بين الشعائر والمقاصد

                                                    

                           د. محمد عياش الكبيسي


بين الشعائر والمقاصد

من كل فج عميق توافد ضيوف الرحمن يلبون نداء ربهم «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً»، قدموا من الحواضر العامرة ومن القرى النائية، من سفوح الجبال ومن بطون الوديان، من سواحل البحار ومن ضفاف الأنهار، اجتمعوا في بقعة واحدة، يطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، يقفون على عرفات ويبيتون بمزدلفة ثم ينحدرون إلى منى لرمي الجمرات، مناسك موحّدة ومتسلسلة، كل منسك يقودك إلى المنسك الذي يليه، كل ذلك في أيام معدودات لكنها في ميزان الله تعدل عبادة العمر كله، فأنت تصلّي كل يوم خمس مرات طيلة حياتك لتؤدّي ركناً واحداً من أركان الإسلام اسمه الصلاة، وتصوم رمضان من كل عام طيلة حياتك أيضاً لتؤدّي ركناً آخر اسمه الصوم، وتزكي أموالك كل عام طيلة حياتك أيضاً لتؤدي ركناً آخر اسمه الزكاة، بينما أنت في هذه الأيام المعدودات تستكمل ركناً كاملاً من أركان الإسلام وهو الحج، وليس عليك بعده شيء آخر إلا أن تتطوّع.
هذه المنزلة الكبيرة التي ميّز الله بها هذه الأيام المعدودات تدلّنا بالضرورة إلى حكمة عظيمة وغاية جليلة لا تتحقق إلا في هذه الأيام.
لا شك أن التقرب إلى الله تعالى بالحسنات والسعي لتكفير الزلات والسيئات هو غاية المسلم في كل عبادة، وهذا هو الذي يستحضره الناس عادة وهم يؤدّون ما افترضه الله عليهم، لكن كثيراً منهم يغفل عن معرفة السبب الذي ارتبط بهذه العبادة أو تلك حتى كانت الطريق الأقرب لتحقيق هذه الغاية، فالثواب الجزيل من الله تعالى على عمل ما لا بد أن يكون لميّزة جليلة في ذات هذا العمل، كما أن الوعيد بالعقاب الشديد على عمل ما مؤشّر على وجود ضرر كبير يتناسب مع كبر العقوبة.
إن الشكوى المستمرة من تعاظم ظاهرة التديّن الشكلي الذي يدفع بالناس للازدحام في المناسبات الدينية، مع ضعف في ثقافة الانسجام وتهاون في أداء الحقوق، ربما يرجع إلى هذه الثقافة المشوّهة التي جعلت الناس يفكّرون بتكثير الحسنات دون النظر إلى تحقيق مقاصد هذه العبادات في حياتهم وتعاملاتهم.
ومن أغرب ما سمعته من أحد الإخوة الدعاة وهو يحاول أن يحلل هذه الظاهرة الخطيرة، قال: «إن المتديّن اليوم يدفعه تديّنه للسلوك الخاطئ الذي نراه في معاملاته لأنه يعتقد أن كل ما يرتكبه من أخطاء وسيئات سيمحى عنه بهذه المناسبات مثل الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، وصوم عرفة، وتكرار الحج والعمرة.. إلخ، إنه يفهم قوله تعالى «إن الحسنات يذهبن السيئات» فهماً مقلوباً، فحسناته التي ينتظرها على حجه وعمرته وصومه وصلاته تشجعه على ارتكاب مزيد من الأخطاء بحق الآخرين»!
إذا كان هذا التحليل مصيباً فهو يعبّر -لا شك- عن مصيبة كبيرة في السلوك الديني المعاصر، ربما نحتاج إلى تفكير طويل لتشخيصه وملاحقة آثاره الخطيرة في مجتمعاتنا، وعلى مختلف الصُّعُد.
إن منظر المسلمين في هذه الأيام المباركة وفي مثيلاتها من أيام الخير وهم يتنافسون في أداء شعائرهم ومناسكهم منظر مبهج، لكن هذا الابتهاج لا يعفينا من مسؤولية العمل على تصحيح الصورة وتصويب المسيرة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

864 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع