صلاح الأمين
في رثاء برحيــل مهاجر عراقي
رحــل من العراق قديماً القلة من العراقيين وتركوا أرضهم وأهلهم في العراق ولكن قلوبهم وروحهم ضلت في سماء العراق وبغداد يتغنون بها طيلة فترة الهجرة إلى أن رحلوا إلى الباري عز وجل من هذه الدنيا الفانية.
انه العراقي المغترب والمقيم في لندن, كان مفكراً ماركسياً وعازفاً وموثقاً للموسيقى العراقية الأصيلة, ومؤلف قاموس الذي اطلق عليه اسمه (قاموس قوجمان).
ولد الراحل حسقيل قوجمان في بغداد “عام 1929م في محلة بني سعيد على مقربة من منطقة باب الشيخ لعائلة متعددة الأبناء تتكون من (11) فرداً ثلاث منهم بنات وثمانية أولاد, كان والده عامل نجارة, وكان حلهم ضعيفاً مما اجبر حسقيل قوجمان على العمل للمساعدة لإطعام أفراد العائلة, وكانت الحالة المالية ضعيفة والأجر محدود والحاجة كبيرة وماسة.
خلال الحرب العالمية الأولى (والتي تمر ذكراها المائة على انتهائها) وخلال تلك الفترة المضطربة بين المحتل البريطاني والدولة العثمانية وخوفاً من التجنيد الإجباري سافر والده إلى العمارة هرباً من الجيش التركي, وبعد عودته لبغداد لم يوفق في عمله, ثم أصيب بشلل نصفي منعه عن العمل, مما أدى إلى أن تعيش العائلة في ظروف صعبة مالياً, بعد تخلي الأبناء عن العائلة كلياً.
أكمل حسقيل قوجمان “دراسته الابتدائية في مدرسة السموأل الحكومية المخصصة للتلاميذ اليهود, وبعد تأسيسها بثلاث سنوات أغلقت فانتقل إلى مدرسة بني سعيد, وفيها أكمل دراسته الابتدائية, وانتقل إلى مدرسة شماش المتوسطة, ومنها أنتقل إلى الإعدادية المركزية الأهلية في السنك, ثم المعهد العالي في السنك”( ), خلال السنتين الدراسيتين ( 1937- 1938م) و( 1938- 1939 م) كانت صعبة للغاية نظراً لتفشي الحركة النازية بين الطلاب والمدرسين على السواء, أنهى حسقيل قوجمان “دراسته الثانوية عام 1939م, وبعد سنةٍ من البطالة حصل على وظيفة مدرس في مدارس الطائفة اليهودية, وفي عام 1947م ألتحق بكلية الصيدلة حيث قضى فيها ثلاث سنوات”, ولم يكمل دراسته في كلية الصيدلة بسبب اعتقاله يوم 19 شباط 1949م.
عاش الحياة السياسية العراقية، وزار سجون العراق لأكثر من عشرة سنوات، وعاصر كبار وأوائل السياسيين العراقيين من مؤسسي الأحزاب والمنظمات، كتب العديد من المقالات السياسية وترجم الكثير من الدراسات والمقالات, له أكثر من كتاب سياسي، منها “ثورة 14 تموز في العراق وسياسة الحزب الشيوعي عام 1958م, ماركس وماديته الديالكتيكية عام 1981م, ستالين كما فهمته عام 2000م”.
وشارك في مظاهرات سياسية أهمها انتفاضة الجسر "وثبة كانون" عام ١٩٤٨ وكان يمسك بيد قيس الآلوسي احد شهداء الجسر حين اخترقت جسده رصاصة. وتعد انتفاضة الجسر من الأحداث المهمة في تاريخ العراق الحديث التي صرخ فيها العراقيون ضد نوري سعيد وصالح جبر والهوسة المشهورة:
(نوري سعيد القنــــدرة وصالح جبر قيطانـــــة)
وهي المظاهرة التي انتفض فيه العراقيون ضد معاهدة بورتسموث. وفي تلك المظاهرة استشهد أيضاً "جعفر" شقيق شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ، الذي خلده بقصيدة:
اخي جعفر
أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ
وليس كآخَرَ يَسترحِم
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا
ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا
أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم
وأنّ بطونَ العُتاةِ التي مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضم
وأنَ البغيَّ الذي يدعي من المجد ما لم تَحُزْ " مريم "
ستَنْهَدُّ إن فارَ هذا الدمُ وصوَّتَ هذا الفمُ الأعجم
…………………….
تقحَّمْ فمَنْ ذا يلومُ البطين إذا كان مِثلُكَ لا يَقْحَم
يقولون مَن هم أولاءِ الرَّعاعُ فأفهِمْهُمُ بدَمٍ مَنْ هُم
وسيق حسقيل قوجمان مع الشباب الذين سيقوا إلى السجن . وقد تحدث عن تلك الأيام حيث ولشغفه بالموسيقى العراقية صنع عوداً من الخشب بأوتار مهربة من قبل سجان من أهل الكاظمية ، بهذا العود كان يغني مع رفاقه، وفي السجن أيضاً شاهد يوسف سلمان يوسف "فهد" وهو يذهب إلى حبل المشنقة مع رفيقيه حسين محمد الشبيبي وزكي بسيم حيث اعدموا عام ١٩٤٩م.
وفي السجن تعلم اللغة الكردية ولقاءه بالسجناء الأكراد. حرر قوجمان مجلة سجنية أسماها “صوت السجين الثوري” وأصبح رئيس تحريرها، وكتب أكثر مقالاتها, كانت المجلة تصدر كل أسبوع وكان لهذه المجلة تأثير رائع على السجناء, بالإضافة إلى قراءتها أخذ بعض السجناء يشتركون في كتابة مواضيع حسب مستواهم الثقافي والفكري, ثم يتم تنقيحها من قبل قوجمان ونشرها. دَرَس قوجمان لأول مرة في تأريخ السجون دورة كاملة من الاقتصاد السياسي, مع ذلك كان صلباً كالفولاذ ومستمراً في عطاءه, كتب الكثير وتتلمذ على يده
الكثيرون, وجَعلَ مقالاته في السجون معاهد وورش عمل للفكر السياسي وللفلسفة الماركسية, حيث أصبح سجن نقرة السلمان معهد للدراسة الماركسية.
وقد "طرد" من وطنه وأرضه التي ولد عليها كون ديانته "اليهودية" وتم إبعاده إلى إسرائيل، ويذكر قوجمان في مذكراته حول تلك الفترة وهو الذي كان من اشد العارضين لقيام دولة إسرائيل “حين جرى تسفير اليهود إلى إسرائيل كنت في السجن مع عدد كبير من الشيوعيين اليهود, ولم تتوجه السلطات إلينا لسؤالنا حول ما إذا كنا نريد إسقاط الجنسية عنا والسفر إلى إسرائيل أم لا. ولكن الحكومة العراقية أسقطت عنا جنسيتنا بدون استشارتنا ما أدى إلى إرسال كل السجناء الذين انتهت محكوميتهم وأطلق سراحهم من السجن إلى المطار وتسفيرهم إلى إسرائيل رغم إن العديد من السجناء قاوموا ورفضوا السفر. واستمر هذا التسفير حتى مع العدد الكبير الذين أطلق سراحهم بعد ثورة تموز مباشرة حين أعطت حكومة الثورة ما يسمى مرحمة بتخفيض نصف محكومية جميع السجناء العراقيين في السجون بصرف النظر عن الجريمة التي حكموا عنها, وقد تلقى السجناء اليهود المطلق سراحهم تعليمات بعدم معارضة التسفير لأن المعارضة قد تؤدي إلى إرباك حكومة الثورة”.
ومن إسرائيل سافر إلى لندن التي ظل فيها إلى أخر يوم في حياته وظلت روحه طيلة عمره الذي ناهز الثامنة والتسعين يحنو وطائر فوق ارض الرافدين يحلم بها وبميعاد للرجوع لها.... كان زاده الذاكرة المعجونة بالحنين إلى العراق ، يدوّن ذكرياته وإبداعات أبنائه في كتب مشهودة له حيث دوّن المقام العراقي والأغاني العراقية القديمة.
وكان حسقيل قوجمان يتابع عن بعد ما يجري في بلاده العراق . ونقل بعض الأصدقاء عنه قوله عام ٢٠٠٣م بعد الاحتلال الأمريكي للعراق :
الان بدأ الخراب الحقيقي للعراق.
حيث كان لدى حسقيل قوجمان إيمان أن العراق بعد ٢٠٠٣م، سيختلف جذرياً عما بعده.
وكان حسه صادقا وهذا عراق اليوم خرب ويحطم بأيادي الفاسدين والمجرمين.
وقد رحل عنا يوم الأحد المنصرم المصادف 11 تشرين الثاني، 2018م ، وشيع جثمانه إلى مقبرة بشمال لندن.
رحمك الله يا حسقيل قوجمان فان العراق لن ينساك وتبقى ذكراك عبر الأجيال وقصصك خالدة.
901 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع