د. زكي الجابر
عالم يبدأ من نقطة الصفر
إعداد د. حياة جاسم محمد
لو ارتبطتْ رُؤيةُ المحلِّلِ السياسي لِتطوُّر عالَمِنا المعاصر باللحظة التي يتغيَّرُ فيها الرقم 8 إلى 9 لَهانَ الأمرُ، ولما كانتْ هذه المقالةُ بين يَدَيكَ، فَدارُ لُقمانَ ستظلُّ على حالِها ولا من جديدٍ يستجِدُّ تحت الشمس. أَمّا إذا كان الشأنُ غيرَ ذلك الشأنِ بل أكبرُ منه بكثيرٍ فمن حقّي وحقِّكَ أن نَستَشْرِفَ، وهذا الاستشرافُ لن يكونَ إلا وفقَ رؤيةٍ تتقلَّصُ وتتباعدُ في مَنظورِها لخريطةِ العالمِ في العام الذي يَلي والأعوامِ التي تَلِيه!
دَعْني أُشارِكْكَ رُؤيتي لهذا العالَم، وهي رؤيةٌ لم ابتكِرْها ابتكاراً بل جاءت حصيلةً لاستعارَتي نظّاراتِ مُنَظِّرين قلَّبوا جوانبَ الفكرِ وتقلَّبوا في انشغالاتِ البشريةِ وهُمومِها. تذهبُ هذه الرؤيةُ إلى أَنَّ العالمَ أخذ بالانطلاقِ من نقطةِ الصِفرِ، وعلى أرضيَّةٍ تختلف عن تلك التي أَلِفَتْهُ وأَلِفَها، وقدْ بدأت عمليةُ الانطلاقِ هذه منذ مُنتَصَفِ الثمانيناتِ وستُسرعُ خُطاها مع إِطلالَةِ العام الجديد، وإِثْرَ حربِ الخليجِ الثالثة، وتُحَوِّلُ الأممَ المتحدةَ إلى غرفةِ تجارةٍ وإدارةِ علاقاتٍ عامةٍ ومكتبِ استشارةٍ للخدمات.
قد تكون هذه الرؤيةُ مُقيَّدةً بأنَّ حاجاتِ الدولِ كدُولٍ والأفرادِ كأفرادٍ تفوقُ في الأهميَّةِ والمكانةِ حاجاتِ الدولِ الأخرى والأفرادِ الآخرين، وإِنّ الإحساسَ بهذه الحاجات مُتَضَمَّنٌ في الطبيعة الإنسانية التي تضعُ في صدرِ أوْلَويّاتِها المصالحَ الخاصةَ والرغباتِ الذاتيّة. والرؤيةُ هذه لا تُنكرُ أن العالَمَ يتغيَّرُ ولكنه يتغيَّرُ في الإطارِ المحَدَّدِ للتغيُّر. إن اليومَ يختلفُ عن الأمس والغَدَ يختلفُ عن اليومِ ولكنْ بما يخدمُ المصلحةَ الشخصية. وإذا كان صحيحاً أَنَّكَ لن تسبَحَ في ذاتِ النهرِ مرَّتين فإِنَّكَ تُحاولُ أن تُكَيِّفَ التغيُّرَ أو تَتَكَيَّفَ مع التَغَيُّرِ لخدمةِ مصلحتِك.
وقبل أن أمضيَ بكَ إلى التَمَثُّلاتِ والاستشهاداتِ دَعْني أقتَرِبْ معكَ إلى تلك الرؤية على نحوِ ما اقتربَ إليها أحدُ فلاسِفَتِها حين قال بأنَّكَ لو سَمعتَ بِزلزالٍ قد أَتَى على الصين بكلِّ ما فيها من بشرٍ وحضارةٍ فإنَّكَ قد تُعبِّرُ عن أسفٍ عظيمٍ لِما حلَّ بالملايينِ من التعساءِ من أبناءِ تلك الأرضِ، وقد تنتابُكَ موجةُ كآبةٍ نتيجةَ إحساسِكَ المرهَفِ بالمخاطرِ التي يُمكنُ أن تُحْدِقَ بالإنسان، وبالكوارثِ التي تُنذرُ بضياعِ واندثارِ الإنجازاتِ المدنية، وقد تفكّرُ بأسىً عميقٍ لِما سيحِلُّ بمساراتِ التجارةِ العالميةِ من اضطراب، ومن بعدِ ذلك كلِّه تهدأُ في فراشكَ لتغوصَ في كَرَىً عميق. ولو شاء سوءُ الحظِّ أن يقولَ لكَ طبيبٌ مختصٌّ إنّه من أجلِ أن تَبقى على قيدِ الحياةِ يجبُ أن يُبتَرَ غداً إبهامُ كفِّكَ اليُمنَى فلكَ أن تتصوَّرَ كيف تقضي ليلتك؟! إنَّ عِلمَكَ بِبَتْرِ إِصبَعِكَ سيُحيلُ فراشَكَ شوكاً وجمراً في حينِ أنَّ عِلمَكَ بهلاكِ الملايينِ على أرضِ الصينِ لم يمنعْكَ من لذيذِ المَنام.
ثَمَّةَ عباراتٌ ثلاثٌ تتصدَّرُ كتابَ المُنظِّرِ المُستَقبلِيِّ ’’ألـﭬن توفلر‘‘(1) عن ’’تَحَوَّلِ القوة‘‘، الأولى لـ ’’ماوتسي تونغ‘‘: ’’تَنبَعُ القوَّةُ من فُوهةِ البندقيّة‘‘ والثانية لقائلٍ مجهولٍ: ’’النقودُ تتكلّم‘‘ والثالثةُ لـ ’’فرانسيس بيكون‘‘(2): ’’المعرفةُ ذاتُها قوّة‘‘. وليس صعباً ترجمةُ تلك العباراتِ إلى أَنّ القوَّةَ هي في توظيفِ العُنفِ والمالِ والمعرفةِ بأنماطِها العِلميَّةِ والإِعلاميَّةِ والمَعلوماتِيَّة.
ولقد تجسَّدتْ هذه القوةُ في نظامٍ عالميٍّ يزداد رسوخاً مع السنواتِ المقبلةِ، وإِنَّ لهذا النظامِ تشابهاً مع بناءٍ هَرَمِيٍّ في قاعدتِه قوةُ العُنفِ والمالِ والمعرفة التي لا تستطيعُ السياسةُ و ’’الآيديولوجيا‘‘ أن تجدَ مهرباً من تأثيراتِها. وثَمَّةّ دولةٌ كبرَى لا تمتلكُ هذه القوّةَ فَحَسْب بل استعمَلَتْها، ويبدو أن فاعِليَّةَ هذا الاستعمالِ ستستمرُّ في التصاعُدِ مع ما استجدَّ ويستجِدُّ على الساحة العالميّةِ من مُستَجِدّات. إن هذه القوةَ تستعملُ العُنفَ بشَتَّى وسائلِه حين ترى مصلحتَها تقتضي ذلك، وهي تستخدمُ المالَ من خلالِ المصارفِ الكبرَى والتنظيماتِ والنوادي الدُوَليّة حين ترَى أنّ هناك دولاً تحتاجُ لهذا النوعِ من المساعدةِ لكي تبقَى في إطارِ علاقةِ المَدِينِ بالدائنِ، وهي توظِّفُ المعرفةَ من خلالِ الشبكاتِ الإعلاميّةِ الواسعةِ ومراكزِ البحثِ
و ’’التكنولوجيا ‘‘ عَتاداً وبرامجَ في إطارِ علاقةٍ تلقينيَّةٍ تخلو من متعةِ التعلُّم والاستفادة العلمية.
ومع تَعاظُمِ هذه القوةِ بدِعاماتِها الثلاثِ بدأْنا نشاهدُ انحساراً ملحوظاً في استقلاليّةِ إرادةِ ’’الدولةِ القوميةِ‘‘، تلك الاستقلاليّةُ التي بدأْنا نرَى ملامحَها مع بداياتِ انحسارِ الاستعمارِ بشكله القديم، ومع تَنامِي إحساسِ الشُعوب بهُوِيّاتِها الحضاريّةِ وإدراكِها لِمُقَوِّماتها الثقافيةِ والمادية.
إِنّ تَغَيُّرَ مفهومِ استقلاليّةِ الدولةِ القوميّةِ وتَبَنِّي مفهومِ العَولَمَةِ تجاريّاً وإعلاميّاً وتربويّاً رافقه اهتزازٌ في قوةِ الأُممِ المتحدةِ كمُنتَظَمٍ دُوَلِيٍّ يُفتَرَضُ أن تتساوَى فيه الاعتباراتُ التي يتمتَّعُ بها، دونَ تفريقٍ، صغيرُ الدُوَلِ وكبيرُها، كما رافَقَتْها أيضاً عَولَمَةٌ أُخرى تدخلُ في نطاقِ التجارةِ، تلك هي عَولَمَةُ المخدِّراتِ والجِنسِ. وبالرغمِ مما يبدو من اهتمامٍ بمقاومةِ هذا الضَربِ من التجارة فإِنَّ المُلاحَظَ أَنَّ هذا الاهتمامَ لم يأخذِ المدَى الذي يُقرِّبُ انتهاءَ ازدهارِ سُوقِها. إِنّ أَشَدَّ ما يُثيرُ العَجبَ والاشمئزازَ، في وقتٍ واحدٍ، هو العَجزُ المتمثِّلُ في مقاومةِ تلك التجارةِ في حينِ أَنَّ المعلوماتِ متوفِّرةٌ وغزيرةٌ عن مراكزِ زراعةِ المخدِّراتِ وتَصنيعِها وطُرُقِ انتشارِها وتبييض أموالِها، كما أَنَّ المعلوماتِ متوفِّرةٌ وغزيرةٌ عن بضاعة الجنسِ عَبْرَ أسلاكِ التلفوناتِ وأسواقِ الرقيقِ الأبيضِ والأسودِ واستغلالِ الأطفالِ بَلْ ومن خلالِ الأقمارِ الصِناعيَّةِ، والأسوأُ من كلِّ ذلك أَنَّ المخدِّراتِ والجنسَ يرتبطانِ ارتباطاً لا شك فيه بالأمراضِ المُتناقَلَة جِنسيّاً وفي مقدِّمتِها ’’الإيدز‘‘.
وفي إطارِ القوةِ الكبرَى للعنفِ والمالِ والمعرفةِ تترسَّخُ قوةُ الشركاتِ المتعدِّدَةِ الجِنسيّات، هذه الشركاتُ التي لها تأثيراتُها على اقتصاداتِ الدولِ الناميةِ من خلال دَمجِها بِسوقِ النَقدِ الدُوليَّةِ وتعرُّضِها للتقييداتِ الخارجيةِ مِمَّا يُضعِفُ تَحَكُّمَها بسياساتِها النَقدِيَّةِ وبِما يؤدّي إلى انهيارِها الاقتصاديِّ وسَلبِ إرادتِها السياسية. ومن الأمثلةِ التي تُضرَبُ على قوةِ هذهِ الشركاتِ هو هذا النفوذُ الذي تتمتع به ’’ﭭيزا‘‘ Visa و ’’آيْ بي أم‘‘ IBM و ’’فورد‘‘ Ford عَبرَ أقطارِ العالمِ حتَّى يضطَرَّكَ هذا النفوذُ وامتداداتُه إلى التساؤلِ عن الموطنِ الأصليِّ لهذه الشركات!
إن قوَّةَ العنفِ والمالِ والمعرفةِ تجعلُ دولةَ القُطبِ الواحدِ تمتدُّ عَموديّاً وبالشكلِ الذي يجعلُ نظامَها يأخذُ صيغةَ الأبِ القويِّ المُتَنفِّذِ. ومن أبرزِ ما سنشاهُده هو استعانةُ الدولةِ القوميَّةِ بقوّةِ هذا الأبِ العسكريّةِ عند اضطرابِ شأنِها الداخليِّ أو حين يَعجِزُ جهازُها العسكريُّ عن الحفاظِ على الأمنِ الداخليِّ أو الخارجي.
إن هذه الرؤيةَ المُنغَلِقَةَ قد وضعتْ أمامنا صورةً بائسةً لِعالَمٍ يُولَدُ من نقطةِ الصِفرِ، ورسمتْ صورةَ غَدٍ يحفِلُ بالعجيبِ، وإِزاءَ هذهِ الرؤيةِ تَضعُفُ الرؤيةُ المنفتِحةُ التي ترَى جوهرَ الفضيلةِ يكمُنُ في ’’النِيَّةِ‘‘ لِنفعِ الآخرين، وهذا النوعُ من الفضيلةِ المتميِّزِ بفَرادَتِهِ يفتحُ الطريقَ، كما يُظَنُّ، لسعادةِ الإنسان. ومِمَّا يُؤسَفُ له أَنّ هذه الرؤيةَ تظَلُّ في حدودِ الأمنياتِ الطيِّبَةِ والرغَباتِ النبيلةِ في حِينِ أَنَّنا شَرَعْنا بِتَلَمُّسِ تطبيقاتِ الرؤيةِ المُنغَلِقَةِ على صعيدِ الواقعِ مُتجسِّدةً في قوّةٍ عموديَّةٍ واحدةٍ، قوّةٍ يمتزجُ فيها العنفُ والمالُ والمعرفةُ بأنماطِها المختلفة، كما تتجسَّدُ في عَولَمَةِ التجارةِ والجنسِ والمخدِّراتِ وتَفاقُمِ نفوذِ الشركاتِ المتعدِّدةِ الجنسية. وفي إطارِ كُلِّ ذلك تتضاءَلُ مكانةُ الدولةِ القوميَّةِ وتنحَسِرُ قوّةُ إرادتِها السياسيةِ وقُدرتِها الاقتصاديةِ ومتانةِ كيانِها النقديِّ، وتتحوّلُ الأممُ المتحدةُ إلى مجالٍ من مجالاتِ فُروسيَّةِ الكلامِ وتَبادُلِ الخدماتِ والاستشارات.
قد تكون الرؤيةُ المُنغلِقةُ متشائمةً في طابعِها، وتَلَمُّسُها واقعيّاً يجعلُنا أكثرَ تشاؤُماً، وعلى صعيدِ الوطنِ العربيِّ الذي تترصَّدُ كياناتِه عيونٌ طامعةٌ تظهرُ تلك الرؤيةُ في أشدِّ أنواعِ التشاؤُمِ قَتامَةً وقَساوة. إِنّنا كعربٍ سنبدأُ من نقطةِ الصِفْرِ إِنْ لم نكنْ قد بدأنا فِعلاً بذلك مُنذُ أن سيطرتْ على العالمِ قوّةٌ هائلةٌ تمتزجُ فيها ’’تكنولوجيا‘‘ المعرفةِ ورهبةُ السلاحِ وسيطرةُ المال. ومع ذلك فكلُّ ما قلتُ إِنّما هو مجرَّدُ رُؤيةٍ، وقديماً قال شيخُ المعرَّة:
سَأَلتُموني فأَعْيَتْني إِجابَتُكم
مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ دارٍ فَقَد كَذَبا!
________________
1. ’’ألـﭬن توفلر‘‘ Alvin Toffler (1928-2016) كاتب ومفكر أمريكي وعالِم في مجال دراسات المستقبل. أشهر مؤلفاته كتاب ’’صدمة المستقل‘‘ Future Shock. (ويكيـﭙيديا)
2. ’’فرانسيس بيكون‘‘ Francis Bacon (1561-1626) فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنـﮔليزي معروف بقيادته الثورة العلمية عن طريق فلسفته القائمة على الملاحظة والتجريب. (ويكيـﭙيديا)
نشرت قي صحيفة ’’الأحداث‘‘ (المغرب) 17-2-1999.
864 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع