فقدان الثقة في الدولة العربية

                                                       

                               د. علي محمد فخرو

فقدان الثقة في الدولة العربية

بعد استقلال كل الأقطار العربية وخروجها من تحت عباءة الاستعمار الغربي، ومن ثم ولادة الدولة الوطنية الحديثة، آمن الانسان العربي بتلك الدولة وعبر عن حبه وولائه للوطن بشتى الصور. لقد تولُد ذلك الايمان ونبع ذلك الحب من اعتقاد راسخ باستطاعة تلك الدولة الفتية أن تقوم على الأقل بمهام أساسية ثلاث:
أولا: المحافظة على استقلال وحرية الوطن، وعدم السماح بعودة الاستعمار في أيُ شكل كان.
ثانيا: القيام بمسؤوليات الرعاية الاجتماعية في حقول التعليم والصحة والاسكان والتوظيف، والتأكد من حصول المواطن على نصيبه العادل من ثروة الوطن بما في ذلك دخل شهري معقول كاف له ولعائلته.
ثالثا: المحافظة على الأمان والسلم الأهلي والتعددية المجتمعية من خلال استعمال القوة الشرعية القانونية والمساواة في المواطنة.
وكان المواطن العربي على استعداد أن يغض الطرف عن كثير من حقوقه ومطالبه الأخرى، على الأقل مؤقتا، اذا تأكد من قيام سلطات الدولة بتلك المهام الثلاث بكفاءة وعدالة قانونية وتساوي في الفرص الى أبعد الحدود الممكنة. ولعلُ من أبرز وأخطر المطالب التي قبل المواطنون بتأجيلها عن طيب خاطر كان مطلب الديموقراطية السياسية، كمبادئ وكوسائل لادارة دفة الحكم من جهة وتنظيم المجتمع المدني من جهة أخرى. كان واضحاً منذ البداية أن تحقيق تلك المطالب الثلاث الكبرى في واقع الانسان العربي اليومي يتطلب، على الأقل، عمليات اصلاحية كبرى، ان لم تكن في شكل تغييرات ثورية جذرية، كما طالب بها البعض. لكن مرت السنون والعقود لتنكشف الحقيقة الصادمة التي يراها المواطن العربي اليوم جلية أمامه:
فشل الغالبية الساحقة من الدول العربية في حماية استقلالها الوطني في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، بعد أن عادت الجيوش ومنحت التسهيلات وعقدت المعاهدات وهيمنت عواصم الخارج على ما يجري في الداخل. وفشل الغالبية الساحقة من بناء تنمية انسانية مستدامة خصوصا بعد أن أصبح القرار الاقتصادي العربي تابعا لقوى الاقتصاد العولمي، وبعد ان تراجعت خدمات الرعاية الاجتماعية العامة لصالح الخدمات الخاصة الجشعة. وفشل الغالبية الساحقة في المحافظة على سلمية التعددية الاجتماعية وأمن المواطن العادي، وذلك بعد أن دخلت المجتمعات العربية في صراعات طائفية مجنونة، وبعد أن صعدت البربرية الجهادية الاسلامية الارهابية بتواطؤ خارجي مع الداخل لتنشر في طول وعرض بلاد العرب الرعب والممارسات المتوحشة باسم قراءات متخلفة متزمتة كاذبة لدين الرحمة والقسط والميزان والأخوة البشرية.
اليوم تواجه الدولة العربية الحديثة أكبر تحد أمامها: تحدي ارجاع ثقة المواطن العربي في قدراتها على حمل المسؤوليات المناطة بها، خصوصا بعد أن فشلت محاولاته الأخيرة عبر السنوات السبع الماضية، ليكون له دور مشارك فاعل في حمل تلك المسؤوليات وذلك من خلال الانتقال من النظام الاستبدادي الفاسد الى نظام ديموقراطي سياسي اقتصادي عادل.
هنا نحتاج أن نطرح هذ السؤال: هل أن الأنظمة السياسية العربية تعي خطورة ومعاني ونتائج ظاهرة فقدان ثقة المواطن في الدولة التي ينتمي اليها؟ هل تعي أن وصول المواطنين الى تلك الحالة النفسية - الشعورية - العقلية من الضياع ومن فقدان المرجعية الوطنية سيعني فتح صندوق بندورا الشهير المملوء بالشياطين والأشباح وكل أنواع الشرور؟ هل تعي أن المواطن سيتجه الى أي جهة خارجية أو داخلية تعده، سواء بصدق أو بكذب، بقدرتها على أن تحل محل الدولة في توفير متطلباته الحياتية الضرورية؟ وعند ذاك من يلوم المواطن اذا استجار بالقوى الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية بدلا من سلطات دولته؟ بل من سيلومه اذا توجه لكل أنواع القوى الخارجية لمساعدته أو حمايته أو اغرائه ليخدم أهدافها السياسية والاقتصادية الامبريالية أو لينخرط في ألاعيب ومؤامرات أجهزة استخباراتها المتعددة؟
واذا لم يفعل المواطن أيا من تلك الحماقات ألن ينكفئ على ذاته ليبالغ الى حدود الهوس في ممارسة التخلُص من كل التزاماته تجاه الدولة والمجتمع، وبعده في ممارسة حريته واستقلاله الذاتي، حتى ولو قادت تلك الممارسات الى المجون الاجتماعي، وسقوط الأخلاق العامة، وانتشار الفساد الذممي؟ ولن يحتاج المواطن العادي الى أن يمعن فكره ويشحذ همته ليصل الى ذلك الانفلات الذاتي المجنون. اذ انه سيجد معينه فيما تقدمه الثقافة العولمية من سلعنه متزايدة نهمة لكل شيء، كما هي الحال الآن في مجالات الرياضة والفنون والموسيقى والعلاقات الأسرية والاستهلاك النهم لكل المغريات المادية من غذاء وشراب ولباس ومخدرات.
ليس هنا مجال الدخول في تفاصيل ما يجب أن تفعله الدولة العربية لاسترجاع ثقة المواطن بها وبقدراتها. فهذا موضوع من صميم مسؤوليات جهات الفكر والبحوث وشتى العلوم. وهو ايضا من صميم مسؤوليات المؤسسات السياسية في المجتمعات المدنية التي آن لها أن تخرج من حالة السُبات الفكري السياسي الذي تعيشه لتتناغم مع حالات التغيير الكبرى التي تعيشها مجتمعات بلاد العرب. ان الهدف هو جلب انتباه أنظمة الحكم العربية الى وجود وتصاعد وتعقُد ظاهرة عدم الثقة تلك، والى ضرورة القيام بمسؤولياتها السياسية والأخلاقية في معالجة تلك الظاهرة، من خلال معالجة أسبابها. لقد وصلنا الى مرحلة: اما استرجاع الثقة في الدولة العربية الحديثة أو مواجهة الجحيم بشياطينه وأشباحه وحرائقه.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1168 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع