د. زكي الجابر
جامعتنا العربية: الاختيارُ الذي لا مناصَ منه
إعداد د. حياة جاسم محمد
هِيَ في إغفاءَةٍ أو شِبهِ إغفاءةٍ. الرئيس ياسر عرفات يَطوف الأرضَ شَرْقاً وغَرْباً يتساءَلُ ويَسأَلُ ويتحاوَرُ ويُحاوِرُ طَلَباً لاستردادِ أشْبارٍ من أرضٍ استُلِبَتْ ظلماً وبَغْياً، ونُشداناً للاعتراف بدولةِ فلسطينَ عند إعلانِها في آتٍ من الأيام، وإسرائيلُ تُغطِّي أصواتُ طائراتِها القاصفةِ الادّعاءَ بأنّها ستنسحبُ من أرضِ لبنان، وثَمَّةَ لقاءاتٌ بين مَن بِيَدِهم الحَلُّ والعَقْدُ من هذا البلدِ العربيِّ وذاك يتبادلون الرأيَ والهَمَّ حول النفطِ والماءِ والحدود. كلُّ ذاك يجري وغيرُه من أحداثٍ ذاتِ أهميَّةٍ وجامعتُنا العربيةُ في إغفاءةٍ أو شِبهِ إغفاءة، فلا بيانَ يُدَوِّي ولا صوتَ يرتفعُ ولا تعليقَ يُنقَلُ عنها، بل أحياناً نفتقد نَأْمَتَها حتى يكادَ الشكُّ يُساورُ الظُنونَ بأنَّها قد طَوَتْ سِجِلّاتِها ونامتْ نَوْمَةَ اللُحودِ تَسِفُّ التراب، ولا شئَ لدينا إِزاءَها إلّا نُشْدانُ الرحمةِ واستِنزالُ الغفران! والأمرُ في حقيقتِه أَنّها ما زالت حيَّةً، لها مَكاتبُها ومُديروها وأمينُها العامُّ، وأَنَّ كلَّ العاملينَ فيها تَهُزُّ أعراقَهم نَفحَةُ الحياة، فقد سدَّدَتْ بعضُ الدولِ العربيّةِ ما عليها من نصيب، وأَنَّ الرواتبَ للأشهرِ الثلاثةِ القادمةِ مضمونةٌ، وحين تَنصَرِمُ هذه الأشهرُ سيكونُ لكلِّ حادثٍ حديث.
لم تُعْوِزِ البلاغةُ أولئكَ الذين تبادلوا الأحاديثَ وهم يتطلَّعونَ إلى جَسَدِها الشاحِب المُمَدَّدِ في غرفةِ الإِنعاشِ، ويَستَعيدُونَ قولَ ’’المَنَلوجِست‘‘ العراقيِّ عزيز علي ’’جامِعَتْنا اللِّي (الّتي) ما جِمْعَتْنا‘‘.
عند نَشأتِها وصَفَها ’’أوليڤيه كاريه‘‘ Olivier Carré(1) بأَنّها ’’عِبارةٌ عن رأسٍ إنگليزيٍّ راكِبٌ على جسمٍ عربيّ‘‘، وحين شَبَّتْ قِيلَ عنها إِنّها جسدٌ عربيٌّ وله رؤوسٌ بِقَدْرِ عَدَدِ الأقطارِ العربيّةِ المُوَقِّعَةِ على مِيثاقها، وحين بَدَتْ عليها علاماتُ الشيخوخةِ قِيلَ إِنّها جَسَدٌ يُعانِي وتُعانِي أطرافُهُ المُتعدِّدَةُ الشَلَلَ الرِعاشِيّ.
أما أولئك الذين حاولوا الابتعادَ عن التشبيهاتِ وزَخرَفةِ القولِ فقالوا إِنّ هَمَّ القضيةِ الفلسطينيةِ كانَ أكبر من أن تَقدِرَ عليه الجامعةُ حتى أنها تَمَلَّصتْ من ’’اللاءاتِ‘‘ الثلاثةِ المعروفةِ إلى قراراتٍ يُمكنُ عند قراءتِها الخروجُ بشِبهِ اعترافٍ عربيٍّ بإسرائيل. كما قالوا إِنّ اجتماعاتِها واجتماعاتِ مُنظَّماتِها لم تُفلحْ كثيراً في إِدامةِ نَسْغِ حياةِ الاقتصادِ العربيِّ من استثمارِ وتَبادُلِ بضاعةٍ وانتقالِ رؤوسِ أموالٍ وتأسيسِ مُقاوَلاتٍ مُشتَرَكة. وذهبوا أَبعدَ من ذلك فتحدَّثوا عن جُهدِها الذي لا يكادُ يُذكَرُ بالثناءِ في تحقيقِ الأمنِ العربيِّ وتطبيقِ خُطَطِ الدفاعِ العربيِّ المُشترَك. وقد تكون العِلَّةُ كامنةً في التَّمسكِ بقاعدةِ الإِجماعِ في وقتٍ باتت الضرورةُ تفرضُ اللجوءَ إلى قراراتٍ بالأغلبيَّةِ وأَنًّ المساواةَ بين الأعضاءِ لم تكن لِتُتَرْجَمَ إلى واقعٍ ملموسٍ عند اشتدادِ الكُروب.
أما أولئك الذين شُغِلوا بأمرِ المنازعاتِ العربيّةِ ودَورِ الجامعةِ في حَلِّها فيقولون بأَن ميثاقَ الجامعةِ لم يتطرَّقْ إلا إلى وَسِيلَتَي الوَساطةِ والتحكيمِ، ولم تَحفِلْ بُنودُه بأَيَّةِ آليَّةٍ أخرى ذاتِ أثرٍ فاعلٍ في تَسويةِ المُنازعات. والوساطةُ بعد ذلك لا تتجاوزُ كونَها تحملُ طابَعَ الودِّ، والتحكيمُ لا يتجاوزُ كونَه شأناً قضائياً والاستعانةُ به رَهْنَ الاختيارِ لا الإِجبار.
وما دامتِ النَغمَةُ المتصاعدةُ هذه الأيامَ هي نغمةُ ’’حقوقِ الإنسانِ‘‘ فثَمَّةَ مَن يُشيرُ بأِصبَعِه إلى بنودِ ميثاقِ الجامعةِ لِيُعلِنَ بعد ذلك خُلُوَّه من ذكرٍ صريحٍ لِسَنِّ الحقوق.
وهكذا تحتشِدُ التساؤلاتُ حولَ مكانةِ الجامعةِ في الشأنِ أو الشؤونِ السياسيةِ والاقتصاديةِ العربيّةِ، وعن مَدَى نفوذِها في المُعتَرَكِ السياسيِّ الدولِيِّ، وعَمَّا تَمتَلكُه من قوّةِ القانونِ والمالِ والإرادة.
ومع ذلك فالعربُ لا يُمكنُهم أن يَنفُضوا أَيْدِيَهُم عن جامعتِهم لأَنّها على ما هي عليه مِن وَهَنٍ تَظَلُّ جامِعَتَهم. ومن الطريفِ الإشارةُ هنا إلى أن اجتماعاتِ أواسطِ الأربعيناتِ التي مهَّدَتْ لتوقيعِ ’’پروتوكول الاسكندريةِ‘‘ قد شَهِدَتْ نوعاً من الابتعادِ عن كلمةِ ’’الوَحدةِ‘‘ في وقتٍ كانتْ فيه هذه الكلمةُ تطوفُ الشارعَ العربيَّ، واقتصرتِ التسميةُ على ’’جامعة‘‘ بدلاً من تَسمِياتٍ أخرى مثل ’’حِلْف‘‘ و ’’اتّحاد‘‘. ولقد تردَّدَ في هذه الاجتماعات أَنّ ’’الجامعةَ‘‘ تضُّمُ معنى الارتباطِ، ومَوروثُنا يقول بأَنَّ ’’يدُ اللهِ مع الجماعةِ‘‘ و ’’الصلاةُ جامِعةٌ‘‘. ومهما قِيلَ فيها ويُقالُ فإنها الجامعةُ التي أَرَدْناها ونريدُ منها أن تجمَعَنا، فهي الاختيارُ الذي لا اختيارَ لنا غيرُهُ في الوقتِ الحاضرِ، الاختيارُ الذي تَفرضُهُ قُوَى التجاذُبِ في الخارجِ والداخلِ. ففي الخارجِ الذي يُحيطُنا يتجسَّدُ عالَمُ التكتُّلِ الأوروپيِّ والعملاقُ القُطبُ والعَوْلَمَةُ الاقتصاديَّةُ والثقافيَّةُ والإِعلاميَّةُ وامتداداتُ الشركاتِ المتعدِّدَةِ الجنسيّةِ وشراسةُ القُوَى الصهيونيّةِ ومَنْ وَراءَها. وفي الداخلِ ثَمَّةَ إشكالاتٌ اقتصاديّةٌ تأخذُ أبعادَها في تَزَايُدِ سَكَنِ الحَواضِرِ وارتفاعِ مُستَوياتِ البطالةِ واتساعِ الفجوةِ الغذائيَّةِ وانحدارِ مستَوَى البحثِ العلميِّ، وفوق ذلك تَفاقُمُ المُنازعاتِ العربيَّةِ. إِنّ ضَعفَ التمسُّكِ بهذا الاختيارِ يعني تَجاهُلَ دروسِ العِبْرةِ والاعتبارِ، كما يعني إعادَةَ أخطاءِ الماضي وترسيخَ التخلُّف.
ولعلَّكَ تَسأَلُني مُقتَرحاً أو مُقتَرَحاتٍ وليس في نِيَّتي أن أَسطُرَ شيئاً كثيراً، فقد قِيلَ في محاولةِ إِحياءِ الجامعةِ ما هو أكثرُ من الكثيرِ وبالأخصِّ في مجالاتِ تعديلِ مِيثاقِها. وإذا كان لي أن أقولَ شيئاً فلن أتردَّدَ في قول اليَسيرِ المُمْكِنِ، ويتصدَّرُ ذلك الابتعادِ جِدِّيَّاً عن الأعرافِ التي أخذتْ بها الجامعةُ وصارتْ في حُكمِ المُلْزِمَة.
فثَمَّةَ أَعرافٌ في صياغةِ قراراتٍ تتميَّزُ بالمُيوعَةِ وضَعفِ الالتزامِ ومحاولاتِ إرضاءِ هذا الجانبِ أو ذاك، وثَمَّةَ خُبَراءٌ في الجامعةِ بارِعونَ أشدَّ البراعةِ في صياغةِ هذه القرارات. ومن الأَعرافِ التي أَلزَمتِ الجامعةُ نَفسَها بها عَدَمُ تَغييرِ مَسارِ اختيارِ الأمينِ العامِّ ومُساعِدِيه، فإذا ما كان على الجامعةِ أن تَلتَزِمَ بسيادةِ الدولِ المُنضَوِيّةِ تحتَ خَيمتِها وباستقلاليَّتِها وتَساوِيها فإِنَّ عليها أن تَلتزمَ بذلك عند اختيارِ أمينِها ومُديرِها ومُحَرِّكِي دَواليبِ أَدَواتِها، وأن تَحتَكِمَ في كلِّ ذاك إلى الخِبرةِ والكَفاءةِ والمُمارَسَةِ ومَقبولِيَّةِ الوجهِ والسُمعةِ والنشاطِ الفكريِّ والبَدَنِّي.
وبعد ذلكَ وقبل ذلكَ فالجامعةُ يجبُ أن تُرتِبَ اخْتِياراتِها وأن تَجعلَ هَمَّها الأوَّلَ إنعاشَ ما هو مُتراكِمٌ من عملٍ عربيٍّ مُشتَرَكٍ في مجالاتِ الاقتصادِ، ذلك أَنَّ الاقتصادَ قاطِرَةٌ تَجُرُّ وراءَها السياسةَ والقوَّةَ العسكرية. إِنَّ سِجِلّاتِ الجامعةِ العربيّةِ ومُنظُمَّاتِها حافلةٌ بالمُخَطَّطاتِ والمشاريعِ الاقتصاديّةِ التي يَحسُنُ الالتفاتُ إليها من أَجلِ أن نُعيدَ الحياةَ في الجَسَدِ المُرتَعِشِ صُلباً وأطرافاً.
إن العربَ، كلَّ العربِ، قد تجاوزُوا إِزاءَ جامعتِهم حَدَّ الصبرِ، وقديماً قال عُمَرُ بنُ أبي ربيعة، ذلك القَمرُ الذي لا يَخفَى:
كيفَ صَبري عن بعضِ نفسي وهلْ يصـ
بِرُ عن بَعضِ نفسِهِ الإنسانُ؟!
****************
1. ’’أوليڤيه كاريه‘‘ Olivier Carré ولد عام 1935، عالِم سياسي واجتماعي فرنسي متخصّص في شؤون العالم العربي وهو باحث في مركز الدراسات والبحوث العالمية. (ويكيپيديا الفرنسية)
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘ (المغرب)، 9-5-2000.
588 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع