم كفايتهم لذا وتحت المطالب المحلية وقوة المماليك في البلاد اذعن السلطان العثماني محمود   في 1749م بإصدار الفرمان الذي عين فيه سليمان باشا (أبو ليلة ) والياً على العراق ليبدأ عهد المماليك في البلاد الذي بدأ بحكم سليمان باشا وانتهى بعزل  داود باشا من الولاية  في 1831م .
توالى على الحكم في عهد المماليك عشرة ولاة وقد اتسم عهدهم خلافا لما قبله من العهود بشدة الصراع والتنافس على الحكم فقد كان الولاة في قبل عهد المماليك يتم تعين الوالي منهم بفرمان يصدر من السلطان العثماني أي الباب العالي في إسطنبول ،في عهد المماليك صار الفرمان السلطاني قليل التأثير واحياناً بلا تأثير حيث كان التنازع بين المماليك هو المؤثر في اختيار الوالي ومن ثم اصدار الفرمان السلطاني ،فالمملوك الذي يمتلك القوة ويتغلب على بقية المنافسين من المماليك يجتمع حوله اعيان بغداد وعلماؤها ثم يكتبون عريضة الى السلطان العثماني يسترحمون منه ان يصدر فرمانه بمنح الولاية او (الوزارة) كما كانت تسمى الى المملوك صاحب الغلبة ،وقد جرت العادة عند نشوب الصراعات بينهم على الحكم تنتقل عدوى الصراعات الى أهالي بغداد حيث يستنجد كل فريق منهم بحلفائه من زعماء المحلات البغدادية ،ويمكن ارجاع سبب اشتراك المحلات البغدادية في صراعات السلطة هذه الى ان المتصارعين المماليك انفسهم نشأوا منذ طفولتهم في محلات بغداد وبذلك كانوا يختلفون عمن سبقهم من الولاة العثمانيين فقد كانوا من سكان بغداد بحكم نشاتهم فيها.
ومن الأمثلة على هذه الصراعات ما حدث بعد وفاة الوالي المملوكي عبد الله باشا في شتاء عام 1777م حدث فوضى عمت ارجاء بغداد لعدة اشهر بسبب التنافس بين المماليك على الحكم ثم انحصرالتنافس  بين شخصين هما محمد العجمي وإسماعيل آغا الكهية وانقسمت محلات بغداد الى فريقين متناحرين فقد وقفت محلات الفضل والمهدية والقراغول والميدان الى جانب محمد العجمي بالمقابل كانت محلات رأس القرية وباب الشيخ والشورجة تقف الى جانب إسماعيل آغا ،استمرت المعارك بين الطرفين قرابة الخمسة اشهر ولم يحسم الصراع الا بوصول حسن باشا الكركوكلي في أيار 1778م وهو يحمل الفرمان السلطاني بتعينه والياً على العراق .
ومن السمات الأخرى التي اتسم بها حكم المماليك في العراق ظهور دور ملحوظ للدول الاوربية في اسناد وترشيح الاغوات المماليك لولاية العراق ممن يجدون في تعينه تحقيق مكاسب لهم ورعاية مصالحهم الامر الذي ساعد في استمرار سلطة المماليك في العراق واضعاف السلطة العثمانية المباشرة عليه ،فكان تعيين سليمان باشا الكبير سنة 1780م بدعم المقيم البريطاني في العراق ،وقد تدخل المقيم البريطاني في اسناد الولاية الى خلفه علي باشا سنة 1802م ودُعمَ من قبل الفرنسيين سليمان باشا الملقب بالصغير للوصول الى الحكم سنة 1808م .
تقلبت الأوضاع في العراق خلال سنوات حكم المماليك في المجالات السياسية والاقتصادية كذلك الامن والاستقرار حسب قوة ونفوذ الوالي وعلاقته مع القبائل العربية من جهة وعلاقته مع الباب العالي في إسطنبول من جهة أخرى ،ففي عهد سليمان باشا (أبو ليلة )القوي الذي اتسم حكمه بالقوة والهيمنة على الولاية كان عهد رفاه ورخاء كما استطاع توحيد الولايات العراقية (ولاية بغداد وولاية البصرة) وسادت في عهده فترة من الهدوء والاستقرار.
كذلك اتصف عهد الوالي سليمان باشا الصغير(لقب بالصغير لكي يميز عن سلفه سليمان باشا الكبير)بتحسن الزراعة تحسناً كبيرا وارتفع المستوى الاقتصادي للعراق كثيراً وانشأ عدد من مصانع النسيج فزادت مداخيل العراق الى (اربع وعشرين الف كيس )وهذا المبلغ لم يصل اليه أي والي عثماني حكم العراق من قبل واهتم هذا الوالي بالتعليم حتى بلغت المدارس في عهده ثمان وعشرون مدرسة بعد ان كان التعليم مقتصراً على الجوامع والبيوت ،ونتيجة لسيطرته على الأوضاع المضطربة وغارات العشائر على المدن فقد ازدهرت التجارة .
كما اهتم اهتماما كبيرا ببناء المساجد وادامتها، ويعد عهد داوود باشا عهد اليقظة والنهضة الثقافي .
انتهى عصر المماليك في العراق بنهاية حكم المملوك الأخير داود باشا والذي سيكون لنا حديث آخر عنه في مقال آخر ،بنهاية هذا الوالي سنة 1831م انقضت ايامهم وكانت من العهود التاريخية في العهد العثماني .
بدأت النهاية عندما أراد السلطان محمود الثاني (1785م -1839م)إعادة هيبة الدولة العثمانية واجراء الإصلاحات فيها بعد ان انتشر فيها الفساد والضعف وان والي بغداد داود باشا نهج بسياسة مستقلة عن الدولة وتوقفت دفعات المبالغ المرسلة الى العاصمة من بغداد ،ارسل مبعوثه الى بغداد لمعرفة أحوال الولاية الذي قابله الوالي بكل حزم وشدة وبعد أيام وجدَ جثة هامدة ،كان لمقتل المبعوث صدى واسع في الاستانة وفي مختلف الولايات العثمانية فكان قرار الباب العالي انهاء حكم داود باشا مهما كان الثمن .
كلف السلطان محمود الثاني والي حلب علي رضا باشا بأعداد جيش كبير للهجوم على بغداد.في شباط 1831م كان علي رضا يفرض حصاره على بغداد يسانده في ذلك عدد كبير من العشائر، وفي داخل بغداد كان هناك عدوان آخران يزيدان المدينة بؤساً فقد فاض دجلة فيضاناً مدمراً وانشر الطاعون حاصداً الآلاف من سكانها ،فدخل الجيش العثماني بغداد يوم 14 أيلول 1831م بعد حصار طويل ثم احكم السيطرة عليها وعند استباب الامن وضع علي رضا خطته المتقنة للخلاص من المماليك فتظاهر في بادىء الامر بالرضا عنهم وولى بعظهم مناصب رفيعة .واخيراً حانت النهاية المأساوية عندما دعاهم مع جماعة من اعيان بغداد وعلمائها الى اجتماع بحجة الاستماع لقراءة الفرمان السلطاني الذي وصل مؤخراً من العاصمة إسطنبول وما ان شرب المدعوين القهوة   حتى انهال عليهم الرصاص من بنادق الجنود الالبان الذين كانوا على أهبة الاستعداد لتنفيذ المذبحة ،اما داود باشا فقد القي القبض عليه في وقت سابق وارسل الى إسطنبول وهناك صفح عنه السلطان وكان له فيما بعد شأن آخر .

  

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

956 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع