يعقوب أفرام منصور
تعليق على حقائق وملاحظات بخصوص المسيحية والمسيحيين
في اليوم الثاني من هذا العام طالعتُ وقيّمتُ فحوى (عشر حقائق جوهرية عن المسيحية والمسيحيين) بقلم الأستاذ سعد سلّوم، وأُبدي أنّ نظير أو عديل هذا المقال الحقائقي كان قمينًا بصدوره عن كاهن مسيحي متضلّع أو من مطران أو من بطريرك قبل عشرة أعوام في الأقل، بباعث من إفادته إعلاميًا ومعرفيًا واجتماعيًا وثقافيًا.
وفي اليوم الخامس من هذا العام قرأتُ وثمّنتُ مقالاً تحت عنوان (ليس دفاعًا عن مسيحيي العراق فقط ولكن عن عراق المحبة)، يُشكر عليه كاتبُه الأستاذ سعد ناجي جواد، منشورًا على موقع (الكاردينيا)، فقد كشف عن مواقف ووقائع إسلامية مشرّفة تعود إلى عهد الخلافة الراشديّة، من شأنها التنبيه والنصح والقدوة الحسنة والأخوّة بين معتنقي الإيمان الإبراهيمي، والإمتثال لبعض نصوص كتاب الإسلام المقدّس في شأن أتباع السيّد المسيح.
إضافةً إلى الحقائق العشر للأستاذ سعد سلوم، المتخصص في الأقليات العراقية، أعرض الحقائق الآتية بباعث من يقيني أن الغالبية العظمى من الإخوة المسلمين في العراق خصوصًا وفي الأقطار العربية والأجنبية عمومًا ـ بضمنهم كثيرون جدًا من المثقفين ورجال الدين والمدرّسين والمعلّمين والعلماء، دعك من العامّة الجاهلة والأميين ـ لا يعرفون هذه الحقائق، بل بعضهم يتجاهلها أو ينكرها. وكل هذه العوامل السلبية في مجال التنوير والثقافة والمعرفة تولّد أولاً الجهل بالحقائق الجوهرية للديانة المسيحية في عقيدتها الأساسية وفي رموز وطقوس ممارساتهم التقويّة، ينجم عنها بالتالي : عدم الإلفة والتفاهم والتحابب والتناغم بين سواد المسلمين من جهة، وبين المسيحيين من جهة ثانية؛ والمثل في هذا المجال يقول (ألإنسان عدوّ ما جهل).
وهذا الوضع النفسي، وهذا الرأي الخاطئ أو الغامض أو المشوّه وغير المنتعاطف بين الجانبين، يقفان كجدار عالٍ سميك مانع من التآلف والتعاطف المنشودَين والمفيدَين لعيش مشترك مزدهر، رغيد، آمِن، تتجلّى في محبة الوطن والعمل لصالحه، وخلافًا لذلك، أي مع بقاء الجدار الحائل المعنوي بين الديانتين، تُتاح الفرصة والمجال للمتطرّفين والمتشددين والتكفيريين لإقتراف الفتك والتدمير وارتكاب المجازر والمحرّمات بين أفراد وجماعات وجماهير أتباع المسيح وفي كنائسهم، كما يؤدّي إلى لجوء رؤساء وعلماء الدين الإسلامي إلى بث التعصّبات والفتن والفتاوى التي تحضّ على وتفضي إلى الكراهية والتعادي المجتمعي والتناحر والإنغلاق في التعايش والإجتماع تجاه الآخَر المختلف. هذه الأوضاع المنغّصة الموجعة المنفّرة، تلحق الضرر بالوطن العزيز من عدة نواحٍ، فينتفع منها الإرهابيون والإمبرياليون الغربيون الطامعون في خيرات وطننا العراق وأقطار الشرق الأوسط قاطبةً، والأمثلة على هذه النتائج السيئة المحزنة والكارثية بادية للعيان، يلحظها حتى بعض السُذّج والبسطاء منذ عام 2003 وحتى الآن! ومن يرتكبون ويُسهمون في ارتكاب هذه الخطايا الجِسام لا يُحبون وطنهم حتمًا. وماذا يُقال في من لا يحبُ وطنَه؟
من حقائق الإنجيل في ألوهية المسيح ـ التي ينكرها الإخوة المسلمون ويعدّونها كفرًا، لحسبانهم إياها ألوهية منفصلة عن ذات أو روح الله الواحد الآب السماوي ـ أورد هذين النصّين المقدّسين :
1 ـ من إنجيل متّى3/13ـ 17 . في يوم عماد المسيح في تهر الأردن، حيث النبي يوحنا (يحيى بن زكريا) كان يعمّد الناس في الماء للتوبة، ورد هذا النص (ولما صعد يسوع من الماء، إنفتحت له السماء ورأى روح الله هابطًا ونازلاً عليه كأنه حمامة، وإذا صوت من السماوات يقول " هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررتُ كل سرور."). هذا مصداق لقول النبي يحيى (المعمدان) القائل " ألذي أرسلني لأعمّد في الماء قال لي "إن الذي ترى الروح ينزل عليه فيستقر هو ذلك الذي يعمّد في الروح القدس"، وأنا رأيته وشهدتُ أنه هو إبن الله". يوحنا1/ 3ـ5.
2 ـ من إنجيل متى 17/ 3ـ 5 . على جبل عالِ في يوم التجلّي بحضور التلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا، تجلّى المسيح أمامهم، فشعّ وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور، وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتحدّثان معه.....وإذا سحابة منيرة قد خيّمت عليهم، وصوتٌ من السماء يهتف " هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررتُ كل سرور، فله إسمعوا".
لذا لا مجالَ لتكفير أتباع المسيح بسبب اعتقادهم بألوهية المسيح وبكونه إبن الله الخالق الصمد، فاعتقادهم مدعوم برؤية وسماع شهود وجموع بينهم النبي يحيى، وبتدوين قُدسي، وهذه البنوّة ـ كما هي جليّة ـ ليست بنوّة تناسلية بشريّة ناشئة من مشيئة رجل، كما يشهد القرآن الكريم ( سورة مريم ألآيتان 19 و 20 ) . فالله تعالى روح قدّوس، والأرواح لا تتناسل. وأفضل مثال لتشبيه " التثليث" في "واحد" في العقيدة المسيحية هو مثال قرص الشمس، فهو " الكل" الكامل ويضم العنصرَين :. نورَه وحرارتَه، وهما يصدران عنه بدون انفصال. كما ان نور وحرارة الشمس لا ينفصلان عن قرصهما. ثم أليس المسيح هو القائل عن ذاته [ أنا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في الظلام] ؟ يوحنا 8/12 .
وهنا تجدر الإشارة إلى التعريف بمدلول شبه الجملة (كلمة الله). ف (الكلمة) في هذا المجال عند المسيحيين هي مؤنّث لفظي ومذكّر معنوي: هو الله الذي صار إنسانًا، وهذا مصداق لمطلع إنجيل يوحنا اللاهوتي أحد التلاميذ المقربين إلى المسيح، وذلك في إشارة إلى مطلع (سِفر التكوين) : [ في البدء خلق الله السموات والأرض] به كان كل شيء، في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله. هو كان في البدء عند الله. به تكوّن كل شيء، وبغيره لم يتكوّن أيّ شيء ممّا تكوّن. فيه كانت الحياة، والحياة هذه كانت نور الناس. 1/1ـ 5.
إضافةً إل ذلك، ثمة شواهد أخرى عديدة على ألوهية المسيح، وأقوى شاهد هو إقامته (لعازر) من القبر حيًا في اليوم الرابع بعد موته ، إستنادًا إلى إنجيل يوحنا (11/ 39 ـ 45). ثم شاهد قيامته من الموت في اليوم الثالث من دفنه (الفصل 20 ). ثم إرتفاعه إلى السماء أمام التلاميذ وآخرين، إستنادًا إلى إنجيل لوقا (24/51)، مع العلم أن ارتفاع المسيح حيًا إلى السماء منصوص عليه في القرآن الكريم (سورة آل عمران آية 54 ).
فمع هذه المعجزات الآنف ذكرها هل يُخَيَّل لأيّ مؤمن عاقل إمكانية أن يُنَسِّب حصولها واجتراحها إلى كائن بشري، وليس إلى كائن إلاهي؟!
ومن كتاب (ألعهد القديم) من (ألكتاب المقدّس) يكفي أن أختار نصًا واحدًا شاهدًا على ربوبية المسيح، هو من سِفر أشعيا ـ الفصل 9 الذي أفاد بأن الله سيُخرج الشعب اليهودي من الضيقات والشدائد والمتاعب والمعانيات والأحزان "عندما يتّقون الله من كل قلوبهم" كما في الآيتين 6 و 7 من هذا الفصل المنبئ بمجيء المسيح المنتَظَر (ألمسيّا) المخلّص :[ لأنه يُولد لنا ولدٌ ، ويُعطى لنا إبنٌ يحمل الرياسة على كتفه، ويُدعى إسمه عجيبًا، مشيرًا، إلاهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام، ولا تكون نهاية لنموّ رياسته والسلام اللذين يسودان عرش داود ومملكته ليُثبّتها ويعضدها بالحق والبِرّ، من الآن وإلى الأبد. إن غيرة الأب القدير تُتَمّم هذا.] وقد تحققت نبوءة الرجاء هذه في مولد المسيح، وإقامة ملكوته الأبدي، فقد أتى ليخلّص كل الناس من عبوديتهم للخطيْة. لكن اليهود لم يتّقوا الله "من كل قلوبهم" بل اعتمدوا على جهودهم وذكائهم وأساليبهم، وكان ملوكهم أردياء غالبًا، مع أن المسيح جاء ليُخلّص الشعب اليهودي قبل غيره، فوُلد بينهم، لكنهم لم يقبلوه، بل اضطهدوه وحكموا عليه بالموت. أمّا الذين قبلوه، فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله.(كتاب التفسير التطبيقي للكتاب المقدّس ـ ص 1392).
لو تمعّن الذين يجهلون حقيقة توحيد الله الكوني الأحد الأزلي، كما وردت في البسملة والمجدلة وقانون الإيمان و"الصلاة الربّيّة" التي علّمها المسيح لتلاميذه، لأدركوا بيُسرحقيقة كونهم غير مشركين. فخلاصة هذه الصلوات هي إيمانهم بإلاه واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، وكل ما يُرى وما لا يُرى، وإيمانهم بالعقاب والثواب واليوم الآخِر، والخلود للأرواح في النعيم السماوي أو العذاب الجهنّمي. وفي العالم كثيرون لا يرومون معرفة حقيقة توحيدهم برغم انصرام عشرين قرنًا على انتشارها في أرجاء المسكونة.
تعقيبًا على رأي الأستاذ سعد سلّوم ، في مستهل مقاله الذي أورد فيه (عشر حقائق عن المسيحية والمسيحيين)، المنشور على المواقع الألكترونية في مطلع العام الحالي ( بأن كتبنا التاريخية ومناهجنا الدراسية خلت من ذكر المسيحيين من مسرح التاريخ العربي ـ الإسلامي، وأن الأمانة التاريخية تستوجب التأكيد والإعتراف بأن المسيحيين يُعَدّون أهم أعمدة بناء الحضارة الإسلامية، وصنّاع الفضاء الثقافي الذي دفع المسلمين لمواجهة أسئلة أنطولوجيّة كانت كفيلاً بانطلاقة الحضارة الإسلامية عالميًا.)، أفيد بأنّ الأب الدكتور جورج شحاتة قنواتي في كتابه (المسيحية والحضارة العربية) قد أبدى ملاحظة شبيهة لفحوى الرأي الآنف نصّه، في تمهيده لكتابه المذكور، إذ قال (ولمّا دعاني صديقي الدكتور محمد خلف الله أن أحضر بحثًا في مساهمة المسيحيين في تكوين الحضارة العربية، وأثرها في الغرب، سُررتُ لدعوته لأنها جاءت بمثابة إستجابة لأمنية طالما داعبت ذهني وإحساسي العميق اللاشعوري). ورجا الأب قنواتي أن يكون كتابه قد أسهم (في تعريف بعض مظاهر حضارتنا العربية العظيمة، وإبراز ما قام به المسيحيون العرب من علماء وشعراء ومؤرّخين ولاهوتيين مع إخوانهم المسلمين يدًا بيد ".
في هذا الصدد أذكر في أواسط ثمانينيات القرن الماضي بروز رغبة في بغداد على مستوى ثقافي وإداري عالٍ، مؤدّاه " إعادة كتابة التاريخ"، وتمخّض عنها مؤلفات تاريخية شبه موسوعية قيّمة بجهود لجنة تأليفية ضمّت نخبة من الباحثين العراقيين، منها كتاب (حضارة العراق ج 8 ـ 1985 عن التربية والثقافة والعلوم في العصور العربية الإسلامية) وكتاب ضخم (ألعراق في التاريخ ـ 1983) ، وفيه لم أجد ذكرًا للترجمة إطلاقًا من قِبل أساطينها السريان المسيحيين ولا المسلمين بفضل تأسيس مدينة بغداد، غير هذه الفكرة ( في سياق أسباب الإزدهار في حركة التأليف والتدوين، حيث عزا الإزدهار إلى(تراكم المعرفة خلال قرنَين). لكن هل كان " ألتراكم المعرفي" ليحصل من دون جهود جبّارة من الترجمة خلال قرنين من مؤلفات التراث اليوناني والسرياني والهندي؟
أما في كتاب( حضارة العراق)، فقد وردت في صفحاته 256، 291، 362، 378، 379، " ألجهود الرائعة التي بذلها المترجمون السريان في النقل من اليونانية والسريانية، فضلاً عن شروح بعضها ، كما أيّد ذلك الدكتور إبراهيم مدكور المصري" ـ . ثم مدرسة بغداد الفلسفية في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري حين كان يجتمع أعضاؤها وفيهم المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي والملحد والمانوي والزرادشتي ليناقشوا أية مشكلة ـ ثم لماذا استطاعت الأمة العربية الإفادة من التراثين اليوناني والسرياني في قترة وجيزة لتحقق تقدّمًا كبيرًا في جميع العلوم؟ ـ ثم ورود أسماء بعض المترجمين : إبن البطريق، يوحنا بن ماسويه، حُنَين بن إسحق، قسطا بن لوقا، أولاد موسى بن شاكر، الحجاج بن مطر، ابن شهدي الكرخي، محمد الفزاري الذي ترجم للمنصور كتابًا في الحساب ثم في حركات النجوم.
مع ذلك، لم أجد في الكتابين ذكرًا صريحًا لدور المسيحيين في العراق خصوصًا وفي الأقطار العربية عمومًا ـ الدور الفعّال المعلوم في بناء أعمدة الحضارة العربية الإسلامية، لا في مقدّمة عامّة لكل من الكتابين ولا في سياق ملائم ضمن تضاعيف الكتابين؛ مع أن بعض المؤرّخين الغربيين أدرك وذكر هذا الدور المتميّز الدال على الفطنة والتفاعل والتقابس المجدي لصالح التحضّر، وذلك في الترجمة والتأليف في سوريا والعراق في مجال علوم ومعارف الهند والإغريق والسريان في الطب والصيدلة والجراحة والهندسة والكيمياء والطبيعيات والميكانيك والجغرافية والفلك والفلسفة والفنون وما وراء الطبيعة. وهذا النقص يؤكّد صحة ملاحظة الأستاذ سعد سلوم، وقد عوّض عن هذا النقص بمقدار قليل المؤرّخ اللبناني المصري جرجي زيدان في مواضع من كتابه الموسوعي (تاريخ التمدّن الإسلامي ـ 5 أجزاء) وخصوصًا في ميدان الترجمة، في حين عوّض عن النقص الكبير الأب قنواتي في كتابه الآنف ذكره.أمّا النقص في المناهج الدراسية (الإعدادية والجامعية خصوصًا)، فيعود إلى النقص في المؤلفات التاريخية قديمًا وحديثًا، وليس في العراق فقط بل في جميع الأقطار العربية.
781 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع