صلاح رشيد الصالحي
الشرق الأدنى القديم و "الكارثة" نهاية عصر برونز عام ١٢٠٠ ق.م
رسوم مصرية من معبد هابو تمثل محاربين من (شعوب البحر) من اليمين إلى اليسار: أربعة محاربين من القبائل الليبية (Libyans)، ثم ثلاثة محاربين من الكنعانيين (Canaan) أو الاسيويين، ويليهم اثنان من البلست (Philistine)، ثم يليهم محاربين من الشردانا (Sherden)
كانت هناك ظاهرة مهمة في تاريخ الشرق الأدنى القديم من الناحية التاريخية، فقد انتهى عصر البرونز (1300-1200) ق.م وبدأ عصر الحديد (1200-539) ق.م، وبذلك اختفى النظام القديم الذي تميز بهيمنة الممالك مثل مملكة حاتتي (في بلاد الاناضول)، والامبراطورية المصرية، ومملكة مايسينيا (في اليونان وسواحل شرق بحر ايجة)، فمع زوال المملكة الحثية، فقدت بلاد الأناضول الاتصال الدبلوماسي مع الممالك القديمة في مصر وبلاد الرافدين، وكنظرة عامة على منطقة الشرق الادنى قبل (1200) ق.م تظهر منطقتين جغرافيتين مختلفين: شرق البحر المتوسط، وبلاد الرافدين، وشملت الأولى منطقة سوريا و فلسطين والأناضول والجزر والأراضي المتاخمة لبحر إيجة، وهذه الأراضي والممالك حكمت أو تأثرت بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل القوتين العظميين في ذلك الوقت المملكة المصرية (المملكة الحديثة)، والمملكة الحثية (في تركيا)، وأما المنطقة الجغرافية الثانية فتشمل المثلث في المناطق الداخلية وهي ثلاث ممالك: المملكة البابلية وتحكمها السلالة الكاشية في الجنوب، والمملكة الاشورية في الشمال، ومملكة عيلام في الشرق، وعند انتهاء فترة عصر البرونز حوالي ( 1200) ق.م، نرى شرق البحر المتوسط تغير بشكل كبير فقد اختفت الممالك الكبيرة والدويلات الصغيرة، مثل المملكة الحثية، والممالك المايسينية، والمستوطنات في جزيرة قبرص وعدة مدن في منطقة سوريا وفلسطين مثل أوغاريت، وإيمار، وغالبية هذه الأماكن تعرضت للتدمير أو هجرها السكان واصبحت المدن والقصور خاوية على عروشها، بينما بقيت المملكة المصرية الحديثة على قيد الحياة، ولكنها فقدت سيطرتها على ممتلكاتها في سوريا وفلسطين والنوبة، وبدأت مصر تدريجياً تصبح دولة ضعيفة، وفقدت الاتصال الدبلوماسي مع بلاد الرافدين أو مع مدن شرق البحر المتوسط .
أن غياب القوة خارج بلاد الرافدين ، سمحت للدويلات الصغيرة ان تمارس التبادلات التجارية الدولية فيما بينها بعد ان كانت تحت احتكار الممالك الكبرى (مصر، وحاتتي، وبابل، وآشور)، وبذلك فان الاستقرار الثقافي الذي ميز أواخر عصر البرونز والذي رافقه التعايش السلمي والعلاقات الدبلوماسية وكتابة الارشيفات والمعاهدات في عصر العمارنة اختفت هي الأخرى تماما بسبب كارثة حلت على العالم القديم، ويبدو ان سبب الكارثة غير معروف بالتحديد، فهناك عدة تفسيرات تختلف حسب وجهة نظر العلماء اعتمادا على المعطيات التاريخية، فعالم الاثار الفرنسي (Schaeffer) الذي قام بالتنقيب عام ( 1955) في أحدى المواقع المدمرة في مدينة أوغاريت (رأس شمرا حاليا) خرج بنتيجة ان سبب الكارثة كانت طبيعية نتيجة زلزال كبير دمر العديد من المواقع في شرق البحر المتوسط مثل طروادة (الطبقة VII)، مايسينيا، ومدينة الالاخ عاصمة مملكة موكيش (تل العطشانة حاليا)، وحاتوشا (عاصمة المملكة الحثية) ، وبيبلوس (في لبنان)، وغيرهم، وفي دراسة أخرى للباحث (Drews) اعتبر الكارثة ليست انهيار الأبنية بفعل الزلازل بل التدمير بالنار لوجود رماد كثير في الطبقة الاثرية لأواخر عصر البرونز، ومن وجهة نظر الباحث (Tainter) ان الكارثة اصابت الحضارات الضعيفة التي لم تكن قادرة على الصمود فانهارت، بسبب الحجم الكبير للكارثة والمتمثل بموجات الهجرة التي رافقها العنف، واعتقد بعض العلماء أن سبب نهاية العصر البرونز في شرق البحر المتوسط هو ظهور هجرات قام بها ما يسمى (شعوب البحر) (وهي تسمية وردت في المصادر المصرية القديمة) الذين ينسب لهم تدمير مناطق شرق بحر المتوسط، وقد حارب الفرعون مرنبتاح عام (1209) ق.م موجات المهاجرين عندما وصلت طلائعهم القتالية الى الدلتا من سواحل ليبيا، ثم قاتل الفرعون رعمسيس الثالث شعوب البحر في مواقع بحرية وبرية فدمر سفنهم وخلد انتصاره في نقوش معبد مدينة هابو.
لقد تم تحديد بلاد (شعوب البحر) في جزيرة صقلية، وجزيرة سردينيا، وغرب بلاد الأناضول، والاحتمال الكبير فأن سبب الهجرة السكانية تعود إلى موجة الجفاف التي ضربت مناطقهم من (1300) ق.م وحتى (1200) ق.م، ومن الطبيعي فان الجفاف يجبر الناس على الهجرة إلى مناطق أخرى مثل مصر حيث وادي النيل بحثاً عن مصدر رئيسي يوفر لهم الحبوب والطعام، أو قد يعمل المهاجرين كمرتزقة لدى المملكة المصرية أو يتحالف المهاجرين مع أشخاص آخرين يعانون من نفس المشكلة كما جرى في سواحل ليبيا عندما تحالف المهاجرين من شعوب البحر مع القبائل الليبية وهاجوا مصر في عهد الفرعون مرنبتاح، ومن المحتمل رفض المصريون هجرة شعوب البحر لان هؤلاء المهاجرين استخدموا استراتيجية جديدة في قتال المشاة، واستخدموا السفن البحرية في النقل والحرب، ويعتقد معرفتهم تعدين الحديد منحهم القوة اكثر وجعلت أسلحتهم أكثر صلابة من السيوف والرماح البرونزية، على اية حال فان النقاش مستمر بين العلماء والمتخصصين بأن السبب الأكثر قبولا لنهاية أواخر عصر البرونز هو الجفاف الذي استمر لفترة طويلة قرابة قرن من الزمان.
بقاء الدولة الآشورية بعيدا عن الكارثة
تمكن ملوك آشور في هذه الفترة من النجاة من الانهيار العام لنهاية عصر البرونز، على الرغم من الدمار الشامل والانهيار في أماكن أخرى في الشرق الأدنى القديم، فنرى الحملات العسكرية للملك توكلتي ننورتا الأول (1243-1207) ق.م كانت مهمة من اجل ابراز القدرات العسكرية للدولة الآشورية، كما تدل على عدم تأثر الآشوريون بالتدمير الذي حدث في شرق المتوسط، على الرغم من ظهور موجات من المهاجرين الساميين يتصفون بالعدائية وهم الاراميين البدو، وكانت هجرة الاراميين على شكل موجات شملت المناطق المحيطة في آشور، وكان لابد من سلسلة من الحملات العسكرية ضدهم، كما فعل الملك الآشوري تجلاتبليزر الاول (1114-1076) ق.م الذي قاد حملات عسكرية ضد الاراميين وقد ذكرها في حولياته، واعتبرت عملية توثيق تلك الحملات العسكرية لها هدف أيديولوجي، فهي تخدم مصالح مجموعة اجتماعية اشورية باستخدام القوة والإكراه، وتسعى لمساندة السلطة من أجل إدامة موقفها المهيمن إلى جانب الملك، لان حالة الحرب تعزز التضامن الاجتماعي وتركز الهوية الاشورية هذه الايدلوجية نقلت إلى الأجيال اللاحقة عبر حوليات الملوك الآشوريين، فأصبحت الحملات العسكرية تحصل على مباركة الكهنة، ومباركة الآلهة أيضا، واعتبر الملك هو المدافع عن شعبه، ويعاقب أولئك الذين يهددون أمن المملكة، وكانت الأغاني تنشد من قبل المغنيين في داخل القصور الآشورية وتتناول قتال الملوك مثل الأسود ضد أعداء اشور، كما يضمن الملك الاشوري السلام والأمان ويواجه التهديد التي تهدف إلى تدمير الآشوريين ومدنهم.
وفي الواقع، تأثر المجتمع الآشوري في هذه الفترة بشكل كبير بفكرة (عسكرة الدولة)، وان الأرض ملك للدولة وتسلم كامتياز لأفراد معينين مقابل خدماتهم للدولة الآشورية، وخاصة أداء الخدمة العسكرية أو المشاركة في مشاريع البناء، وهناك خاصية اخرى هي التراث فقد ورث الآشوريون عن الملوك الأكديين في جنوب بلاد الرافدين فكرة بان الملوك قادة عسكريين ابطال استندت سلطتهم الملكية على الآلهة وعليهم غزو كل الولايات والمدن الجنوبية وحتى الأعداء في خارج بلاد الرافدين، وأصبحت الملكية وراثية، وكانت مناصب الدولة للبيع لمن يدفع أكثر، ومع ذلك، كانت أشور رائدة في تبني تكتيكات عسكرية جديدة لكونها مملكة حدودية قريبة من جبال طوروس وزاغروس، فكان لديها جيش نظامي وقوات احتياطية تجند وقت الحرب كما في النص الاتي :
(عندما نزل الكوتيون (Gutians)، من بلاد كوتي (Guti) في جبال زاغروس ، إلى السهل في غارة على مناطق آشور، ترك الملك شلمانصر الأول مشاة خلفه، وقاد ثلث مركباته لتدمير الكوتيين (…)، وعندما قام توكلتي-ننورتا الأول بمهاجمة كوتي ذبحهم جميعا...) علينا أن نفترض أن ذلك تم بواسطة مشاة قادرين على القتال بالسيوف والرماح، ولم تستخدم الات الحصار والفرسان، على ما يبدو أن ملوك آشور مثل شلمانصر الأول وتوكلتي ننورتا الأول حاربوا في كثير من الأحيان الأعداء خارج حدودهم الشمالية والشرقية، وهي مناطق جبلية وعرة تتطلب استخدام مشاة آشورية بكثرة، وكانت الخبرة الطويلة للآشوريين في الحروب باستخدام المشاة جعلتهم لا يعتمدون حصرا على المركبات أو الفرسان التي كانت من مميزات نهاية العصر البرونز، كما أدخلت آشور تجنيد المرتزقة أو المحاربين الأجانب المحترفين وتحويلهم إلى جيش وطني نظامي، بينما يتم استدعاء المليشيات من البالغين من سكان المدن التي خضعت لسيادتهم، ومن اكبر المخاطر التي تواجه الدولة الاشورية دائما عدم السماح لهذه الميليشيات أو الجيش النظامي البقاء خاملًا بدون حرب، ولهذا السبب يتم خوض الحرب ونهب ثروات الشعوب المقهورة، ومن ثم فان (عسكرة الدولة) كان يدعمها النخبة الاجتماعية الاشورية (النبلاء، والكهنة، وحكام الأقاليم، وأصحاب الاقطاعيات..) التي احتلت اعلى المناصب العسكرية والادارية، وشكلت النخبة قوات عسكرية لحماية نفسها وامتيازاتها، باستخدام استراتيجيات مختلفة منها تسوية النزاعات حول الأراضي، وحماية طرق التجارة، أو نهب البضائع من المجتمعات الأخرى.
كانت هناك فترات من عدم الاستقرار، أدت إلى دخول سكان الريف إلى مدن وهذه بحد ذاتها تساعد على الدفاع عن المدن من الغزو الخارجي، وفي فترات الأزمات تصبح النزعة العسكرية قوة مستقلة يمكن أن تمارس السلطة مباشرة من خلال استخدام القوة المفرطة كما هو واضح في الالواح الجدارية الصخرية التي تزين قصور آشور، ولهذا عندما ثارت موجات الغزاة الآراميين البدو الرحل الفوضى في كل من بابل وآشور، فإن الاراميين سببوا حالة من الاضطراب والارتباك في كلا الدولتين، فقد عانت بابل من هجومهم، بينما في آشور طورت العلاقة مع الشعب الارامي، فمن وجهة نظر الباحث (Postgate) (كان قلب بلاد آشور بعيدا عن تهديد الارامي البدوي، وأي علاقات مع البدو سواء كانوا سلميين أو معاديين، سيكونون في الغالب بعيدا عن حدود آشور أي في الصحراء)، وبالتالي لم تكن هناك قوى كبرى تتنافس بفرض سيطرتها على شمال بلاد الرافدين فبقيت آشور بعيدة عن أي انهيار، وهناك ميزة أخرى فالدولة الاشورية تفوقت على الأنظمة السياسية الصغيرة في شمال بلاد الرافدين، حيث تمكنت من حشد المزيد من الموارد للتغلب على هذه الدويلات الصغيرة إذا لم يتم ردعها على الفور، ومن ثم فإن الآشوريين يعتقدون من الضروري فرض سيادتهم على شمال بلاد الرافدين، وإدماج المدن الرئيسية تحت سيادتها (أربيل واشور ونينوى، والمدن الواقعة على طول نهر دجلة ورافد ديالى...)، وإدارة الأراضي الزراعية الهامة في الشمال والشرق، وإدارة الموارد لتمويل الأشغال العامة الرئيسية، كما وضعت فكرة جديدة للهوية الاشورية، فالأشوريون لديهم إحساس بالعرقية ومن حقهم ان يفتخروا فلم تصلهم الهجرات الكثيرة التي استقرت في الجنوب، حتى إننا نفتقر إلى كلمة (اجنبي) في اللغة الاشورية بمعنى ليس لدينا إشارة للأجانب حيث استخدم تعبير (lú kúr) بالأكدى اخوم (aḫum) أو اوبارو (ubaru) أو ناكروم (nakrum)، بينما في بداية عهد الدولة الاشورية القديمة (بداية الالف الثانية ق.م) كان هناك مصطلح (الأجانب) وتعني اخيتوم (aḫiatum)، وكلمة مواطن تعادل آشور (Aššur) ورد هذا في نص ضمن أرشيف المستعمرة الاشورية في بلاد الاناضول.
خلاصة القول، في حين عانت المناطق الساحلية في شرق البحر المتوسط من الفوضى والكارثة والتدمير، فان شمال وجنوب وشرق بلاد الرافدين لم يعاني من كارثة التدمير فقد بقيت المملكة الاشورية بعيدة ونجت من الانهيار بل أصبحت أشور قادرة على تعزيز وتطوير نفسها من خلال تأسيس قواعد القوة الجديدة في الشرق الأدنى القديم بفضل الموروث الثقافي الكبير في بلاد الرافدين المتمثل بالدولة الأكدية.
4857 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع