بقلم : عبد السلام صبحي طه*
ذاكرة العراق في السوق السوداء متاجر هوبي لوبي الأميركية والتداول غير المشروع بالإرث الثقافي العراقي
( ُنشِر المقال في جريدة العرب الدولية ومجلة الجديد الصادرتين في لندن بتاريخ 2 أيلول 2018)
بدأ النبش والنهب الآثاري في العراق وترعرع على يد مستشرقين ورحالة أوربيين منذ منتصف القرن التاسع عشر. لقد هبطوا أرض الحضارات والديانات القديمة متأبطين كتبهم المقدسة بحثاً عن تأصيل لنصوصهم. ويبدو أن المشهد لم يختلف حتى الآن، فنجد أحفادهم اليوم متوارين بهيئة راباي يهودي متقمص دور تاجر أنتيكات، أو داعية مسيحي متشدد كما هي الحال مع مالك متاجر "هوبي لوبي"،. المقال الآتي يفصّل قضية شغلت الإعلام مؤخراً، ونجد لزاماً علينا تبيان الحقائق، وما توارى ربما عن الانظار.
هوبي لوبي
هي سلسلة متاجر أميركية تتعامل بالتحف الفنية، ويملكها الملياردير الاميركي ستيف غرين (يبلغ من العمر الآن 77 عاماً)، وتشاركه في الإدارة عائلته (وهم من الطائفة المسيحية الإنجيلية)، ويقع مقرها في مدينة أوكلاهوما، تقدر ثروته بـ 5.7 مليار دولار، وقد افتتح أول متجر عام 1972، وتوسعت الشركة ونمت بشكل مضطرد لتصل إلى ما مجموعه الآن 600 فرع منتشرة في أرجاء الولايات المتحدة الأميركية. والشركة مسجلة ملكاً خاصا للعائلة، وغير مدرجة في البورصة.
متحف الكتاب المقدس في واشنطن
لدى ستيف غرين، مالك متاجر هوبي لوبي، احدى أكبر مجاميع الاقتناء الآثارية التي تتعلق بالكتاب المقدس بجزئيه (التوراة والإنجيل)، وتقدر بـ 40 الف قطعة (مابين كتب ولفائف ورقيمات طينية وألواح حجرية)، وهذه المجموعة تحوم حول تاصيلها شكوك من كونها ربما تكون مقتناة من سوق الانتيكات السوداء، والكثير من هذه القطع ربما يتم التبرع بها إلى متحف الكتاب المقدس في واشنطن، الذي افتتح أبوابه للجمهور في تشرين الثاني 2017. من ضمن أهداف المتحف اقتناء وعرض الآثار والشواهد المادية المتعلقة بالكتاب المقدس (التوراة والإنجيل)، وبحسب تصريحات لغرين فهو مبتهج من هكذا خطوة ثقافية تفتح أبوابها للجميع، لا للتبشير بالمسيحية، وإنما للهداية الشاملة لجميع الناس، بمن فيهم أتباع الديانات الأخرى وحتى اللادينيين، وكذا سياسيي البيت الأبيض الذين يحتاجون، بحسب رأيه، الى الوعظ المستمر!
القصة
منذ العام 2009 والسيد غرين يقوم بشراء العاديات من الشرق الاوسط، حيث مطبخ التاريخ الديني (العراق، فلسطين، سوريا، الأردن ومصر)، ومن كافة المصادر المتاحة بلا استثناء (مزادات وشبكات اقتناء مريبة وتجار سوق سوداء ومهربين)، وقد تمت متابعة والكشف بعضاً عن هذه العمليات المشبوهة من قبل دائرة الكمارك في نيويورك وعلى مدار عدة سنوات.
الوقائع
القضية المثارة حديثا تتعلق بـ 450 لوحا طينيا مسماريا من مدينة ( إريساجرج) السومرية (مركز اداري لدويلة أوما السومرية ترقى إلى عصر دولة أور السومرية الثالثة، وتقع في جنوب العراق). القطع ترقى الى عصور حضارية متباعدة (ما بين 2100 – 1600 ق. م). وتوجد إضافة اليها 3300 قطعة مختلفة ما بين اختام مسطحة واسطوانية، وكرات وصحون تعاويذ سحر، وتعازيم آرامية ترقى إلى (200 ق. م – 600 م)، وهي فترة تاريخية مهمة جدا كونها ترصد انتقالات مفصلية في الفكر الديني انذاك، من الزرادشتية الفارسية إلى المانوية والمندائية العراقية، ومن ثم المسيحية التي دخلت العراق في القرن الأول الميلادي صعودا باتجاه الإسلام في القرن السادس الميلادي. وقد تم شراء المجموعة كاملة بمبلغ مليون وستمائة ألف دولار بشكل دفعات، وزعت عبر 7 حسابات بنكية لصالح خمسة أفراد.
ما بين عامي 2010 و 2011 زار ستيف غرين دبي رفقة أكاديمي مختص بآثار الشرق الأدني وتاريخه، وكانت المفاوضات تجري هناك مع اثنين من التجار الإسرائيليين وتاجر (أو تجار) من دولة الإمارات العربية المتحدة، لكن الصحافة الإسرائيلية نشرت مؤخراً تقريرا يقول إنهم خمسة تجار أنتيكات فلسطينيين من القدس متهمين بهذه الصفقة. الطرح الذي تم تقديمه لهم آنذاك، وبحسب التحقيقات اللاحقة، أنها مجموعة تعود لمقتني إسرائيلي حصل عليها عام 1960، وكانت برعاية شخص أميركي أدخلها إلى الولايات المتحدة عام 1970، وهذه خدعة متعارف عليها في الأوساط الآثارية، حيث يتم استخراج وثائق ملك وتصدير ترقى إلى ما قبل عام 1970، وهو الحد الفاصل الذي حرّم الاتجار بالإرث الثاقفي للشعوب.
جرى إتمام الصفقة في دبي، بالرغم من تحذيرات الخبير الآثاري الذي جزم بكونها مسروقة من العراق (يقدر عدد القطع التي نهبت من العراق بعشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الالاف، منذ عام 1991، وبالذات خلال فترة الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية)، وهو موضوع ينطوي على مجازفة كبيرة كونه يتعارض مع مقررات الحكومة الأميركية، ومجلس الامن الخاصة بحماية الارث الثقافي العراقي. الغريب بأمر الصفقة أن بعض هذه القطع ترقى إلى العصر السومري، ولا علاقة لها بأركيولوجيا التوراة المزعومة، إضافةً إلى أن المبلغ المدفوع مقابل الكمية المشتراة من تلك القطع يبدو زهيداً، وقد جرى شحنها على دفعات إلى ثلاثة عناوين مختلفة لمتاجر هوبي لوبي في أوكلاهوما، بزعم أنها نماذج بلاطات مصنعة في تركيا، وبمبلغ لا يتجاوز 250 دولاراً للشحنة الواحدة (إحداها كانت تحوي مثلاً 50 قطعةً ما بين ختم مسطح وآخر أسطواني)، لتجنب خضوع القطع إلى القانون الكمركي الذي يضع السقف الأعلى لأي صندوق مشحون بـ 2000 دولار اميركي.
مرافيء الصفقة
- دبي: يزور مالك مجموعة هوبي لوبي ديفيد غرين مدينة دبي بصحبة مستشار آثاري مختص، ويلتقي هناك وسيطاً إماراتياً مجهول الاسم حتى الآن، وكان له شركاء من إسرائيل، وتم إبرام العقد بين الطرفين، وجرى شحن القطع من دبي الى الولايات المتحدة الأميركية.
- تل ابيب: اتهمت الصحافة الإسرائيلية خمسة تجار أنتيكات إسرائيليين مقدسيين من أصول فلسطينية بأنهم من قاموا بالتوسط، وتسهيل أمر عقد الصفقة في دبي.
- أوكلاهوما: المحطة النهائية للقطع.
مصير الصفقة
جرى كشف فضيحة صفقة هوبي لوبي إعلامياً عام 2017، بالرغم من وجود شبهات كثيرة أقدم كانت تحوم حولها منذ عام 2012، حين كشف خبراء الكمارك، عن طريق الشاحن ( فيد- أكس)، وجود تلاعبات بمبالغ القطع المشحونة من دبي الى الولايات المتحدة الأميركية (ما بين المدفوع) و(المصرح به ) في وثائق الشحن، وتم تغريم الشركة 3 مليون دولار بسبب تزويرها نوع المواد المستوردة وأقيامها على أنها من تركيا، مع مصادرة 3800 قطعة لإعادتها الى العراق (العدد الكلي للقطع بلغ، بحسب التحقيقات، 5500 قطعة، لكن العراقية منها 3800 قطعة فقط، وبعض القطع تخص لفائف البحر الميت التي تُعرف بـ "مخطوطات قمران"، وتمت إعادة القطع رسمياً الى العراق بتاريخ 2 أيار/ مايو 2018 في مبنى السفارة العراقية بواشنطن). وصّرح غرين بأنه ابتلع طعماً لم يكن بالحسبان، وأنه نادم على فعلته بحق الإرث الثقافي العراقي، ووعد بعدم تكرارها.
الأبعاد الدينية للقضية
من خلال تتبع سيرة ونشاطات ستيف غرين والجماعات الإنجيلية التي يتزعمها، والنشرات التي يتم إصدراها على صفحاتهم الرسمية وأدبياتهم، يبدو أن هناك ابعاداً دينيةً محركةً لموضوع الاقتناء غير المشروع هذا وغيره كثير، فقد أشارت احدى النشرات الكنسية في موقع (المسيحية اليوم Christian today) إلى أن الاقتناء غير المشروع للتراث العائد للمسيحية والمُعرّض للخطر أمر مشروع لأنه تراث يخص التاريخ المسيحي ولابد من حمايته، لكن الأمر المحير في هذا التبرير أن ما تم وضع اليد عليه يرقى الى الفيات أبعد بكثير من ظهور المسيحية، مما يؤكد تناقض الخطاب الرسمي للجماعة.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: هل أن لهكذا اقتناء غير مشروع جذوراً أو أسساً دينيةً تحلل المحرمات، وتسمح بحيازة قطع مسروقة رغم تقاطع ذلك مع أخلاقيات الأديان؟ فضلاً عن التغاضي، مع سبق الاصرار، عن الالتزام باللوائح والقوانين الرسمية التي تصدرها الدولة الأميركية بخصوص المتاجرة بالإرث الثقافي للعراق. كل هذا جرى، بالرغم من التحذيرات الكثيرة الي رفعها المختصون كونها تدخل تحت بند إرث ثقافي مسروق من بلد، شرعت الدولة الأميركية بنوداً خاصةً لحمايته، خصوصا بعد غزواتها العسكرية المتعددة له منذ 1991 صعوداً باتجاه فرض الحصار، وانتهائها باحتلاله واستباحة متاحفه، العسكرة في مواقعه الآثرية.
السياق الآثاري وخطورة ضياعه
إن بعض الألواح المسروقة، كما أسلفنا، تعود الى مركز إداري قديم يدعى "إريساجرج" تابع لدويلة أوما السومرية، وترقى إلى زمن آخر عصر سومري زاهر (دولة أور الثالثة بحدود 2100 ق. م)، وتوجد في قسم منها تفاصيل إدارية واقتصادية تؤرشف لتاريخ المنطقة آنذاك، ويضعنا خروجها بطريقة عشوائية أمام معضلة الطبقة التي تخصها وزمنها وعلاقاتها بالرُقم واللقى الأخرى، لأنها ستكون يتيمةً، ويصبح من الصعب فهمها ضمن سياق آثاري وتاريخي واضح يسهم في رسم تصور شامل عن ذلك العصر، بسبب الخلط الذي سيحصل بين الرُقم جراء العشوائية في النبش. إن وجود القطعة خلف واجهة زجاجية أنيقة في متحف لا يعني بالضرورة أننا قد حفظنا قيمتها المادية، ذلك أنها ستفقد الكثير من قيمتها الحضارية كوثيقة مادية لقراءة التاريخ (ففي هكذا حالات سيتم وضع توصيف معبأ بكلمات مثل "ربما" أو "يُعتقد" أو "اغلب الظن" أنها ما بين 2100- 1600 ق. م، وقد تكون من كذا منطقة، او بالقرب من كذا مركز، بينما القطع التي تخرج بتنقيب منهجي ستكون كأنها ورقة ضمن أرشيف نعلم جيداً كيف نقلبه وندرسه و نفهمه).
الأبعاد الأكاديمية للقضية
المؤسسات الأكاديمية الأميركية في حالة انقسام شبه دائم ومحتدم بخصوص الأمور المتعلقة بالعاديات المستوردة، والتي تفتقر إلى الشهادات التنقيبية، أو التصديرية، أو وثائق التملك الأصلية، فمنها من تقف بشكل حازم في وجه السماح لأي تعامل، أو تعاون مع المقتنين الأثرياء، ودور المزادات، ومراكز البحوث، وتطالب بضرورة مقاطعة أي جهد يصب في خدمة هؤلاء الذين يشجعون على الاتجار بالإرث المسروق من أرضه وأهله، وتوجد من جهة أخرى مدارس رأي، لا تقل وزناً أكاديمياً عن الأولى، تقف ضد طروحاتها، وتحاول مد يد العون لهكذا عمليات اتجار، على نحو إما مخفي او علني، بدفع من مؤسسات إما لها أجندات دينية أو سياسية ربما تكون خافيةً عن العامة. في قضية هوبي لوبي مثلا، نجد أن أكاديمياً، بدرجة بروفيسور، يدعى د. ديفيد أوين من قسم الدراسات المسمارية في جامعة كورنيل– نيويورك**، يجاهر بالقول "إن كان القرار النهائي بأن تعود هذه الرقيمات إلى العراق فسيكون من المهم، وبل من الضروري، أن يتم الاتفاق مع الحكومة العراقية على السماح بدراستها وتحليلها قبل إعادتها، وذلك لأن القناعة المترسخة لدى الأوساط العلمية والأكاديمية هناك تقول بعدم وجود كفاءات عراقية حالياً تستطيع القيام بذلك، وكذلك ضعف الثقة بالمؤسسة الاثارية العراقية الحالية بسبب البيروقراطية الشديدة، والإدارة المتلكئة بشأن فتح المجال للدارسين بالذهاب الى بغداد، ودراسة الآلاف من الألواح الموجودة في العراق، والخشية من أن يعلو التراب هذه القطع ويطويها النسيان إذا عادت كما غيرها الكثير. لذا لابد من اشتراط الدراسة والنشر قبل الاعادة". ويتفق هذا الطرح، إلى حد بعيد، مع رأي هذه المدرسة القائل بضرورة أن يسمح العراق رسمياً للأكاديميين والمتخصصين بدراسة وتحليل الرقيمات المسمارية العراقية القديمة، والتي يُعتقد بأنها منهوبة أو مسروقة منه، وبلا شهادات تنقيب أو وثائق ملكية صريحة، وأن يلتزم العراق بعدم مساءلة الجهات المالكة، كي يتم تشجيع هؤلاء المقتنين على إخراج ما في أقبيتهم من خزين لا يعلم أحد بأمره (تم طرح هكذا مقترح على الوفد العراقي المشارك في مؤتمر الآشوريات العالمي الأخير على نحو صريح). وثمة طروحات أخرى كثيرة أخطر من هذا تُظهر نوعية العقل الذي ينبغي التعامل معه والرد عليه.
دور المؤسسة الآثارية العراقية
بناء على ما تقدم، نجد لزاما علينا أن نقترح صيغة أخرى لاستثمار رغبة المؤسسات البحثية الغربية المهتمة بدراسة الإرث العراقي القديم، تتمثل بالسماح لها بأن تتبرع للعراق بالتقنيات والتكنلوجيا الضرورية (توجد مراكز خاصة بمسح الرقيمات المسمارية بالأبعاد الثلاثية، والتقاط صور عالية الدقة لها) ليتمكن الباحث من قرائتها وترجمتها للقيام بمسح الرقيمات المسمارية، وترجمتها ونشرها في مجلة "سومر" العراقية، أو بالمشاركة معها، كما هو حاصل في الكثير من المراكز البحثية في الخارج، ولا أدل من ذلك مما تقوم به الدولة المصرية بتشجيع هكذا مؤسسات على التبرع بالمعدات الدقيقة والتفرغ للبحث داخل مصر، وفي المواقع لا خارجها في أقبية المسروقات. ولا بأس من أن يفتح العراق أبوابه ومخازنه للعلماء، لكن بشروطه التي تحقق المصلحة الوطنية، واولها أن يتم الاستثمار العلمي الصحيح في الامر عبر تدريب الكوادر الوطنية العراقية، وتشجيع أقسام دراسات اللغات القديمة وطلبتها على المساهمة في هكذا مشاريع مهمة، وكذلك التشجيع على نشر الدراسات والبحوث عبر المؤسسة الآثارية العراقية، أو بالمشاركة مع المؤسسات الأجنبية، بدلاً من يلقي الأكاديميون التُهم علينا بأننا إما لا نعرف أن نحافظ على إرثنا، أو أننا نخزنه ونقفل عليه ولا نسمح لأحد بدراسته ونشر ما فيه، وهي تُهم لا أسهل من الرد عليها، وتفويت الفرصة على من يقف خلفها.
ــــــــــــــــــــــــــ
* باحث آثاري من العراق
** لهذه الجامعة سابقة مشابهة عُرفت بقضية ألواح جرسانا السومرية، ترتبط بالمقتني الاميركي جوناثن روزين، وجرى تفصيلها في ص 172 من كتاب "الكارثة، نهب آثار العراق وتدميرها" ، وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، 2017.
718 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع