د.صلاح رشيد الصالحي
الأسرة في بلاد الرافدين
إرث قديم تتوارثه الأجيال
في بلاد الرافدين العائلة غير واضحة فهي تدعى (منزل) ومن المتوقع أن الرجل يتحمل (بناء منزل) تتكون الاسرة من الأب (آبو) (بالاكدية abum) أو أبي (abi)، والأم أمو (بالاكدية ummu) وبالسومرية أما (ama)، والأولاد وهم الابن (بالسومرية دومو dumu) (وبالاكدية معرو māru) والابنة (بالسومرية دومو مانوس dumu.munus) (وبالاكدية معرتو mārtu) ، الاخوة (بالسومرية شيش šeš) (بالاكدية أخُ aḫu)، الاخت(بالاكدية أخاتو aḫātu) و(بالسومرية نين nin)، وقد تضم الأسرة اخوة الزوج واخواته وبعض العبيد والاماء، وتعمد الأسرة (الأسرة بالأكدية كمتو kimtu) على الاكثار من الذكور، وليس هناك وسيلة معينة لتحديد النسل، إلا أن الكاهنات في المعابد وخاصة الكاهنة العظمى يطلق عليها (الناديتو) يحرم عليها الانجاب، ونحن لا نعرف تلك الطرق لعدم الانجاب والتي استخدمت في المعابد ، وحتى إذا فشلن بمنع الحمل فهناك ذكر لولادة أطفال لهن، وهو عمل غير مرغوب فيه، ولهذا فان الاطفال الغير شرعيين كانوا يلقون في الشارع ليموتوا أو لتأكلهم الكلاب السائبة، ففي نص مسماري من بابل ذكر فيه أن رجلا اختطف طفلا من فم أحد الكلاب في الشارع.
اتصف نظام الأسرة العراقـية القديمة بكونه نظاماً ابوياً (Partiarchal)، فالأب بيده السلطة والصلاحيات في إدارة شؤون الأسرة فهو سيد الأسرة ويتمتع بسلطات واسعة على أفراد أسرته تشبه سلطة الملك على رعيته، وحقوقه ليست مطلقة وخاصة في مجتمع المدينة حيث كانت سلطة الاب تقل أو تكثر، وقد ورد في أحد الأمثال السومرية (أن المصائب تتضاعف على الرجل الذي لا يعيل زوجته أو أبنائه)، ولذا على الأب ان ينفق على اسرته ويوفر لها المسكن والمأكل ويحميها من الأخطار، وان يوفر لها سبل العيش والمال حتى عند غيابه، وكان تعدد الزوجات ممكننا لدى الطبقة الحاكمة والامراء في اتخاذ زوجات ثانويات (اسيرتو) وعلى ما يبدو الزواج من واحدة فقط كان مستحسنا لدى الآلهة والمجتمع أيضا، ماعدا في حالات معينة مثل عدم الانجاب أو مرض الزوجة فيضطر الزوج اتخاذ زوجة ثانية، ولا نملك شواهد على وجود جناح خاص للحريم (الحرملك) في قصور بلاد بابل الملكية ، ومع هذا لدينا وظيفة في البلاط الاشوري وهي شاكينتو(Šakintu) وتعني (مديرة الحريم) أو حرفيا كلمة (šakintu تستعمل للمونث) وللمذكر (شاكنو šakānu) بمعنى (تعين، وضع) وتحديدا (تعين امرأة) وبشكل عام مسؤولة عن الملكات في قصور الإمبراطورية الاشورية الحديثة، أما المذكر (šakānu) فيدل على حاكم أقليم، أو ضابط عسكري ، وبذلك فأن واجبات المذكر في هذه المهنة تختلف عن واجبات ودور الانثى في مهنة (شاكينتو) .
شيد بعض الملوك الاشوريين ربما بتأثير الحوريين دورا للبغاء وسنوا لها قوانين خاصة كما وجد ما يماثلها في بعض مدن سوريا أيضا، فقد وجدت العاهرات في الأماكن العامة في المدينة مثل الحانة الميناء أو تحت سور المدينة، وترتدي المومسات نوع خاص من الملابس مثل سترة من الجلد لجذب الرجال، كما وصف نص آشوري العاهرة بأنها تحل ملابسها الداخلية من أجل إعداد نفسها للعملاء، ومنعت العاهرات بموجب القانون الآشوري من ارتداء الحجاب في الخارج مثل النساء المتزوجات المحترمات، وفي الكثير من الأحيان وصفت البغي بأنها تنظر من نافذة وقد وجدت مثل هذا الوصف في التجهيزات والأثاث ويشار اليها باسم (امرأة في نافذة).
اما المرأة فإنها تتحمل مسؤوليات اتجاه زوجها كزوجة واتجاه أولادها كأم، فتقدم لهم العناية والتربية منذ ولادتهم حتى يكبروا، فتاتي الأم بالمرتبة الثانية بعد الأب، ولكن مع هذا مكانتها الاجتماعية مساوية للزوج ولها حق العمل طوال بقائه على قيد الحياة ولكن بعد اخذ موافقة الزوج، وكانت تدير عند غيابه المحلات التجارية كما هو واضح من الرسائل والوثائق المكتشف، وكان المرأة البابلية في العهد البابلي القديم لها الحق بالبيع، والشراء، والتبني، والارث، وطلب الطلاق، وشاهدة في المحاكم، وقاضية، وتعمل بالتجارة، وكاتبة، ... وانطلاقا من الاحكام الالهية والقانونية لها الحق في أن تحترم من قبل ابنائها البالغين بصفتها أم لهم، وإذا قال الابن (لست ابي أو لست امي فانه يطرد من البيت ويحرم من الإرث ويقطع لسانه).
ويظهر من المواد القانونية الخاصة بالزواج وجود حالات كانت المرأة تباع من قبل ابيها في العصور المبكرة، ولكن زواج البيع الحقيقي انتهى تماما – على الأقل- في الالفية الثالثة ق.م، ورغم ذلك يبدو أن المرأة لم تكن تتمتع بحقوق المساواة التامة مع الرجل في هذا المجال، ويعكس قانون الطلاق يوضح الإجحاف بحق المرأة العقيم التي لا ولد لها ، فقد كان بمقدور الرجل أن يطلق زوجته، ولكن بشرط احترام حقوقها في الممتلكات الموجودة، وكان من الممكن بالطبع أن يكلفه ذلك كثيرا إذا كان له ابناء منها، بل وغالبا ما حكم عليه بدفع غرامة إضافية .
اما المرأة التي تقرر الانفصال عن زوجها فكانت تعرض نفسها لعقوبات صارمة قد تصل إلى عقوبة الاعدام، وهناك قانون اشوري من العهد الوسيط (1100) ق.م حددت حقوق المرأة وبشكل قاس، منها ارتداء الحجاب ، وتتحمل المسؤولية اذا دخلت بيت مشبوه وسمعته سيئة، ولا يحق لها السفر مع غرباء فقط مع الاب أو الاخ أو الزوج، وفي العهد البابلي القديم إذا أراد الزوج أن يطلق زوجته يقول لها (أنتِ لست زوجتي) أو (يقطع حواشي ثوبها) تعبيرا عن قطع الرباط الذي يشده إليها، وإذا ارادت المرأة طلاق زوجها تقول له (أنتَ لستَ زوجي) ، وهناك وثيقتان (1300-1200) ق.م تشير إلى انه كان من الشائع في بلاد اشور حصول اتفاق بين الرجل والمرأة على فك الزواج مع دفع كلاهما غرامة وهذا يعني المساواة في المعاملة.
كان انجاب الاطفال (طفل) (يليدُ (illidu) أو وليد كما في اللغة العربية) في مقدمة اغراض الزواج، وقد حثت النصوص المسمارية في بعض الأمثال على الزواج والإنجاب ( تزوج حسب اختيارك، وانجب طفلاً كما يرغب به قلبك) ونقرأ في نص اخر (عسى ان يمتلأ بيتك بالتوائم) و (يستطيع الرجل أن يتزوج عددا من النساء، ولكن إنجاب الأطفال نعمة لا تهبها إلا الآلهة)، وقد وصلتنا نصوص تعبر عن الاهتمام بالأم ووليدها وتتنبأ بجنس المولود أيضا كما في النص الاتي: (إذا كانت حلمتا ثدي امرأة حامل مصفرة فإنها ستسقط ما في رحمها، إذا كانت حلمتا ثدي المرأة الحامل منكمشتين فإنها لن تتم أجل حملها، فإذا زال عنها ستتم أجل حملها، إذا كانت حلمتا ثدي امرأة حامل قاتم السواد فإنها حامل بولد، وإذا كانت حلمتا ثدي امرأة حامل أحمر اللون فإنها حامل بنت).
يبدو ان الذكور كانوا مرغوبين ومفضلين كورثة، ويتمتع الابن البكر بمزايا خاصة، وهذا لا يعني اطلاقا ان الاناث كن مهملات (الفتاة بالاكدية بتولتا Batultu) بمعنى (بتول) (العذراء)، وكان الزواج من فتاة عذراء مفضل ومرغوب اكثر من المطلقة أو الأرملة، وكان الرجل يستنكر الزواج من الصغيرات سنا: (أنا لا أخذ زوجة عمرها ثلاث سنوات، كما يفعل غيري)، كما وإننا لا نعرف إلا القليل عن المبادئ الاساسية لتربية الاطفال، وقد أجازت الحقوق الاجتماعية للأب ان ينذر أحد أولاده ويكرسه للخدمة في أحد المعابد، ويظهر أن الاهل في بعض الاحيان يرغمون إلى بيع اطفالهم ولا سيما في حالة القحط والمجاعة وهي حالات سيئة جدا فإذا مرت على الأب ظروف اقتصادية صعبة لجأ إلى الدين ويرهن أحد أولاده عند الدائن لحين سداد الدين، وقد نصت عقود القروض من العصر الآشوري الحديث على جواز رهن أولاد المدين وزوجته وأملاكه وعبيده، كما خولت القوانين الأب أن يبيع أولاده وزوجته لإنقاذهم من الجوع والموت فيما اذا تعرض الأب إلى خطر الفقر أو بسبب الأزمات الاقتصادية السيئة أو بسبب عصيانهم، أن الكثير من المفاهيم الأسرية التي كانت سائدة في العصور القديمة مازلنا نتوارثها والى الان.
3680 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع