عبد السلام صبحي طه
باحث آثاري
ألسيادة المائية على منابع الانهار في العراق القديم
طبعة ختم اسطواني تُظهر اله المياه و الخلق ( اِيا او انكي ) و دجلة والفرات يتدفقان من كتفيه
"لتكن تلك المياه نقية ابدا ، نظيفة و ساطعة بالضوء"
يرد هذا المقطع ضمن ترتيلة الى إله المياه والخلق السومري أنكي التي جاء فيها " أن الإله انكي وقف في النهر وحوّل ماءه المالح الى عذب ثم استدار من هناك ليحدق عبر الفرات، فانتصب مفعما بالشهوة مثل ثور هائج ورفع عضوه، ليقذف برغبته التي عبأت دجلة بالمياه المتدفقة".
إرتبط وجود العراق بالماء منذ فجر التاريخ، فإسم جنوبه السومري كان يعني بلاد سادة القصب (الأهوار)، وتلاه بيث نهرايم (بيت نهرين) بالآرامية، فميسوبوتاميا بالإغريقية ثم العراق. وعُرف في كتب الرحالة العرب بأرض السواد كناية عن خصوبة أرضه التي حمل لها شرياناها الخالدان ، دجلة والفرات، منذ الأزل طمى الخصوبة السوداء وأجنّة الخير الخضراء، فمنحهما الفكر العراقي القديم مكانة مقدسة. تذكر قصة الخليقة البابلية ( الاينوما ايليش) أن الماء البدئي هو أصل الخلق الكوني بنوعيه العذب (المذكر- آبسو) والمالح (المؤنث- تيامات)، ومن جسد الأنثى خُلقَ النهران، فولادتهما كانت على يد مرودخ، ملك الالهة، وابن اله المياه الحلوة أنكي، إذ حال إنتصاره على الإلهة الأم تيامات التي شطر جسدها الى نصفين صنع منهما الأرض والسماء، ثم إقتلع عينيها وغرزهما في جبال طوروس ليتدفق منهما دجلة والفرات. تُسمّى دجلة بالسومرية إدجنا و ايدجلا و يعني السريع الجارف وبالاكدية إيدجلات ودجلاتو ومنها حداقل في التوراة، أما الفرات فمن الصيغة السومرية القديمة بورانن- بوروننا وبالاكدية بوراتم و بوراتو ويعني الرافد العذب.
الصورة :" تيامات" و دجلة والفلرات ينبعان من مآقي عينيها الفنان العراقي علي آل تاجر من وحي قصة الخلق البابلية( أينوما ايلش ).
هاجس الأمن المائي في العراق القديم
وفي ذات الأساطير يرد أن الآلهة شرعت بالعمل الشاق على الارض وأخذت بشق مجرى الفرات أولاً ثم تلاه دجلة وروافدهما، وشقوا قنوات الري ليصلحوا الأرض ويقوموا بزراعتها ثم خلقوا البشر ليتحملوا نير العمل الشاق عنهم بعد ذلك. إرتقى النهران مقاماً دينياً مقدساً، وتغلغل هذا الفهم من ُبعدٍ فكريٍ الى منهج سياسي. إعتبر ملوك العراق القديم من السومريين والأكديين والبابليين وصولاً الى الآشوريين أن أعالي حوضي دجلة والفرات وروافدهما في الأناضول تحمل أهمية روحية و سياسية. لذلك، حرصوا على إنشاء الحاميات العسكرية لتأمين موارد المياه لنهر دجلة، فكانوا يحرصون على زيارتها ليتعمدوا بمياهها ويغسلون اسلحتهم فيها كنوع من طقس قديم موروث، ثم يقدم الملك بنفسه الأضاحي للآلهة ويقيم المآدب الفخمة إحتفالاً بالإنتصار على الأعداء وتطهير مياه دجلة والفرات من اي تدنيس قد تلحقه ممارسات الاعداء بها.
أقام العراقيون حصونهم على ضفتي النهرين من المنبع شمالاً باتجاه المصب جنوباً لحماية المجرى والأراضي من حوله. ولأن الآلهة، بحسب عقائدهم، شقّت مجرى النهرين وحفرت الاقنية ونظّمت الري فأن المحافظة عليها ضمن الحدود السياسية لبلاد النهرين كانت أولوية ستراتيجية ومسؤولية سيادية تحفظ المقام الديني المقدس الذي بارك الارض وشرايينها منذ عصور حضارية موغلة بالقدم ترقى الى زمن سرجون الاكدي (القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد)، الذي قاد جنوده الى قلب الأناضول لحماية القوافل التجارية الأكدية وصولاً الى البحر الأعلى (البحر الأبيض المتوسط). كان حوض الفرات بذات الأهمية كحوض دجلة، ولا أدل على ذلك من الحامية الأكدية لحفيده العاهل العظيم (نرام سين) في تل براك على أحد روافد نهر الخابور.
نقش العاهل الاشوري توكلتي ابيل ايشارا الاول على جدران كهف أحد منابع نهر دجلة في ديار بكر - الاناضول
يُعد نهر بيركلن أحد روافد نهر دجلة حيث يتدفق من سلسلة كهوف طبيعية وسط بيئة وعرة ومعقدة تضاريسياً، وأهمها كهف كورخو الذي عدّه أهل العراق القدماء والمؤرخون اليونانيون والبلدانيون العرب منبعاً لدجلة ويقع الى الشمال من آميدي أو عاميدي (منطقة دياربكرالحالية). ترك ملوك آشور مجموعة نقوش وبجانب بعضها كتابات مسمارية على الجدران الخارجية لتلك الكهوف، وأشاروا الى الموقع والاحداث التي وقعت فيها. من بينها نقش ألعاهل توكلتي ابل ايشَرّا الأول (تيجلابليزر) من العصر الأشوري الوسيط (القرن الثاني عشر قبل الميلاد)، وهو أول ملك آشوري يأمر بنحت صورته وتسجيل مآثره في أعالي دجلة.
قاد العاهل الاشوري الشهير شلمانو أشريد الثالث (شلمنصر858- 824 ق.م) حملات على منابع دجلة في الاناضول، وكان هاجس الامن المائي حاضراً لديه وبقوة الى الحد الذي جعله يطلق على نفسه لقب (مكتشف منابع دجلة والفرات )، وأن يقود حملات في أعالي حوض النهرين حيث المنابع، وهناك أمر بوضع نقشه وتدوين مآثره. يرد في حولياته "أخضعت تحت قدمي أراضي كلزانُ (شمال شرق العراق ) وخوبوشكيا (سهل خاني شمال ايران) من منابع دجلة الى منابع الفرات من البحر في ارض زاموأ الذي (في الداخل) الى البحر في أراضي الكلديين".
وفي المسلة السوداء الشهيرة ( الصورة المقابلة ) التي يعود تاريخها الى سنة 826 ق م، يرد نصاً على لسان ذات الملك "في السنة السابعة من أعتلائي العرش...زحفت حتى "ريش عيني شا-إيدجلات" (راس نبع دجلة اشارة الى المكان التي تنبع منه المياه)، فغسلت أسلحة آشور فيها. قدمت الأضاحي لآلهتي وبسطت مأدبة للأحتفال.. وأمرت بنحت صورتي الملكية الرائعة ودوّنت عليها عبارات الثناء لآشور.
في شاهد اخر عثرنا علي لصفائح برونزية غلفت البوابات الخشبية الكبيرة لقصره في مدينة ( بلاوات – وهو تل بلوات في قضاء الحمدانية الحالي – محافظة نينوى )، نجد تفصيلة لاحدى تلك الحملات ، حيث يُشاهد الجنود وهم عند مدخل احدىالمغارات التي ينبع منها رافد لنهر دجلة وهم منشغلون بتقديم الاضاحي و نحر الذبائح امام الملك او احد موظفيه قربانا لمنبع النهر المقدس ( دجلة )، وهذه البوابات محفوظة حاليا في المتحف البريطاني.
تفصيلة من بوابة بلاوات – قصر العاهل الاشوري شلمانو اشريد الثالث في تل بلوات ( امغور انليل ) – محافظة نينوى
كان للعقيدة الدينية النهرينية دوراً أساسياً في صياغة العقل السياسي العراقي القديم على طول تاريخه، ولذا كانت الوحدة السياسية لسومر وأكد، او بابل أو آشور لاحقاً، مظهراً من مظاهرها، وإنحصرت ما بين منابع دجلة والفرات حتى مصبهما و الضفاف التي من حولهما، وهذا ما منح سكان البلد شعوراً بوحدة الكيان السياسي و شجّع حكامه على الاستمرار بما قام به أسلافهم من من تأمين المنابع والإهتمام بشق القنوات وشبكات الري، ومن إستخدام أفضل للموارد التي هي هبة الآلهة المقدسة لذوي الرؤوس السوداء ( شعب بلاد النهرين ).
الگاردينيا: نرحب بالأستاذ عبدالسلام صبحي طه على هذه المادة الرائعة ونرجو الاستمرار في الكتابة الينا ، فحدائقنا اجمل بوجودكم.
831 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع