د. علي محمد فخرو
عندما تنقلب الليبرالية إلى ثرثرة
من خلال احدى المحطات الاذاعية تكلم أحدهم عن أشكال كثيرة من الحريات التي يريدُ ممارستها في مجتمعه العربي. غالبية تلك الحريات التي رغب صاحبنا في أن يراها متوفرة في المجتمعات العربية كانت معقولة، وهي على أي حال مقبولة ومنصوص عليها في مختلف اعلانات حقوق الانسان العالمية، وكذلك في دساتير الغالبية الساحقة من الدول العربية.
لكن لفتت نظري احدى الحريات التي عبر صاحبنا عن حسرته لغيابها في مجتمعات العرب وعبر عن بالغ سعادته فيما لو استطاع ممارستها يوما ما دون اعتراض من سلطة رسمية أو من جهة دينية مجتمعية. انها حرية أكل تفاحة أو موزة علنا بينما هو يمشي في الشارع، أثناء شهر رمضان، ودون استنكار من الجمهور أو أية سلطة. بدون حصول ذلك الحدث الرمزي التقدمي، كما أوحت نبرة الحزن واليأس في صوت صاحبنا، ستكون مجتمعاتنا العربية لاتزال تقاوم الحداثة وترفض أخذ أهم ركائز العولمة الثقافية المتمثلة في الحرية الشخصية غير المقيدُة وفي الفردانية المطلقة المستقلة المتحررة من كل قيد.
ليس ما سمعته بالصوت الفردي العابر، اذ هو مثال على الطريقة التي يتعامل بها الكثير من الليبراليين العرب الجدد مع موضوع بالغ الحساسية عند الغالبية الساحقة من أفراد أمتهم: موضوع المقدس الديني، بل وأي مقدس آخر.
لنطرح أولا على أنفسنا السؤال التالي: هل حقا أن حرية وفردانية صاحبنا المتحدث، غير المنضبطة، والمستفزة للآخرين، لن تكتمل الا بحقه المطلق في عدم اعطاء المقدس الديني الجمعي أي اعتبار؟ بل واعتباره قيدا اجتماعيا يجب تحطيمه؟
ثم، لننزل الى مستوى العبث والرغبات الطفولية عند صاحبنا ونسأله: هل يستطيع المواطن الفرنسي أو الأميركي، على سبيل المثال، أن يمشي عاريا في الشوارع، دون أن يقبض عليه ويوضع في السجن أو المصح العقلي؟ أليس لأنه يكسر ضوابط الحياء العام ويستفزُ عرفا مقدسا تعارفت عليه أغلبية المواطنين وبالتالي تقيد حريته وفردانيته الطفولية العابثة؟
لنذكر أنفسنا، نحن الذين نعيش في بلاد العرب ذات الأغلبية الساحقة المسلمة، بأن المقدس الديني الاسلامي لا يقتصر فقط على الذات الالهية المتعالية السامية الطاهرة وانما يشمل أيضا الأقوال الصادرة عن تلك الذات والأفعال المطبقة لها. فالمقدس اذن هو مكون مفصلي لأي دين، والمساس به هو موضوع بالغ الحساسية في كل المجتمعات البشرية.
من هنا فانه، مع التسليم الكامل لأهمية حرية التعبير القولي والرمزي، لابدُ من ضوابط عاقلة تمنع خرق ستار المقدسات الدينية، وتجنب المجتمعات صراعات الاستفزاز العبثي الذي يقود الى تدمير السلم الأهلي، ومن ثم الى تشويه الحياة السياسية الديموقراطية المطلوبة بالحاح في كل بلاد العرب.
من الضروري أن يدرك الاخوة الليبراليون العرب أن ما يقال لهم من أن الليبرالية الديموقراطية تقوم على الحق المطلق لأي فرد في أن يعبر أو يفعل ما يشاء حتى ولو استفز وأثار غضب كل الناس، هو قول تحت النقد والمراجعة والتجاوز، حتى في الدول الغربية، رافعة ألوية الليبرالية.
فاذا كانت الاساءة لشخص الفرد، بالغمز أو التشهير أو الاستفزاز المتعمد أو التحقير للكرامة، تقود الى محاكم القضاء والغرامات وأحيانا الى السجون، فان الغرب الليبرالي بدأ يدرك أن قول وفعل كل تلك القبائح ضد معتقدات الانسان الدينية والأيديولوجية والثقافية هي الأخرى تحتاج الى ضوابط وتقنين، خصوصا اذا كانت تؤدي الى أوجاع نفسية وعاطفية أو تحقير للكرامة الانسانية.
ليكن واضحا أننا هنا لا نطالب الليبراليين وغير الليبراليين باعتناق هذا المعتقد أو ذاك، ولا بممارسة تلك الشعائر أو تلك، ذلك أن القرآن الكريم قد حسم ذلك الموضوع («فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، «لكم دينكم ولي دين»، «لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي») وانما نذكرهم بأن المقدس، أي مقدس، يصبح مع الوقت جزءا مكونا من البنيات العاطفية والنفسية والذهنية لدى الأفراد والمجتمعات، وأن التعامل معه يجب أن يخضع لمقاييس قيمية وأخلاقية ومجتمعية وقانونية، وليس لبهلوانيات كلامية وأفعالية وانتهازيات سياسية واعلامية.
لنذكر الليبراليين العرب بأن النضال من أجل الحريات يجب أن يخضع لمنطق الأولويات، فهناك حريات أهم بكثير من حريات أخرى، خصوصا اذا وصل الابتذال الى اعتبار قمة الحرية وتألقها يكمن في أكل تفاحة علنا ابان شهر رمضان المقدس عند الملايين العرب المسلمين. نحن هنا لا نفعل أكثر من ممارسة المعارك الدونكشوتية العبثية المتوهمة.
اذا كان الأفراد الليبراليون يريدون من سلطات الدولة الحديثة احترام وحماية حرياتهم الشخصية، فانهم كذلك يحتاجون أن يطالبوا الدولة باحترام وحماية حريات المجتمع الجمعية وحق الجماعات في أن تحترم مقدساتهم المتجذرة في وجدانهم وكيانهم الروحي.
نحن نعلم أن الموضوع بالغ التعقيد، ويتضمن اوجها متقابلة ومتناقضة، غير أنه من الحكمة والتعقل أن لا نضيف الى الصراعات المجنونة المثيرة للحرائق الكثيرة في الجحيم الذي يعيشه العرب الآن، أن نضيف حرائق دينية جديدة باسم ايديولوجية الليبرالية، التي هي الأخرى مختلف حول الكثير من مكوَناتها عندنا وعند من وضعوها ونشروها.
نرجو من صاحبنا المتحدث، وممن يوافقونه الرأي، أن يضعوا حاليا تفاحهم وموزهم في ثلاجات التجميد، وأن يشاركوا الناس ابان شهور رمضان في أكل الثُريد بعد أذان المغرب. فموضوع الحرية هو خارج هذه الثرثرة.
1112 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع