آرا دمبكجيان
نفط كركوك و اتفاقية سايكس - بيكو
كانت كركوك و لا تزال من أهم المناطق الملتهبة في العراق و من أكثر الأراضي المتنازع عليها من قبل فئات متعددة تريد الأستحواذ على مكامن ثرواتها تنفيذاً لجداول داخلية و أخرى جيو- سياسية مفروضة عليهم من الخارج.
تحوي كركوك على احتياطي ضخم من النفط يقدَّر بتسعة بلايين برميل و أُقيمت على أراضيها عدد من المنشآت الأستراتيجية مثل قاعدة عسكرية و مطار عسكري ناهيك عن حقول النفط المكتشفَة فيها مع أول بئر نفطية في 1927 و التي تشتعل نارها الأزلية منذ 2500 سنة.
يذكر الدكتور هنري آستارجيان في كتابه The Struggle for Kirkuk الذي كان لي الشرف بترجمته الى اللغة العربية تحت عنوان "الصراع على كركوك":
"كانت كركوك،عندما كنتُ أعيش فيها (لغاية منتصف الستينات – آ.د.)، مدينة مزدهرة بسكانها البالغ عددهم ربع مليون نسمة، على الرغم من عدم دقة هذا الرقم. كانت غالبية سكانها من التركمان، أو هكذا كانوا يدَّعون. و أما الأكراد الذين كانوا على الأرجح الأغلبية السكانية، فقد عاشوا فيها منذ ألف سنة، و تظاهروا بأنهم من التركمان بسبب قرون من الأحتلال العثماني للمنطقة. و بحسب (موسوعة العلم Encyclopedia of Science) للباحث العثماني الشهير شمس الدين سامي، فإن ثلاثة أرباع سكان كركوك كانوا من الأكراد، و الربع المتبقي من التركمان."
بعد هذه النبذة الموجزة، نرجع الى موضوعنا الأصلي.
إن اتفاقية سايكس-بيكو التي قسَّمت أوصال الدولة العثمانية، "رجل أوروبا المريض"، أساء المؤرخون فهم حقيقتها و الظروف التي نشأت بسببها. يعتبر التقسيم عملاً عشوائياً أُقيم حسب متطلبات رسم الخرائط الأستعمارية. تم التوقيع عليها في منتصف الحرب العالمية الأولى، أي قبل انتهائها، لتقسيم ممتلكات الدول المنهزمة في الحرب، كما هي العادة الدارجة. كانت نية فرنسا و بريطانيا العظمى الحصول على نفط بلاد ما بين النهرين.
كانت هاتان الدولتان مع ألمانيا و الدولة العثمانية و الولايات المتحدة الأمريكية تعرف عن حقول النفط العملاقة الموجودة في الشرق الأوسط فكوَّنت أئتلافاً لتقسيم النفط حتى قبل قيام الحرب العالمية الأولى. قامت فرنسا و انكلترا من خلال الأتفاقية المذكورة بالتخطيط الفعلي لأستيعاب حصة ألمانيا و بناء خطوط أنابيب لنقل النفط الى موانئ البحر الأبيض المتوسط. خافت فرنسا و بريطانيا العظمى من انحلال التحالف بينهما في احد الأيام، فلم ترغبا المشاركة في خطوط الأنابيب. و اذا نظرنا الى الخطط المنفصلة لمد خطوط الأنابيب الناقلة للنفط، نرى ان خطة فرنسا كانت تبدأ بمد الأنابيب من مدينة كركوك الى طرابلس في لبنان، بينما خطة البريطانيين تبدأ من كركوك نحو حيفا. توضِّح هاتان الخطتان كيف قسَّم السير مارك سايكس و فرانسوا جورج-بيكو المنطقة.
يذكر المؤرخون ان سايكس ذكر الى وزارة الحرب البريطانية: "أحب ان أرسم خطا من حرف "e" من "Acre"، أي عكا، الى آخر حرف "k" في Kirkuk"، دليلا على ان الحدود التي رسمها في الأتفاقية المعروفة اعتباطية و قابلة للتحكيم. و لكنه، في الواقع، كان يصف ما في بال الحكومة البريطانية الطريق الذي يجب ان تسلكه خطوط الأنابيب البريطانية من كركوك. و علَّقَ هربرت كيتشنر، وزير الخارجية البريطانية في أثناء الحرب و هو يصف تصريح سايكس بطريقة أخرى، اذ قال: "أعتقد ان السير مارك سايكس يقصد مدينة حيفا Haifa الساحلية بدلا من عكا. و هذا ما حصل بالفعل بعد انتهاء الحرب اذ جاءت نقاط ترسيم الحدود لتُعرِّفَ العراق، كدولة منتجة للنفط، و الأردن و سوريا كدول ترانزيت حيث تمر خطوط الأنابيب عبر أراضيهما، الى لبنان و فلسطين (قبل تأسيس دولة اسرائيل) كدول لتصدير النفط من ميناء حيفا.
بدأت دول الحلفاء، و بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، بالبحث عن الأمتيازات النفطية في الشرق الأوسط. منحت هذه الأمتيازات حقوق النفط في المنطقة الى شركة النفط العراقية Iraq Petroleum Company – IPC. و على الرغم من أسم الشركة لم يكن للعراق أي شيء فيها غير الأسم؛ كانت الشركة أئتلافاً بين Anglo – Persian Oil Company (و التي صارت تدعى BP)، و مؤسسة كالوست كولبنكيان، و شركة Compagnie Francais des Petroles (و دُعيت بعدها Total)، و شركة Standard Oil’s Near East Development Corporation (التي اصبحت ExxonMobil)، و شركة Royal Dutch Shell. كانت حصة شركة النفط الأنكلو- فارسية في بداية الأمر 47.5% و تنازلت بريطانيا عن نصفها الى الشركة الفرنسية مقابل تنازل فرنسا عن حصتها في نفط عين زالة بعد أن أصبحت الموصل من حصة فرنسا بموجب أتفاقية سايكس – بيكو. فأصبحت حصة كل شركة نفط 23.75% و مجموعها 95%. و أحتفظ السيد كالوست كولبنكيان بحصة 5% الباقية. و للمعلومة التاريخية ان الأخير فرض على شركة IPC أن يكون 5% من العاملين في النفط في الشركة من الأرمن.
وضمنت الأتفاقيات المُبرمة بين هذه الشركات عدم امكانية سكان الدول التي يوجد في باطن أراضيها النفط الأدعاء بملكيته. و لهذا السبب حصلت دول المنطقة على أقل المنافع من نفطها.
القضية الكردية كمثال على وضع المنطقة بعد سايكس – بيكو
الجدير بالذكر هنا ان مد خطوط انابيب النفط زاد من سعير ألتهاب المنطقة. بعد محاولات عديدة لتخريب خطوط الأنابيب من قِبل قبيلة أهل الجبل اليمنية و الثوار الفلسطينيين و المجموعات المسلحة اليمينية الصهيونية قامت شركات النفط مع الحكومات الغربية بتكثبف عمليات المراقبة و أقامت مناطق عسكرية للدفاع عنها، و في الوقت نفسه شجَّعت الخلافات العنصرية و الطائفية في المنطقة لتقزيم الحركات ذات النزعة القومية و الشيوعية.
قادت أعمال الفوضى و الأضطرابات في الشرق الأوسط الكثير من المراقبين ليتسائلوا إن كانت أتفاقية سايكس – بيكو قد وصلت الى نهايتها. فعلى سبيل المثال أعلن الصحفي الإيرلندي باتريك كوكبرن من العراق عن نهاية الأتفاقية. و التساؤل الأفضل هو امكانية تحوير الأتفاقية لينتج عنها استقرار أفضل للمنطقة، إذ ان مفتاح الحل يقع في تصفية أمتيازات النفط.
للأكراد رغبات عارمة في الحكم الذاتي تمتد الى عقود في الماضي، و يعتبر نطاق سلطاتهم على النفط في مواضعهم نوعا من السيادة على المصادر و ليس على الأراضي، كأنموذج للشرق الأوسط ما بعد سايكس – بيكو؛ لأن سايكس – بيكو قسَّمت الأراضي تحت اسم استخراج النفط و تصديره الى اوروبا، تأكيدا على أن مُلكية النفط هي الخطوة الأولى للتخلص من ميراث الأدارات الأستعمارية و التسلط الأستبدابي.
و اذا فكَّرنا بطريقة مثالية، فعلى الشعوب في انحاء الشرق الأوسط ان تمتلك حصصا من المصادر المحلية و ان يكون لها القول في بيع الثروة و استخدامها و المحافظة عليها. و بطبيعة الحال، لا تزال السلطات المحلية بحاجة الى اشتراك الشركات العالمية في اعمال الحفر و التصفية و تصدير النفط؛ و لكن عقودا مثل هذه ستعمل بصورة أفضل عندما تُدار من قِبل الأحتياجات المناطقية بدلا من مصالح الشركات الكبرى و منافعها.
الملك غازي يفتتح خطوط الأنابيب الواصلة الى البحر الأبيض المتوسط و منه الى العالم.
926 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع