ما بعد استفتاء إقليم كردستان

                                                                                              

                               مينا العريبي

ما بعد استفتاء إقليم كردستان

كل فترة يمر العراق بأزمة نتصورها الأصعب والأكثر تعقيداً، من فاجعة سيطرة تنظيم داعش على نحو ثلث أراضي العراق، إلى قرار البرلمان إقالة عدد من الوزراء من الحكومة العراقية، إلى أزمة الفساد التي تنقل لنا كل عدة أسابيع فساداً يندر مثيله في العالم. واليوم نشهد أزمة جديدة مع استفتاء إقليم كردستان حول الاستقلال. لنترك العاطفة جانباً - على الرغم من أنها كثيراً ما تحرك السياسة والقرارات قصيرة النظر في عالمنا العربي - ونركز على ما يعنيه الاستفتاء وما يأتي بعده.

الاستفتاء نفسه ليس المشكلة، فهو ليس ملزماً قانونياً، لا للعراق ولا حتى لإقليم كردستان. كما أنه ليس الغاية، بل وسيلة لتحقيق أهداف سياسية قد توصل للاستقلال، ولكنه دليل جديد على التراجع في العملية السياسية العراقية التي كانت من المفترض أن تكون مبنية على التوافق السياسي. وهنا، القيادات الكردية ليست بمفردها. القرارات أحادية الجانب والمبنية على التصعيد باتت تتصدر النهج العام في السياسة العراقية مع اقتراب انتهاء المعارك ضد «داعش» واتخاذ كل فصيل مسلح خطوات لبسط سيطرته بالقوة على أراضٍ عراقية من جهة، واقتراب موعد الانتخابات التشريعية السنة المقبلة من جهة أخرى. كل طرف سياسي يريد أن يفرض أمراً واقعاً يساعده على كسب رأسمال سياسي للمرحلة المقبلة.

ولكن استفتاء إقليم كردستان له تبعات أوسع وأخطر على العراق والمنطقة، فهو أولاً يدل على تفكيك العقد السياسي بين القوى الرئيسية التي حكمت العراق منذ 2003، وهي الحزبان الكرديان والأحزاب الدينية الشيعية، من دون أن تتبلور تحالفات جديدة يمكن الارتكاز عليها لسير العملية السياسية خلال المرحلة المقبلة. كما أنه يحرك عواطف الشارع العراقي - بكل أطيافه - ويعزز التفرقة، بين من يريد الاستقلال من الأكراد ويرى نفسه مجبراً على البقاء في العراق، ومن يريد إبقاء إقليم كردستان ضمن العراق ويعتقد أن رفض الإقليم لذلك أشبه بالفخ. انعدام الأصوات التي تقرب بين الطرفين خلال هذه الفترة الحاسمة سيجعل من الصعب رأب الصدع. وأما بالنسبة للمنطقة، فهو قد يجر إلى تحركات تركية وإيرانية اقتصادية أو سياسية - أو الأسوأ من ذلك عسكرية - يؤدي إلى تصعيد من الصعب تقدير تبعاته. فعندما تكون منطقة مثقلة بالسلاح وفيها مجموعات داخلية وخارجية لإشهار سلاحها وتريد انتهاز أي فرصة لزيادة الاضطرابات، عندها قد تكون العواقب وخيمة.

كل من لديه أبسط فهم للواقع الكردي يعلم أن إقليم كردستان محاصر من قبل دول جوار لا تريد استقلاله. وليس من المستغرب أن تتخذ تركيا وإيران وسوريا الموقف المتشدد تجاه خطوة الاستفتاء، لمنع الخطوة المقبلة، وهي إعلان موعد للاستقلال. وأما الحكومة العراقية، فمن غير المتوقع أو المنطقي ألا ترد على هذه الخطوة. إلا أن إعلان القيادة الكردية إجراء الاستفتاء كان منذ يوليو (تموز) الماضي، وربما لو بذلت جهود حثيثة من جميع الأطراف حينها لتأجيل الاستفتاء أو الخروج بصيغة مرضية، لكان الواقع مختلفاً اليوم، ولكن كالعادة في العراق، التحركات تأتي في اللحظة الأخيرة.

كثيرون يتساءلون علامَ تبني القيادة الكردية قرارها لإجراء استفتاء تعارضه الولايات المتحدة والأمم المتحدة، كما أن جميع الدول النافذة في المنطقة تعارض علناً أو سراً هذا التحرك. هل المسألة فقط لحسابات سياسية داخلية، أم أن القرار كان لأن الوقت لن يكون أبداً مواتياً للاستقلال لاحقاً، فالإعلان عن هذه الرغبة استغلال لظرف معين يمر به العراق وسط فوضى الحرب ضد «داعش» وضعف سوريا والمتقلبات الشرق أوسطية، لكن الساسة الأكراد لا نسمع منهم شيئاً سوى أن الخطوة جاءت بعد فشل التفاهم مع بغداد.

إلا أنه خلال الأشهر الماضية، شهد العراق تلاحماً بين أطيافه في وقوفه ضد «داعش»، يجمعه عدو واحد... وكانت هناك مشاعر جدية من الامتنان لإقليم كردستان لاستقباله النازحين من الموصل والرمادي وغيرها من مناطق منكوبة من جراء جرائم «داعش». كما أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بذل جهوداً لحلحلة كثير من الملفات السياسية العالقة. وللمرة الأولى كانت قوات الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية تقاتلان جنباً إلى جنب ضد «داعش». ولكن هذه التطورات لم تسهم في تهدئة الأوضاع مع تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية وابتعاد وجهات النظر حول كيفية العمل معاً لمستقبل العراق.

من المستغرب أن تُفاجأ الولايات المتحدة، التي أعطت السلطات الكردية في العراق كل الصلاحيات والدعم السياسي، الآن من قرار أربيل باتخاذ خطوة جدية نحو الاستقلال. فواشنطن مهدت لهذه المرحلة، كما تمهد اليوم للتطورات في الشمال السوري الذي أجرى انتخابات محلية خلال الأيام الماضية.

أما مرحلة ما بعد الاستفتاء، فالعراق بأشد الحاجة لأصوات حكيمة لحسم كيفية التعايش معاً أو رسم طريق ودية للانفصال يتفق عليها الطرفان. ويجب أن تكون هذه الأصوات عراقية، فلا يمكن لطهران أو أنقرة أن تقومان بدور حميد هنا، ولكلتيهما مصالحها في العراق. الخطوة الأولى المطلوبة التهدئة والابتعاد عن إصدار قرارات متطرفة قد تشكل أعباء تصعب معالجتها لاحقاً. على الحكومة العراقية أن تتعامل مع جميع من يقيم في إقليم كردستان على أنه من أبناء العراق وأن تخاطبه مباشرة للمرحلة المقبلة، بدلاً من زيادة عزلته. كما أن على القيادة الكردية أن تظهر رغبتها في بناء جسور مع بغداد بعد التصعيد غير المسبوق خلال الأيام والأسابيع الماضية. هنا يمكن للأمم المتحدة أن تلعب دوراً جوهرياً لحماية حدود العراق وكل من داخل تلك الحدود. فالكلام عن حصار اقتصادي ضد من يسكن في إقليم كردستان يشكل تحركاً غير عادل على شعب لا يستحق مزيداً من المعاناة. إن الخطوات المقبلة يجب أن تبقي الإنسان - إن كان عربياً أو كردياً أو تركمانياً أو لديه أي انتماء آخر - في قلب القرار. فلا حاجة لمزيد من الدماء والقتال - ورفع السلاح لن يجلب إلا الدمار.

-المصدر:الشرق الأوسط

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1075 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع