الدكتور مليح صالح شكر
سوالف بعثية !
أحدثت أحداث يوم ٢٣ شباط ١٩٦٦ في دمشق هزة عنيفة في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي ومنظماته الحزبية في الدول العربية ، ومنظماته الطلابية في مختلف الدول الأجنبية .
وبلا شك لقد حظيت التغيرات التي أطاحت بالقيادة التقليدية للحزب بتأييد واسع النطاق ، لكن بعض التنظيمات الحزبية ترددت في اتخاذ الموقف الحزبي المباشر قبل المزيد من التداول ، أو لأنها كانت ما تزال موالية لنهج ميشيل عفلق.
ومع أن البعثيين العراقيين عبروا عن تأييد عريض لقرارات القيادة القومية الجديدة في سوريا ، الا أن موقفاً مركزياً لم يتخذ من قبل قيادة الحزب بالرغم من ان قيادات فرعية وقياديين في بغداد والفروع الاخرى والمنظمات المهنية الحزبية بدأت في تنظيمات منفصلة عن التنظيم الرئيسي الذي يقوده أحمد حسن البكر الأمين القطري في العراق .
لابد من الإشارة الى الاستعداد النفسي لدى قيادات وقواعد الحزب للانضمام لأي تشكيل حزبي يأتي خلفاً لتنظيمات سابقة شهدها التنظيم البعثي بعد تشرين الثاني عام ١٩٦٣ عندما خسر البعث سلطته في العراق، ومنها لجنة تنظيم القطر ، والمؤتمرون، ومن ثم البعث اليساري.
وأتضح في العراق أن الانشقاق واقع لا محالة عندما
عقد البعثيون مؤتمراً قطرياً أستثنائياً في قصر الشيخ عبد الرحمن السهيل في منطقة عكركوف في أبي غريب لمناقشة موقف التنظيم في العراق من أحداث ٢٣ شباط ١٩٦٦في دمشق .
وقبل الحديث عن ما هو متوفر من مناقشات ذلك المؤتمر ، أقول للتاريخ أن صاحب هذا القصر عبد الرحمن السهيل هو شقيق طالب السهيل الذي تعرض للاغتيال في بيروت عام ١٩٩٤واتهمت عدة أطراف آنذاك المخابرات العراقية به .
وتم اختيار قصر السهيل مكاناً لعقد مؤتمر قطري نتيجة جهود قالت بعض المصادر أن سهيل السهيل أحد الكوادر البعثية في حينه قد بذلها لضمان أستخدام هذا القصر لعقد المؤتمر.
وقد أنضم سهيل السهيل مبكراً الى الجناح المؤيد لقيادة ٢٣ شباط في دمشق وعاش سنوات هنالك حتى عاد الى بغداد في ظروف اخرى.
ويقول شهود عيان لذلك المؤتمر القطري الاستثنائي أنه كان واضحاً أن قاعدة عريضة من بعثي العراق تؤيد احداث ٢٣ شباط السورية ، وأن قيادات من فرع بغداد وفروع أخرى والتنظيمات المهنية قد حسمت أمرها بتأييد توجهات القيادة الجديدة في دمشق .
ومن مشاهير البعثيين الذين حضروا ذلك المؤتمر ، أحمد حسن البكر الذي اكد الشهود انه أدار الجلسة بهدوء وبدون استفزاز لمؤيدي الاتجاه الاخر ، وحضر أيضاً عبد الله سلوم السامرائي ، والدكتور محمد عمار الراوي الاستاذ في كلية العلوم، والدكتور فؤاد شاكر مصطفى الطبيب الاخصاصي بالتحذير، والدكتور محمود الحمصي الاقتصادي، وصدام حسين ، وشكري صبري الحديثي، وصلاح عمر العلي، ومحي عبد الحسين ، وسلمان عبد الله ،وعبد الستار عبد الرزاق، وباقر ياسين، وجابر الموسوي عن تنظيمات البصرة كانا متواجدين في بغداد ،
وحضر ايضاً عبد الخالق السامرائي ،واحمد طه العزوز ، وسمير عزيز النجم ، وطه الجزراوي، وعزة الدوري ، ولَم يتأكد لي حضور جعفر قاسم حمودي أو سهيل السهيل الذي دبّر أصلاً هذا القصر العائد لآل السهيل شيوخ بني تميم لعقد المؤتمر.
ومن المفارقات ان القيادة القومية أوفدت الى القيادة القطرية في العراق قبل هذا المؤتمر موفداً ، هو أحد أعضائها كامل حسين ، فلم يتدبر القياديون عام ١٩٦٦ مكاناً آمناً لعقد الاجتماع معه ، وبعد التداول مع البكر، أتصل صلاح عمر العلي بعمه الصحفي المعروف شاكر علي التكريتي الذي وافق على عقد الاجتماع مع الموفد السوري في داره بمنطقة السعدون في بغداد ، وهو كما هو الحال مع الشيخ عبد الرحمن السهيل لم تكن لديه علاقة بالحزب.
ولم تتوفر تاريخياً أية تفاصيل عن مداولات المؤتمرين لكن أتضح فيما بعد أن المحافظين داخل المؤتمر لعبوا لعبة تسويف الأمور وعدم اتخاذ موقف مؤيد او معارض لأحداث دمشق حتى يتسنى للتنظيم في العراق معرفة التفاصيل كاملة .
وأوفد المؤتمر وفداً حزبياً قيل ان اكثرية أعضائه ممن لهم موقف مسبق بعدم تأييد ما أعلنته القيادة القومية الجديدةً في دمشق من مسار عقائدي وحزبي بعثي جديد.
وضم الوفد خمسة هم ، عبد الله سلوم ، وصلاح عمر العلي ،وشكري صبري الحديثي ، وموفق عسكر ، وخامس لم يتسنى لي معرفة أسمه ، الذين غادروا سراً الى دمشق عن طريق الموصل ، وأجروا أتصالاتهم مع القياديين الجدد قبل عودتهم بنتائجها الى مراجعهم الحزبية في العراق .
وقبل ان يبدأ هذا الوفد الحزبي اتصالاته مع القيادات الحزبية في دمشق تركهم موفق عسكر بعد ان حسم موقفه ، وأنضم الى الموقف السوري، ولَم يعد بقية أعضاء الوفد يرونه فقد انقطع عنهم تماماً.
لكن المؤتمر القطري الاستثنائي في عكركوف أسفر عن نتيجة حتمية وهي الانشقاق في التنظيم الحزبي بالعراق رسمياً الى جناحين مؤيد ومعارض للتوجهات النظرية للقيادة القومية الجديدة بقيادة نور الدين الأتاسي وصلاح جديد .
ودار صراع واسع للسيطرة على ممتلكات التنظيم الحزبي من اجهزة طباعة وأوكار حزبية وصلت في بعض المرات الى إطلاق النار والاعتداء في الشارع العام على حزبيين اختاروا تأييد الجناح الموالي للقيادة الجديدة الذي أطلقت عليه عدة صفات ، ومنها الجناح اليساري والقطريين والمنشقين، بينما اعتبر هؤلاء الاتجاه الاخر يمينياً.
وأصبح الدكتور محمد عمار الراوي والدكتور فؤاد شاكر مصطفى والدكتور محمود الحمصي وسلمان عبد الله وموفق عسكر وأحمد العزاوي وقياديون آخرون قادة الاتجاه الموالي لسوريا، وأنضم اليهم عدد كبير من البعثيين المعروفين، وأقاموا في دمشق حتى الانقلاب العسكري في ١٦ تشرين الثاني ١٩٧٠ حينما أودع حافظ الاسد بعضهم السجن سوية مع رفاقهم من السوريين والاردنيين واللبنانيين والفلسطينين ، وأختار البعض الاخر العودة للعراق تباعاً.
وبقي هذا الجناح البعثي نشطاً في العراق بعد ٢٣ شباط ١٩٦٦ ولم تتعرض صفوفه للتصدع أو الضعف، حتى تولى الجناح الذي يقوده البكر وصدام السلطة في العراق ، في تموز عام ١٩٦٨ ، وشنت أجهزة الامن غارات عديدة على الجناح الموالي لقيادة نور الدين الأتاسي وصلاح حديد، وحشدتهم في زنزانات قصر النهاية ، ولكن بعض الحزبيين أصروا على مواصلة النشاط ، وكانوا يحيطون عملهم السري بكتمان نتيجة انضوائهم في تنظيم عسكري يقوده من دمشق أحمد العزاوي قبل أن تنال منه بعض الأجهزة السورية فأنفجر مكتبه به داخل مقر القيادة القومية .
المرحوم أحمد العزاوي
وصَدّقَ بعض الذين كتبوا في الحادث فيما بعد بعدة سنوات ، كذبة أن العراق ، أو أن صدام حسين كان وراء أغتيال العزاوي كما روجت المخابرات السورية في حينه، لكن الوقائع تثبت أن أجهزة حافظ الاسد هي التي قتلته ، ومشوا في جنازته لأنه رفض كشف اسماء ضباط تنظيمه العسكري لهم، وعارض بصراحة وفِي الاجتماعات الحزبية موقف حافظ الاسد لصالح حزب الكتائب وضد الحركة الوطنية اللبنانية وكمال جنبلاط ، وموقفه ضد منظمه التحرير الفلسطينية وياسر عرفات.
وصل أحمد العزاوي مكتبه ، مكتب شؤون العراق بالقيادة القومية حوالي العاشرة صباح يوم العاشر من حزيران عام ١٩٧٦ ، وبعد دقائق قليلةً رن جهاز الهاتف الخاص بالمكتب، وحدث الانفجار في وجهه حال رفعه سماعة الهاتف، وفارق الحياة اثناء رفعه عن الارض وكان وجهه متفحماً.
ويتهم أنصار أحمد العزاوي والمقربون منه ثلاثة أشخاص بالمسؤولية وهم العقيد علي دوبا ، مخابرات القوات الجوية في حينه ، والثاني العقيد علي ظاظا ، مسؤول مخابرات سرايا الدفاع، والثالث رفعت الاسد شقيق حافظ الاسد قائد القوات الخاصة التي تسمى سرايا الدفاع.
وترك أحمد العزاوي زوجته البصراوية زميلته في كلية الاداب بجامعة بغداد ، حينما كنت أنا أدرس الصحافة في نفس الكلية، وعاشت مع أبنائها في دمشق ، ولهما ولد اسمه حسام وبنتين ، وتردد ان احدى بناته تزوجت فيما بعد من أبن الضابط العراقي الطيار المقيم قي دمشق أيضاً، سالم مريرش .
ومن المستبعد ، أو من المستحيل أن أحداً من العراقيين الموجودون في دمشق آنذاك لم يتواطىء في جريمة اغتيال العزاوي او التستر على هوية قتلته، ويشير العراقيون المطلعون بهذا الخصوص وغيرهم الى أحدهم الذي كانت علاقته بأجهزة الحكم السورية أقوى من علاقته الحزبية ، فشارك في الغدر!
—-—
ملاحظة : الصورة المرفقة هي من مجموعة الاخ أبو مصطفى ، شكراً له
925 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع