بقلم علاء الدين صادق الأعرجي*
مفكر عراقي يُعنى بأزمة التخلف العربي
في الذكرى الحادية والسبعين لوثبة كانون الكبرى عام 1948:ذكريات ومفارقات مُلهـِمَة ومؤلـِمة
في كانون الثاني/ يناير من كل عام، تعود إلينا ذكريات وثبة العراق الشعبية الجبارة في عام 1948، التي اسقطت حكومة صالح جبر ومعاهدة بورتسموث.
وهي بمثابة ثورة شعبية بكل المقاييس، إذ واصلت الجماهير الغاضبة تظاهراتها السلمية، طوال الفترة من 4/1 إلى 27 /1/1948. وخلالها تحولت إلى معارك دامية سالت فيها الدماء الغزيرة، لاسيما من جانب زملائي الطلاب العزّل في معارك مشهودة، من أهمها؛ واقعة الكلية الطبية ومعركة كلية الهندسة ومعركة الجسر ومعركة باب المعظم. وحدث في أثنائها عصيان عام أغلقت خلاله جميع المرافق العامة والخاصة. وسقط في هذه التظاهرات المئات من الطلبة والمواطنين العاديين، بين قتيل وجريح، نتيجة استخدام الذخيرة الحيّة من جانب شرطة النظام، ومن بين الضحايا الذين نعرفهم: قيس الألوسي وشمران علوان وجعفر الجواهري.
وكان لي، شرف المشاركة في جميع الأيام الحاسمة والدامية للمعركة. وقد شهدت سقوط بعض الزملاء المتظاهرين، كان أحدهم يتقدم خلفي مباشرة.
أزيز الرصاصة القاتلة
مع بضعة أفراد من الطلبة، كنت أحاول كسر الحصار الذي ضربته الشرطة على مدخل الكلية الطبية المفضي إلى الشارع العام، القريب من ساحة باب المعظم. وقد تجمعنا فيها منذ الصباح الباكر، مع بعض المتظاهرين الذين يعدون بالعشرات، ينتسبون إلى بعض المدارس الثانوية وأفراد من طلبة كلية الطــــب؛ للخــــروج في تظاهرة سلمية. وأتذكر أنني وبعض الزملاء أخذنا نهدم السياج الخارجي للكلية بعد أن نفدت عدتنا من الحجارة القليلة التي نحتاجها لنقذف بها قوات الشرطة المدججة بالأسلحة والسيارات المدرعة التي نصبت فوقها الرشاشات. وكنا نقذف الحجارة، والرصاص يلعلع فوق رؤوسنا.
ما يزال أزيز الرصاصة التي أخطأتني، يرن في أذني، وكأنني على موعد معه في مثل هذه الأيام من الشهر الأول من كل عام، منذ أكثر من سبعين عاما. وأتذكر بوضوح أنني كنت أول المتقدمين وأكثرهم تقحما ً وحماسة ً، لكسر الحصار فتجاوزت السياج وأصبحت في منتصف الشارع العام تقريبا، وبيني وبين خط الشرطة بضعة أمتار. وفجأة وجدت عيني تلتقي بعين أحد أفراد الشرطة الذي تسيل من رأسه الدماء من أثر حجارتي الجارحة، وهو يصوب بندقيته نحوي، فأيقنت أن هذه نهايتي. ودوت الرصاصة القاتلة التي مرت من طرف أذني اليسرى فأصابت رأس زميلي الذي كان يتبعني مباشرة؛ ورأيت رأسه يتفجر وهو يهوي على بلاط الشارع. أقول؛ ما يزال ذلك الأزيز الصارخ والقاتل يعصف في طرف أذني، ويثير في أعماقي مشاعر يختلط فيها القدر والإرادة العلوية والمصير المحتمل أوالمحتوم، فضلا عن تساؤلات مرهِقة، في سرّ الوجود وسر الموت والخلود. وهل أخطأتني تلك الرصاصة عمداً أو صدفة، لتستقر في رأس صاحبي الذي كان يتبعني مباشرة، فكتب الله ليّ الحياة وكتب له الموت، الذي كان بيني وبينه ربما أقل من شعرة؟. وهل أنا أسعد منه حظا أم العــــكس هوالصحيح ؟ وما الفرق بين ان يـُقتل الإنسان في العشرين أو يمــــوت في الثمانين، إذ 'كل نفس ذائقة الموت'؟ وهل أكرمني الله بهذه المِنـّة أو عاقبني ؟ أليس من الأشرف أن يموت الإنسان واقفا ً شامخا ً من أن يقضي نحبه، ضعيفا نائما وهو في أرذل العمر؟ وماذا جنيت فعلا ً من هذه الأعوام الزائدة التي عشتها؟
القضية الطائفية لم تكن مطروحة بل مرفوضة
ومن جهة أخرى، فإن أهمية التذكير بهذه 'الوثبة' والتعبير عن بعض جوانبها، على الصعيدين الشخصي والتاريخي، ينبثق من كونها تعتبر مثالا جليـّا لتقييم الزعيم أو القائد السياسي، بناء على منجزاته وتاريخه وتطلعاته ومشاعره القومية والوطنية، وليس بناء على انتمائه الطائفي، في أي حال من الأحوال.
ولئن نستعيد أحداث تلك الفترة ونستذكر بعض الأمثلة، فإننا نلاحظ أن المسألة الطائفية لم تكن مطروحة أصلا. فرئيس الوزراء، صالح جبر، الذي يمثل أول رئيس وزراء شيعي تسلم الحكم بعد مرور قرابة ثلاثة عقود على إنشاء الحكم الوطني في العراق، فرفضه الشعب العراقي بأجمعه، مع أن الشيعة يشكلون النسبة الأكبر.
وقد كان الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، وهو من أسرة شيعية عريقة، من أشد المحرضين على إسقاطه بقصائده التي تلهب مشاعرالمتظاهرين. وقد استشهد شقيقه جعفر برصاص شرطة صالح جبر، فرثاه بقصيدة عصماء تجاوزت المئة بيت، أثارت حماس الجماهير، مطلعها:
أتعلمُ أم أنت َ لا تعلم ُ
بأن جـِراح الضحايا فم ُّ
يصيح على المدقعين الجياع
أريقوا دماءَكمُ تـُطعموا
ويهتف بالنفر المُهطعين
أهينوا لئامكم ُ تـُكرموا
ولهذه القصيدة التحريضية المثيرة دلالات مهمة، تكشف عن مدى رفض العراقيين للنزعة الطائفية. علما أن الأحزاب الوطنية المعارضة كانت تضم مختلف الطوائف والأديان، بما فيها الطوائف السنية والشيعية. كما يمثل كاتب هذه السطور، الذي ينتمي إلى أسرة شيعية محافظة، مثالا واقعيا حيا، لمدى تحرر الشيعة، من قياس الزعيم بمسطرة التشيع والتسنن، بل أن هذا الموضوع لم يكن مفكرا ً به أصلاً.
وهذه الشذرات تعبر عما عاناه كاتب هذه السطور من صعاب، وما تعرض له من أخطار، أثناء تلك الوثبة، ثائرا ضد صالح جبر، بصرف النظر عن شيعيتة الأسرية ، بسبب موقف الأخير المهادن للإنكليز، والمعادي للشعب العراقي. وقد حاول صالح جبر، في أواخر أيام الوثبة، العزف على وتر كون التظاهرات التي انفجرت ضده، كانت بسبب انتمائه المذهبي، وذلك بقصد تحويل الشيعة، الذين كانوا يمثلون أكثرية االجماهير الثائرة، عن موقفهم المعادي له إلى موقف المؤيد له.
ولكنه فشل في هذا المسعى. ففي الأيام الأخيرة للوثبة، أتذكر تماما، أنني لاحظت، أثناء تظاهراتنا الصاخبة والدامية، وفي وقت أصبحنا فيه مسيطرين تماما على شارع الرشيد بكامله، أي من باب المعظم إلى الباب الشرقي، الذي يمثل قلب العاصمة، والذي خلا تماما من قوات الأمن والشرطة؛ لاحظت ظهور منشورات تشير إلى ذلك. فحرصنا على تمزيقها أو إهمالها، وكنت من أكثر المتحمسين لرفضها. ولم تؤثر هذه المحاولة الأخيرة في إنقاذ صالح جبر، مما اضطره إلى الاستقالة، أو بالأحرى الإقالة، فسقط في مساء 27/1/1948، لاسيما بعد 'مذبحة الجسر' التي حصدت العشرات من المتظاهرين. وجدير بالذكر، أنه على الرغم من الغياب الكامل لقوات الأمن، لم تشوه هذه الثورة أية عمليات كسر أونهب لأي من أهم الشركات والمحال التجارية الكبرى التي كانت تملأ شارع الرشيد، آنذاك. علما أن معظم تلك المحال المشهورة كانت مملوكة لجهات أجنبية أو يهودية أو مسيحية مثرية . وأذكر منها على سبيل المثال فقط: بيت لنج، وحسو أخوان، ونوفيكس، وكان المحل الأجنبي الشهير والمعروف بـ'أوروزدي باك'، ولكنه لم يصبْ بأي سوء.
من أهم الأحزاب السياسية الرافضة للمعاهدة هي: حزب الاستقلال، الذي يمثل أهم حزب عربي قومي، كان يرأسه الشيخ محمد مهدي كبه، وهو عميد أسرة 'بيت كبة' الشيعية العريقة (علماً أن مساعده الأقرب، هو صديق شنشل، كان سنيا. وهذا دليل آخر على ان هذا الموضوع لم يكن مطروحا أصلا ً) - والحزب الوطني الديمقراطي، يرأسه كامل الجادرجي، من أسرة سنية معروفة، وحزب الأحرار وحزب الشعب والحزب الشيوعي العراقي، وهي أحزاب فيها خليط من الشيعة والسنة والمسيحيين واليهود، على السواء، دون أن تكون قضية التفرقة الطائفية أو الدينية مطروحة أصلا.
نعم، كنا نعلم نحن الطلبة أن تلك الأحزاب وقفت ضد إبرام المعاهدة وضد الحكومة، ودعت الجماهير إلى التظاهر لإسقاطهما؛ إلا أن معظم التظاهرات كانت عفوية، أكثر من أن تكون منظمة وموجهة سلفا. فجميع المظاهرات التي اشتركت فيها، لم تكن فيها قيادات واضحة منظِمة، بل كانت شبه فوضى تتحكم بها الآراء الشخصية الآنية. ومع ذلك كانت هناك توجيهات تنتشر بيننا بشأن مكان وزمان اللقاء في اليوم التالي مثلا.
وفي سياق النزعة الطائفية، مع أنني أوردت بعض الأدلة الواقعية الثابتة بشأن رفضها، ولكنني أستدرك، كي أكون مخلصا مع نفسي ومع القراء، فأقول، إن هذه النزعة يمكن أن أصورها كالجمرة القابعة تحت الرماد؛ هناك أحيانا ً من يؤججها، جهلا ً أو عمداً، خدمة لأغراض شخصية أو خارجية تخدم 'الآخر'. أما أصولها التاريخية، فمعروفة، بيد ان جذورها العميقة، ربما تكون غامضة، بالنسبة للكثير.
لذلك حاولت بحثها في كتاب 'أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل' بطرح رأي متواضع، في سياق نظرية 'بداوة العرب الفاتحين لعدم مرورهم بمرحلة الزراعة على نحو كاف'، مما أدى إلى تمسكهم بالتعصب القبلي الذي حاربه الإسلام بشدة. والحديث يطول في هذا الصدد.
ذكريات ومفارقات شخصية
في معظم تلك الأيام العصيبة والمثيرة، التي منع فيها منع التجوال كان كاتب هذه السطور يخرج من بيته، الذي يقع في الحي السكني الهادئ جدا في ذلك الوقت؛ الكرادة داخل (شارع هويدي)، والذي كان يعتبر بعيدا عن مركز بغداد (أصبح اليوم جزءا من المركز، وحدثت فيه غالبا كثير من التفجيرات)؛ أقول، يخرج متلصصا، في فجر كل يوم من الأيام الحاسمة للوثبة. وأحيانا يلقي نظرة دامعة على أخواته المستغرقات في أحلامهن، ويتوقع أنها قد تكون النظرة الأخيرة. ولا ينسى أن يحمل في جيبه شيئا من كسرات الخبز 'البايت' أو اليابس، (من جوة النجانة: طست كبير مقلوب على طبق أكبر من القش، حيث المكان الذي تحفظ فيه بقايا الخبز)، وبعض التمرات الجافة (أرخص أنواع الزهدي الجسب)، وكتاب مدرسي للتمويه، ليبدأ رحلته الخطرة والمرهقة على الأقدام، التي تتجاوز الساعتين، متخفيا بين الأحراش، والأشجار الباسقة في بساتين 'الكرادة' الكثة وخلف جذوع النخيل التي كانت تملأ المنطقة، كلما لمح من بعيد مفرزة شرطة تحفظ أوامر منع التجوال المشدد. وإذا وصل مركز المدينة، بعد الباب الشرقي، فإنه يتحاشى الشوارع الرئيسية، فيتسلل عبر'الدرابين'، أي بين الأزقة الأثرية الضيقة في أحياء بغداد العتيقة، التي كانت خالية من المارة على غير العادة، ومنها، حسب ما أتذكر: الحيدرخانة وسيد سلطان علي وباب الشيخ والصدرية والدهانة والسويدان وعقد النصارى والشورجة فحي الميدان، متوجها إلى حي المعاهد العالية في الباب المعظم. وهكذا يتجنب دوريات الشرطة الراكبة والراجلة، التي كانت منتشرة في جميع الطرق الرئيسية والساحات العامة لتفعيل منع التجوال.
القبض عليه متلبسا ً بجريمة خرق الأمن
ومع ذلك لم ينج ُ من ملاحقة شرطة النظام. ففي بعض المرات قبضوا عليّه متلبسا بجريمة انتهاك 'حُرمة' أوامر منع التجوال. فيقول للشرطي ببراءة: 'عمي، آني رايح البيتنة، بعكد السويدان، جنتْ ببيت صديقي 'محمد' دندرس للامتحان' وأعرض كتاب الفيزياء الجاهز تحت أبطي. (أي: إنني عائد إلى بيتنا في حي 'السويدان'، وكنت مع صديقي 'محمد' نحضر للامتحان ). ويتغير تحديده لحي إقامته، الكاذب، تبعا لمكان إلقاء القبض عليه.
في إحدى المرات وجد نفسه وجها لوجه أمام ضابط شرطة عملاق، أخذ بتلابيبه بعنف ورفعه عن الأرض، فشهق من الهلع، وحاول أن يصرخ دون جدوى، وهذه الأصابع الجبارة تطبق على عنقه بقوة، فحشرجَ وهو يختنق، وذكر الله وتشهد في سره، لأنه شعر أن نهايته وشيكة. ولكن فجأة يتوقف هذا المارد ويفك عنه قبضته القوية وهو يحملق في وجهه، ويهتف قائلا: علاء ابن الأستاذ السيد صادق ؟ ويأخذه بين يديه برفق ويجلسه على 'دكة' على قارعة الطريق، والصبي يسعل بشدة ويشعر وكأن صدره يتمزق، وأمعاءه تصعد إلى حلقه، وهو يتحسس عنقه، ولا يصدق أنه تخلص من قبضة هذا الجبار اللعين. وضابط الشرطة يطمئنه ويحاول أن يسقيه ماءً من 'مُطارتة'(ترموس بدائي). وبعد أن هدأ من روعه قليلا، تجرأ الصبي فرفع ناظره الى ضابط الشرطة، فعرفه: أحد أبناء الفلاحين الطيبين من سكان 'الكرادة' الأصليين، الذين كانوا يحرصون على زيارة والد الصبي لتقديم التمنيات في أعياد الفطر والأضحى، ويتمتعون بقصصه وأحاديثه التاريخية والدينية الشيقة. وكان الصبي يقدم لهم الحلوى و الشاي و'الكليجة' العراقية اللذيذة، المحشية بالتمر أو بالجوز مع السكر( كعك العيد). التي تصنعها وتخبزها والدتي بـ'التنور'، فنساعدها، أخواتي وأنا، في عجن العجين بالدهن البلدي الحرّ، في 'طشت' شاسع، طوال الليلة التي تسبق العيد. وكان هذا الشرطي / الصبي، يحضر غالبا مع والده فيقدم له علاء شراب البرتقال، بدل الشاي، مع قطعتين كبيرتين من الكليجة. وكان يكبرني عدة سنوات، سمعت أنه دخل مدرسة الشرطة بعد الصف الثالث المتوسط، فأصبح ضابط شرطة يحترمه الفلاحون.
والأهم أن 'الولد' الشقي علاء أصبح مطلق السراح، فتنفس الصعداء وحـَمَدَ الله على السلامة، بل انتعشَ وانتفشَ، حين اعتذر منه الضابط بكل أدب وأسف أمام أفراد الشرطة الاخرين، وأردف قائلاً: 'والله ما اعرفتك'. لكن الضابط استدرك وفاجأه بسؤال أحرج الصبي، قائلا: 'لكن أنت وين رايح بعيدا عن بيتكم في هذا اليوم العصيب ؟'. وهنا أخذ الصبي كتابه، واستجمع ما تبقى من شجاعته، وانتصب قائماً، وقال له بكل تحد ٍ وكبرياء وبلاغة، وهو يبتعد بسرعة: 'أنا سأقوم بواجبي الوطني النبيل، وأنت مضطر للقيام بواجباتك القذرة'. وأطلق ساقيه للريح، قبل إنهاء عبارته الأخيرة، والشرطي يصرخ: عد من حيث أتيت، فلدينا تعليمات مشددة بمنع التظاهرات بأي ثمن، وإلا سألقي القبض عليك... لكنه كان قد أبتعد كثيرا قبل أن ينهي كلماته، مستغلا ً تسامُح هذا الشرطيّ الطيّب.
*كاتب عراقي مقيم في نيويورك
835 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع