خالد القشطيني
لغة العيون
قلما يكذب الإنجليز، ولكنهم يسكتون. والسكوت نوع من الكذب الرقيق. قلما ينطقون بشيء، ولكنهم يغمزون. وهذا الأسلوب متغلغل في جل أنماط الحياة الإنجليزية. يرمش الزوج بجفنيه، فتفهم الزوجة أنه يقول: «أريد أن أخرج هذه الليلة». وتصمت الزوجة، فيفهم أنها تقول: «لا مانع لديّ». ثم تنفجر العلاقة في الأخير، وينتهيان أمام قاضي الطلاق، فلا يجد القاضي أمامه كلمة أو ورقة واحدة تهديه للحقيقة، ولكنه هو الآخر يعتمد على لغة العيون. ينظر في عيني الرجل وفي عيني المرأة، ويراقب ارتجاف الأجفان وزوغان الحدقة، فيعرف من الكاذب ومن الصادق. القاضي هو الآخر خبير بلغة الغمز والصمت.
والغمز والصمت هو المؤشر الأعظم لنظام المرور في بريطانيا. أنظر في عيني الشرطي، فيفهم سؤالي: أيمكنني الوقوف هنا؟ يوسع حدقة عينه، فأفهم: «كلا، لا يمكن»، أو يدير نظراته إلى الجانب الآخر، فأفهمه يقول: «افعل ما يعجبك»! يحدث اصطدام، فيحضر الشرطي للمحكمة ويقول صادقاً ويحلف اليمين بأنه لم يقل لك أي شيء. وعندئذ، على القاضي أن يحدق في عينيه ليعرف الحقيقة.
وهذا هو السر في التباين بين مدرسة القضاء الفرنسي ومدرسة القضاء الإنجليزي؛ يكون التركيز في القضاء الفرنسي على الكلمة المكتوبة وتفسيرها، في حين يقع التركيز في القضاء الإنجليزي على قناعة القاضي والمحلفين. والسبب واضح، فلا يمكن للمشرع أو محرر العقد أن يضع نصاً لرموش العين وغمزاتها. ولهذا أيضاً يصعب عليك أن تحصل على رأي قاطع من محام إنجليزي. يقول لك: تتوقف النتيجة على الانطباع الذي ستتركه في ذهن القاضي. ولهذا فالنصيحة لكل من تلقيه الأقدار أمام محكمة إنجليزية هي: «اِنسَ كل شيء، وخلي بالك على عينيك»!
هذا ما يجري أيضاً على أعلى مستويات السياسة والدبلوماسية البريطانية. التاريخ السياسي لهذا البلد غاص بالألغاز والقضايا الغامضة. خذ منها وعد بلفور، والمقصود بعبارة «الوطن القومي لليهود». هل عنى بلفور بذلك إقامة دولة يهودية، وفهم الصهاينة منه أن الهدف هو كذلك، وقضى الباحثون أعواماً طويلة يحاولون ويجادلون حول هذه النقطة؟ والسبب في ذلك أن الإنجليز يتحركون بلغة العيون، لغة الغمز واللمز، ولم يسجل أحد كيف زاغت عين بلفور عندما وقع على النص.
في بوتقة غموض مشابه، وقع الباحثون في قيام الطائرات البريطانية بمحق مدينة دريزدن في ألمانيا. فلا يوجد نص على الأمر بذلك. ظهر أن تشرشل غمز بعينيه لآمر القوة الجوية البريطانية، ففهم منه أن اذهبوا وامحقوا هذه المدينة عن بكرة أبيها. وكذا كان أمر إعدام ستالين للأسرى السوفيات «الخونة» الذين وقعوا أسرى بيد الإنجليز. كيف وافق مكميلان على تسليمهم لستالين؟ لا توجد وثيقة عن ذلك. ويظهر أن آمر الحرس نظر في وجه مكميلان، ففهم من عينيه: «نعم، سلمهم».
التاريخ مليء بأسرار العيون السكسونية. كان منها أخيراً تصريحاتهم بضرب الأسد، إذا ثبت أنه استعمل الغازات السامة. هذا شيء ثبت عدة مرات، ولكن يلوح لي أنهم ينتظرون غمزة عين من تيريزا ماي.
990 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع