الأستاذ المساعد الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
ملكات بابليات في بلاط المملكة الحثية (بلاد الاناضول)
الختم (اليمين): ختم الملكة العظيمة مالني-كال، العلامة المسمارية في وسط الختم تلفظ كال (Kal) مثل الكلمة السومرية كال (Gal) وتعني (عظيم)، وفي الصف الأعلى في الدائرة الوسطية تلفظ مالني-كال (Malni-gal) وهو اسم الملكة، وفي الصف الأسفل تلفظ الملكة العظيمة (MUNUS–LUGAL–GAL)، الختم (الوسط): طبعة ختم الملك سوبيلوليوما وزوجته تاوانانا البابلية، الدائرتين بالخط المسماري أسماء أسلاف الملك وألقابهم، في وسط الدائرة اسم الملك بالهيروغليفية وفي الأعلى الشمس المجنحة شعار الأسرة الملكية في عهد المملكة الحديثة، الختم (اليسار): طبعة ختم الملك مورسيلي الثاني ومعه الملكة مالني-كال بالخط الهيروغليفي، في الأعلى الشمس المجنحة شعار العائلة المالكة الحثية وشكل السكين في الأسفل تعني لي (li) وهو الحرف الأخير من اسم مورسيلي.
1- الأميرة البابلية مالني-كال (Malni-gal) أو(Malnigal)
من خلال النقوش والأختام تظهر ثلاث ملكات في حياة الملك الحثي سوبيلوليوما (1344-1322) ق.م في فترة حكمة وهن: الملكة دادو-خيبا (Dadu-ḫeppa) وهي أم سوبيلوليوما وزوجه أبيه تودحليا الثالث، ثم الملكة خنتي (Ḫenti) التي أصبحت تاوانانا(Tawananna) (السيدة الأولى) بعد وفاة الملكة الأم فهي الزوجة الأولى المعروفة لكن علاقتها بالملك سوبيلوليوما الأول(Suppiluliuma) لم تعمر طويلا، فبعد بضعة سنين من ارتقاء سوبيلوليوما العرش اختفت خنتي تماما من الأختام والنقوش واتخذ الملك زوجة جديدة هي ابنة ملك بابل، ومنحت الملكة البابلية لقب تاوانانا (السيدة الأولى ) إضافة إلى اسمها البابلي مالني-كال.
لقد ظهر أسم الملكة البابلية مع زوجها في عدة طبعات أختام منها ما يعود إلى حلف عقده سوبيلوليوما مع ملك اوغاريت ويدعى نيقمادو الثاني (Niqmaddu) ويؤرخ إلى الحملة الأولى على سوريا والمعاهدة عليها ختم سوبيلوليوما مع نقش باللغة الأكدية المسمارية تقرأ (ختم سوبيلوليوما، الملك العظيم، ملك بلاد حاتتي، حبيب إله العاصفة ختم تاوانانا، الملكة العظيمة أبنه ملك بابل)، يعتقد أن الاميرة مالني-كال (Malni-gal) هي ابنة برنابرياش الثاني (1370- 1347) ق.م (Brrnaburias) ملك بابل الكاشي ولكن لا يوجد نص بابلي أشار اليها، وزواج سوبيلوليوما من ابنة ملك بابل هو إقامة حلف مع العائلة الكاشية الحاكمة في بابل، ربما هناك دافع إستراتيجي، لضمان على الأقل الحياد البابلي، أو الحصول على دعم بابل في حملته ضد ميتاني، والأكثر من هذا التحالف الحثي-الكاشي كان ضد مملكة آشور واطماعها في ممتلكات ميتاني وشرق الفرات، يبقى مصير الملكة خنتي (Henti) لغزا؟ مع هذا هناك شظية لرقيم طيني يذكر سطوراً بأن سوبيلوليوما نفى زوجته خانتي إلى بلاد اخياوا (Aḫḫiyawa) كعقاب لها من قبل زوجها، الاحتمال الأكثر قبولا أن زواجه من الأميرة البابلية ربما كان السبب وراء إبعاد خانتي، وبذلك أثبت الملك أنه لا يرحم حتى أعضاء من عائلته أذا وقفوا في طريق انجازاته وأهدافه.
ومع كل ما يقال فان خانتي أنجبت لسوبيلوليوما خمسة أبناء ارنوواندا (Arnuwanda) وتلبينو (Telipinu) وبياسيلي (Piyassili) (فيما بعد يدعى سارري-كوشوخ (Sarri-Kusu وزانانزا(Zannanza) ومورسيلي (Mursili) وما عدا الأخير فكلهم وصلوا مرحلة الرجولة خلال فترة حكم أبيهم ووقفوا إلى جانبه في قيادة الحملات العسكرية أو في إدارة المقاطعات المفتوحة، وأما أخو سوبيلوليوما ويدعى زيدا (Zida) فقد عين رئيس الحرس الشخصي.
كانت للملكة مالني-كال دور مهم في البلاط الحثي وخاصة في الشؤون السياسية للمملكة، وأصبحت تشكل قوة في البيت الملكي، وعلى ما يبدو أن قوة شخصيتها ازدادت في نهاية حياة سوبيلوليوما، واتهمت بأنها مستبدة في آرائها وتبذيرها وتفضيلها العادات البابلية الأجنبية حتى في المملكة بدون استشارة من زوجها، هذه الاتهامات كانت مصدر قلق لمورسيلي الثاني أبن زوجها الراحل الذي استلم العرش بعد وفاة ابيه (1321-1295) ق.م، والذي آن الأوان أن يسيطر لا على المملكة فقط، لكن على الشؤون الداخلية لعائلته الملكية، ففي البداية لم يتخذ موقفاً حاداً منها على العكس عثر على أسمه مرافق لأسمها في عدة طبعات لختم، وأعترف بمركزها السابق كملكة (تاوانانا) في العائلة الملكية، كما عينت في منصب كهنوتي (أم الآلهة) (Šiwanzanni-) بما فيها من امتيازات منها تقديم القرابين للآلهة، وتقديم النذور، وإدارة أراضي المعبد، وحتى السيطرة على ممتلكات الآلهة في الدولة، ويذكر مورسيلي الثاني بأنه هو وأخيه احترموا تاوانانا ولم يحاولوا إذلالها: (عندما أصبح أبي إله (بمعنى مات)، أخي ارنوواندا، وأنا، لم نؤذيها، ولا يمكن إذلالها أطلاقا..)، من المحتمل أن غياب الملك مورسيلي في حملاته خارج العاصمة أعطى الفرصة إلى تاوانانا مالني-كال أن تزداد تسلط على من هم حولها، فقد أزالت من القصر كل ثرواته الثمينة والأشياء المحبوبة إلى نفس الملك والعائلة ووهبتها إلى الذين يحققون رغباتها، بل أن مورسيلي يزيد في اتهاماته بأنها تصرفت بأملاك المعابد المقدسة، وهذه تهمة تغضب الآلهة بالدرجة الأولى ومع هذا لم يتخذ ضدها أي إجراء وأشار مورسيلي في النص: (..بعض الأشياء جلبت من بلاد شانخارا (Šanḫara) (بمعنى بابل، بالتوراة سهل شنعار)،... لم تترك شيء... بيت أبي هي حطمته...). وهكذا مارست التسلط الكامل على الأسرة الملكية بواسطة مركزها الديني وتهديدها بالغضب المقدس، وأوامرها العديدة بمعاقبة فتيات العائلة المالكة فخلقت جواً من الرعب بين العائلة والناس باستغلالها منصبها الكهنوتي.
تزوج مورسيلي من أميرة تدعى كاشولاويا(Gassulawiya)، وظهر اسمها إلى جانب أسم الملك على طبعة ختم، ويبدو انه كان سعيداً بهذا الزواج فهي الزوجة الأولى، لكنه فيما بعد أصبح قلقاً عندما أصيبت بمرض غامض، في البداية نسب المرض إلى الإله ليلواني (Lelwani) (آلهة العالم السفلي) لذا فسر مرضها كعقوبة من الإله بسبب إهمالها الواجبات المقدسة، أو قد يكون السبب روح شريرة استقرت في جسدها، ومع هذا كل الصلوات للآلهة لم تنفع وتوفيت كاشولاويا في السنة التاسعة من حكم زوجها، ومع حزن الملك الشديد عليها رمى مسؤولية موتها على زوجة ابيه مالني-كال متهماً إياها باستعمال السحر الأسود، (عوقبتُ بموت زوجتي، هي السبب لقد قتلتها)، وبوفاة زوجته أصبح لمورسيلي الثاني السبب للانتقام من زوجة أبيه فاستشار وحي الآلهة، فجاء الرد سريعاً بإعدامها، لكنه كان يخشى ان أعدمها تغضب الآلهة وترسل طاعوناً يدمر البلاد، فاكتفى بعزلها من منصبها الكهنوتي (أم الآلهة) Šiwanzanni)) ثم تم نفيها خارج حاتوشا: (أنا لم أعدمها، لكني عزلتها من منصب الكاهنة (Šiwanzanni)... وأنا أعطيتها مكاناً للسكن لا شيء تفتقد إليه، عندها الطعام والشراب، كل شيء تحت تصرفها... هي على قيد الحياة، هي تنظر إلى الشمس في السماء بعيونها، وهي تأكل خبزاً كأي شخص حي، بالنسبة لي فقط بهذا العقاب عاقبتها...).
نجد في العلاقات الاجتماعية نوع من الكراهية والحقد بين الابن وزوجة أبيه أو بين الزوج وأم زوجته (حماته)، أو بين الزوجة وأم زوجها (حماتها) هي من القيم الاجتماعية القديمة جداً، فالنصوص القديمة لا تصور الحياة الاجتماعية لعامة الناس حتى يتسنى لنا أن نلم بأفكار تلك المجتمعات القديمة وعندما تأتي نصوص ملكية تتناول قيم الاجتماعية للأسرة الملكية عندها نستطيع أن نبني أفكارنا على المجتمع المدني في حاتوشا أو أي مكان آخر من الشرق الادنى القديم، على أية حال عثر على نص مسماري يعود للملك حاتوسيلي الثالث (1267-1237) ق.م وكان في وقت محاكمة مالني-كال فتى يحمل الواح التحقيق للقضاة، ذكر اذلال ابيه للملكة البابلية: (عندما كانت محاكمة تاوانانا في القصر، أبي أذل الملكة... بالنسبة لي، أنا من المستحيل أن أتورط في إذلال تاوانانا...)، لم تذكر مالني-كال فيما بعد في النصوص المسمارية الحثية اطلاقا.
2-الزوجة البابلية (الأميرة العظيمة)
من أجل الدعم السياسي لولي العهد لابد من زوجة تليق به تقف إلى جانبه عند اعتلائه العرش، ولذلك اتخذت الترتيبات من قبل والدة الملك تودحليا الرابع الحثي (1237-1209) ق.م وتدعى بودو-خيبا (Pudu-ḫepa) (معنى اسمها من تحب الإلهة خيبا) والتي أوضحتها في إحدى رسائلها الطويلة إلى الفرعون رعمسيس الثاني وطلبت منه أن يترقب زواجه الوشيك من ابنتها، كما أشارت إلى زيجتين بين أمراء حثيين وزوجات أجنبيات:
(ابنة ملك بابل وابنة ملك امورو التي أنا، الملكة، أنجزتهما، ليس هما سبب المديح لي من قبل شعب حاتتي، هكذا أنا، أخذت زوجة لابني أجنبية، ابنة ملك بابل العظيم...).
نستنتج من هذه الفقرات أن ابنة ملك امورو قد تزوجت من الأخ الأكبر لتودحليا وهو نيريك كايلي والعروس هي مجرد ابنة ملك بلاد امورو التابعة للعرش الحثي، بعكس ابنة ملك بابل كانت من نصيب تودحليا الرابع، هذا الترتيب في الزيجات كان من تخطيط بودوخيبا السيدة الأولى في القصر، وتعتبر هذه الزيجات نوع من الاتحادات بين الأسر الملكية فهي من سمات عصر البرونز حيث تساعد على تقوية العلاقات الدولية بين دول الشرق الأدنى، فالعائلتين الملكيتين الحثية والبابلية سبق وأن ارتبطت بزواج حاتوسيلي الثالث من ابنة الملك البابلي لكننا لا نعرف اسم العروس لا بالبابلي ولا بالحثي، ثم تلاها زواج ولدي الملك حاتوسيلي من ابنتي الملكين بابل وامورو، لكن هذه الفرحة لم تدخل قلب رعمسيس الثاني وخاصة عند ذكر ملك بابل بلقب (الملك العظيم) لان الفرعون لا يرغب بوصف ملك بابل بهذا اللقب، فهناك رد سريع ومقتضب من بودوخيبا إلى الفرعون تذكر فيه: ( إذا أنت تقول ( ملك بابل ليس بالملك العظيم)، إذن أنت لا تعرف منزلة بابل)
هذا الرد كان قبل عام(1246) ق.م بمعنى أخر قبل زواج ابنة حاتوسيلي الثالث إلى الفرعون رعمسيس الثاني الذي كما يبدو يضمر كراهية للملك كودور-انليل الكاشي (Kudur-Enlil) الذي حكم بابل ما بين (1254-1246) ق.م والذي عرف عنه تعاليه وقلة دبلوماسيته اتجاه مصر قياسا إلى الملك كدشمان- انليل الثاني(Kadashman-Enlil) الذي كان مقربا بشكل أو بأخر إلى الملك حاتوسيلي الثالث، وهكذا أصبحت الأميرة (لا نعرف اسمها البابلي ولم تذكرها النصوص البابلية) زوجة الملك تودحليا الرابع الحثي، وإذا كان رعمسيس يرفض أن يصرح بان ملك بابل هو الملك العظيم إلا أن البلاط الحثي أستمر في تميز حاكم بابل بالملك العظيم حتى سقوط بابل على يد الملك الآشوري توكلتي ننورتا الأول(Tukulti- Ninurta).
ومن هنا يتضح أن أسبابا تقف وراء التحالف القائم على الزواج بين الأسرتين الملكيتين الحثية والبابلية وهي:
1. يعمل التحالف القائم على الروابط الأسرية بين الدولتين على الوقوف في وجه التهديد الأشوري، وقد تنبه حاتوسيلي الثالث منذ فترة مبكرة إلى ضرورة تقوية الدولتين عن طريق المصاهرة بينهما ضد الخطر الاشوري.
2. تساعد المصاهرة بين الأسرتين الملكيتين على تقوية مركز ومكانة تودحليا الرابع في وجه أخيه نيريك كايلي الذي كان من نصيبه زوجة أمورية من مرتبة اقل.
3. إقامة حلف ثلاثي يضم المملكة الحثية في الشمال ومملكة بابل في الشرق ومملكة مصر في الغرب عن طريق المصاهرة الملكية، ويهدف إلى التعاون بينهم لضمان السلام في سوريا.
أن الترتيب الذي سارت عليه الملكة بودو-خيبا في تهيئة المصاهرة خلق لها الكثير من المتاعب وتشير إلى وجود نزاعات داخل البلاط الملكي تورطت فيه أمراء وأميرات في البلاط أدت إلى انقسام داخل صفوف الأسرة الملكية بين مجموعة تساند الملكة ألام التي استمرت تمارس سلطتها الرسمية بعد موت زوجها ولها دور كبير في البلاط وتعمل بكل طاقاتها على أن تبقى صاحبة النفوذ في كل ما يدور في البلاط الملكي، وهذا خلق لها أعداء يحيكون المؤامرات ضدها، وعلى ما يبدو إن قائدة المعارضين للملكة الأم تحمل لقب دومو-سال- كال(Dumu-sal-GAL) الأميرة العظيمة وهي زوجة تودحليا الرابع البابلية، وبمساندة الاميرة عمتللا(Ammattalla) والاميرة باتيا (Pattiya) والأخيرة تظهر أنها تتمتع بمركز مهم جدا في البلاط الملكي ربما هي إحدى زوجات والد تودحليا الرابع، ومع هذا تمكنت بودو-خيبا بكل ما تملك من قوة وسلطة أن تشكل جبهة في جانب ضد زوجة تودحليا البابلية ومن يؤيدها في جانب آخر، نحن لا نعرف نتيجة الصراع الملكي، لكن الاحتمال الأكثر قبولا نفي بودو-خيبا من القصر، واعتقد إن الأميرات البابليات يحاولن دائماً إثبات قدراتهن الشخصية بالدخول في صراع ضد أفراد الأسرة الملكية للاستحواذ على منصب السيدة الأولى، فقد سبق وان دخلت نفس النزاع زوجة سوبيلوليوما البابلية التي مر ذكرها سابقا.
يظهر أن انتصار الزوجة البابلية لم يكن طويل الأمد فقد عادت بودو-خيبا إلى قصرها وهي أكثر قوة بل ازداد تدخلها في الشؤون الخارجية والداخلية للمملكة طيلة فترة حكم ولدها تودحليا، وتوقفت النصوص الحثية عن ذكر الاميرة البابلية التي لقبت باسم دومو-سال-كال تاركة السيطرة بيد الملكة ا
2380 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع