د. رحيم الغرباوي
بوابات العالم الجديد في رؤى منهل الكسيري الشعرية قراءة في الأسلوب والرؤيا
الشعر عالمٌ مأهول بدنيا واسعة تتجه نحو صوبين الأول العالم الخارجي بما فيه من أحياء وجمادات , بينما العالم الآخر هو عالم الانسان الداخلي المليء بالمشاعر والأحاسيس والرؤى والبنى المغروسة فيه من معتقدات وأساطير وأعراف وقيم , وثقافة مستحصلة ، كل ذلك هو ما يمثل ركائز أي قصيدة ينظمها شاعر .
ويبدو الفن حسب غادامير هو " مسألة الكشف عن الأمور الوجودية للإنسان ولا يمكن اختزاله إلى مجرد ذوق أو متعة جمالية ولا يمكن اختزاله أيضاً إلى آلية أو وسيلة ... إنه نسق كشفي للمناطق المُعتمة من الوجود البشري " (1) ، ولعل هذه الشبكة ينسجها الخيال فهو " قوة كبرى , سيِّد ولا ضابط له , ورفض حاسم للواقع ، وسلطة عُليا يُقدَّم أمامها على العكس العالم الخارجي بتفاهته المُعتمة " (2) . لذا فالشعراء يرتقون بأشعارهم إلى عالم مثالي يصور الواقع بصورته الصحية أو إظهار عيوبه التي هي ليست ما تتوق الروح فيه إنما إلى عالم أكثر مثالا , وأوضح صورة ، وأشد نقاء ، فالشاعر يدعو " إلى هذه التربة العتيقة التي حجَّرتْ روحنا ، ولنحول المدينة إلى حضارة ؛ ولنبحث إلى جزر عذراء خاوية ، حبلى بالمستقبل طاهرة طهارة صمت التاريخ " (3) .
ولعل شاعرتنا منهل الكسيري هي من تتوق إلى دنيا جديدة بعيداً عن الواقع المأزوم بمشكلاته لتقدِّم لنا إرهاصات هي مأمل كلِّ روح تبحث عن استشراف حياة باذخة الغنى بما فيه المعرفي والجمالي والحياتي ، فهي تكتب بشفافية الحرف حينما تدعو في نصوصها ؛ لتغيير الواقع والمضي لمستقبل يفتح بوابات لعوالم جديدة فنراها تقول :
هنيئا لكِ أنجلينا ..
دعي براد ... واعشقي من جديد
الحياة لاتتوقف عند خِلٍّ
لم يمنحك السعادة
خائن كان أم مهمل
الوداع براد بيت
فنراها تستحضر شخصيتين سينمائيتين لهما قصة فراق زوجها ، لكنها آثرت أنْ تعمل في منظمة النوايا الحسنة وهي تسوح في بلدان العالم التي ضررتها الحروب والفقر والفاقة , لتؤسس لنا الشاعرة من خلال رمز انجلينا حياة أرحب وأنقى , رافضة العيش في عالم لاحراك فيه لايمنح صاحبه إلا القيود والعيش خلف قضبان العدم والركود , فقد استعملت لتلك الدلالات أصوات الإطباق ومنها صوت الدال الذي ورد سبع مرات والهمزة والتاء أربع مرات وجميعها تدل على التحسر والتأفف للدلالة على خيانة ( براد بيت ) وإهماله لزوجته أنجلينا ، بينما ورد صوت العين خمس مرات ؛ للدلالة على المعاناة والعناء بينما ورد صوت اللام ثمان مرات وصوت الميم ست مرات , وصوت النون ست مرات أيضاً وهي أصوات صامتة لدلالة الأناة والتروي من قبل أنجلينا وهي تفارق من كان شريك حياتها ؛ لأن لديها مشروعاً أكبر من حجم همومها ؛ كي تديم الحياة لها ولبني الإنسان .
ولعل نقل التجربة الشعرية " بكافة ابعادها وبصورة أكثر شفافية وإيحائية وعلى هذا الأساس تكون التجربة هي المسؤولة عن منح النص الخصوصية الإبداعية " (4) ، فالشاعرة منهل الكسيري تحاول أن تقدم لنا فكرة أن الحياة لاتبقى تمشي على عكاز مالم تُقوَّم وتسير إلى أمام ، ويرعاها أهلوها , وإن لم يكن كذلك فلابدَّ من عبور الركام إلى الضفة الأخرى ، فنراها تقول :
سقط من كرسيـّه المتحرك أمامي!
لملمتُ أفكاره ,
جمعت شظاياه .
لم تكتمل صورة الرجل بنظري
فتركته مُلقىً على حافة السؤال.
لا مكان للخطأ في معادلة الحياة .
فهي تنقل لنا تجربتها الحياتية لكنها ترفض الانكسارات ومواطن الضعف في مسيرتها ، وهي تقدم فكرة ذلك بأصوات هامسة , فصوت الميم ورد إثنتي عشرة مرَّة , وصوت اللام إحدى عشرة مرَّة وكلاهما من الأصوات الهامسة , لتكسب النص هدوءً على الرغم من عدم رضاها على الواقع الممثَّل بالرجل , فهي القادرة على حمل أعباء الحياة ، وهي صاحبة المواقف التي يمكن لها أن تجوب الحياة من دون زلل يحلُّ بساحتها .
أمَّا قولها :
مازلتُ اقطف التوت البري ..
رغم ثلوج الوطن
الذي اَنقذَ نفسه
و تركني في روابيه .
غريبة الروح
فالشاعرة تعيش الاغتراب النفسي ، فقد قرنت الثلج بالوطن فعلى الرغم من برودته تجاهها ، فهي تقطف التوت مكابرةً بما يعتملها من أسباب الاغتراب الذي دهمها ؛ نتيجة الحبيب الوطن الذي غادرها ، مما جعلها تعيش الغربة التي تلمِّح لها لكنها تواصل الكتابة الشعرية وهي تفتح نافذة الأمل الجديد وبإرادة صلبة , فهي تقول :
من شرنقتي
سأخرج
لعالمٍ بنفسجي
كحلمي دون وثاق
كنجمةٍ تجوب السماء
كمهرةٍ بريَّة ,
لها في البراري حياة .
ولعل الأمل لدى الشاعرة الكسيري الذي خطته بمداد روحها صورته لنا كأنها تخرج شرنقة , والشرنقة تمثل العذرية والنقاء والبداية , أما العالم البنفسجي فيمثل السكينة والحب والطمأنينة ، والحلم هو ذلك العالم اليوتيوبي الذي لايمكن تحقيقه إلا في دنيا الخيال ، بينما النجمة التي تجوب السماء , والمهرة البرية ماهما إلا تشبيهات لها ، وكلا التشبيهين يتضمنان كناية عن صفة الحرية والانعتاق في عالمٍ أسمى وأرحب . ويبدو أنَّ حروفها تدل على الرقة والشفافية على الرغم من التغيير الذي سيعم حياتها الجديدة وهي تراها بمرقب الشعر نحو عالم هو أنقى وأجمل.
ولعل الكسيري تعبِّر عن وجدانها بأمهر الكلمات وأنقاها ، فتحمِّلها جمال الحروف برقة الإحساس وأناقة المعنى ، فتقول :
ثوب عرسي وعيناك
..قطاف فلاحة في مواسم الخير
ضحكة طفلة في إرجوحتها
فرحة الأعشاش المهجورة بعودة السنونو المشتاقة
أنت !
والكون يتراقص كنجوم الثريا
حول ضلوعي
أنت
وكلِّي أنت
إذ نجدها تستعمل التشبيهات ؛ لتؤسس صوراً بيانية فترفد نصوصها جمالا بوصف التشبيه أحد وسائل البيان في اللغة العربية ، فثوب العرسفي النص يشبه ثوب الفلاحة المزركش الألوان لكنهمع ذلك يمنح الحياة نعمتها وما الفلاحة إلا رمز من رموز العطاء , بينما الصورة الأخرى هي ضحكة الطفلة ، والطفلة تمثل البراءة والنقاء ، بينما الأعشاش المهجورة هي من ينعشها السنونو حين يلثم محياها وكأنها تقابل بين صورتين الأولى هي ، والآخر الحبيب ، فالحب هو من يجعل للحياة روحا ومعنى ؛ مما يضفي على الكون زهوه فهو بمجمله يتراقص كنجوم الثريا . فهي تجعل الحبيب هو الكون بينما هي قطبه الذي يدور حوله ، وهي التفاتة مدهشة من شاعرتنا وهي تصور حالة الحب الذي يلم شتات العالم من خلال نعمة السلام الناتج من الحب حين يغذي نفوس البشر .
1- الفلسفة الغربية ، مجموعة من الأكاديميين العرب : 1265
2- الصوفية والسوريالية , أدونيس : 129
3- الموسوعة الفلسفية ، د. عبد الرحمن بدوي : 1/ 262
4- مقاربات نقدية لنصوص حداثية , د. سمير الخليل : 168
1022 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع