تجربتان تاريخيتان أمام العرب

                                                  

                         د. علي محمد فخرو

 تجربتان تاريخيتان أمام العرب

موضوع الفرق والعلاقة بين تعبيري «السلطة» و«القوة» يهمنا، نحن العرب، لأنه يجثم في قلب الحياة السياسية العربية. كأحد المداخل لفحص الموضوع يجدر بنا ان نسترجع مقولة شهيرة لماركوس سيسرو، رجل الدولة والخطيب الجماهيري المفوه والفيلسوف الذي عاش في روما، عاصمة الامبراطورية الرومانية، منذ واحد وعشرين قرنا من الزمن. يقول سيسرو واصفا الحياة السياسية في روما، بدقة وفهم عميق: «ان القوة هي عند الشعب، اما السلطة فهي في مجلس الشيوخ».

يقول المؤرخون بأن سيسرو قد عنى بذلك القول بأن مواطني روما كانوا يملكون من القوة مايستطيعون بها التأثير على قرارات مجلس الشيوخ، لكن امتلاك السلطة لاتخاذ القرارات وتنفيذها كان في يد اعضاء ذلك المجلس.كان مواطنو روما يؤثرون من خلال حقهم في تكوين تجمعات تُتداول فيها وتناقش بحرية شتى المواضيع العامة، قبل ان ترُفع وتصل الى مسامع مجلس الشيوخ.
نحن امام ممارسة للقوة من قبل الشعب ومايماثل في ايامنا مؤسسات مجتمع مدني، تقابلها ممارسة للسلطة من قبل مؤسسة حكم مهيمنة على الحياة العامة. هذا تلخيص لواقع الحياة السياسة في روما ماقبل الدكتاتوريات الامبراطوري المتسلطة المستبدة المتعجرفة. اما بعد قيام تلك الدكتاتوريات الامبراطورية فقد اصبحت القوة والسلطة في يد الامبراطور، وبدأ العد التنازلي لتفسخ الحياة السياسية ودمار الامبراطورية.
هل هناك درس وعبرة في واقع مجتمعي تواجد منذ اكثر من الفي سنة؟ الجواب هو «نعم» فوجود القوة المؤثرة، المستقلة والمنفصلة عن سلطة الحكــــم، في شكل «تربيونات»، اي مجالس شعبية، كان كفيلا ان يوجه مسار السلطة من خلال اقتراح القوانين، وأن يحد من انفلاتها في ممارسة التسلُط من خلال اعلان المجالس في مناقشات علنية عن رفضها لبعض قرارات مجلس الشيوخ. كانت «التربيونات» قوة شعبية حقيقية، تمثل مصالح الانسان العادي. نوع علاقة قوة المجتمع تلك ومستوى تفاعلها مع السلطة الحاكمة هما اللذان اوجدا التوازن في روما وفي ممتلكاتها الامبراطورية الواسعة.
يدور في الذهُن سؤال محير: لماذا استطاع قادة روما في زمن ماقبل التاريخ الميلادي الانتباه الى ان السلطة المطلقة ستقود الى المفاسد والظلم، مالم توازنها قوة المجتمع، بينما فشل قادة الخلافات الاسلامية المتعاقبة، بعد عدة قرون من ذلك التاريخ الروماني، في الانتباه الى تلك البديهة السياسية وتطبيقها في الواقع العربي الاسلامي؟ لماذا سمح قادة وفقهاء وكتاب تلك الأزمنة بتمركز السلطة المطلقة في يد الخليفة، بعد استلامه الحكم مباشرة والى ان يموت؟
لماذا لم يطور مثلا نظام «أهل الحل والعقد» ليصبح مشابها لنظام « التربيونات» الروماني، وليمنع حدوث فظائع الظلم والفساد الذي عاشته الخلافات العربية الاسلامية قرنا بعد قرن؟ هل ان السبب كان في الاقحام الانتهازي للدين في السياسة وصراعات الحكم؟ الم يقحم الخليفة معاوية الأموي الدين بشكل نفعي انتهازي عندما قال للناس بأنه ان حكم بالعدل فلأن مشيئة الله قدرت ذلك، وأنه ان حكم بالظلم فلأن مشيئة الله ايضا هي التي قدرت ذلك؟ وبالتالي هل كان للناس ان يعترضوا على مشيئة الله سبحانه وتعالى التي وصفت زورا وبهتانا تعمل من خلال الخليفة الحاكم؟
ومن بعد العهد الأموي الم يضع الخليفة العباسي المنصور شعار الحكم القائل بأن الخليفة هو ظل الله على الأرض؟ قرونا قبل ان يتبنى ذلك الشعار ملوك اوروبا في العصر الوسيط؟ ام ان السبب كان في طبيعة وسلوك البداوة التي تضع السلطة في يد رئيس القبيلة حتى تمنع الشقاق والصراع؟ كل ذلك حدث بالرغم من ان الحكم كان يدار باسم الدين وتحت ظلال القرآن الكريم الذي كانت رسالته للبشرية قائمة على التمجيد المذهل للحقُ والقسط والميزان والعدالة والتراحم.
هذه مقارنة تحتاج الى تفسير وفهم، ليس لأنها ظاهرة ملفتة في تاريخنا، بل لأننا نعيش تلك الظاهرة في حاضرنا السياسي العربي، نعيشها بأقبح صورها، خصوصا بعد الفشل الأولي لحراكات وثورات ماكان مؤملا ان يكون ربيع العرب السياسي، ذاك الربيع الذي كان سينهي ذلك الخلل التاريخي في التوازن بين قوة المجتمع وسلطة الحكم في حياة امة العرب.
نظام روما الذي لايمكن تسميته بالديموقراطي في حينه تطور مع الوقت وقاد الى ديموقراطية الغرب الحالية بالتناغم مع انظمة اخرى بالطبع. اما نظام الخلافة الاسلامية القائم على سلطة هائلة في يد الحكم وضعف شديد في قوة المجتمع فانه قادنا الى مانحن عليه من محن واحن سياسية، وكان خير معين لدخولنا في الجحيم الذي نعيشه. لقد سمح ذلك النظام لقوى الخارج ولبلادات الداخل ان تفعلا في امتنا مايهدد وجودها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1086 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع