يعقوب أفرام منصور
ألأخوّة في الإيمان الإبراهيمي
في مقال بقلم الأستاذ قاسم محمد محمود نشرته جريدة (بابل) البغدادية في 6-5- 1992 في ركن "الدين والحياة" عن كتاب "ألعهد القديم"، جاء فيه [ وجوب كون ورثة (ألعهد) موحّدين ولا يشركون في الله شيئًا؛ وبما أن اليهود ـ إستنادَا إلى التوراة ـ قد قلّدوا المصريين ـ بعد خروجهم من مصر ـ في عبادة (العجل) عندما تركهم موسى (ع) ليرتقي الجبل، كما عبدوا (البلعيم) ربّ الكنعانيين، فاليهود، إذن لا يستحقون كونهم ورثة " العهد "]
لكنّ عبادة اليهود المؤقّتة آنذاك للعجل والبلعيم لم تشمل اليهود كافّة أولاً، كما لا تعني إستمرارها بينهم بعدئذٍ ثانيًا، لأن موسى أخيرًا أفلح في إقناع بني إسرائيل بالتوحيد. والدليل على ذلك تقديس "تابوت العهد" الذي إحتوى لوحَي الوصايا العشر وعصا موسى، ثم تشييد الهيكل والتعبّد لله وفق طقوس معيّنة، وتتابع الأنبياء من بني إسرائيل، إنتهاءً بالمسيح ابن مريم التي من سلسلة نسب النبي داوود، وبمولده إنتهى "ألعهد" الذي بين الله، وبين ذرية إسحق بن إبراهيم. قال يوحنا الإنجيلي عن المسيح: " جاء لخاصّته، وخاصّته لم تقبله".
إن إبراهيم أبو المؤمنين الموحّدين، فكلّنا ـ نحن الذين نؤمن بإلاه واحدٍ أحدٍ صمَد: من يهود ومسيحيين ومسلمين وصابئة وأحناف، أبناء إبراهيم بالإيمان. فهو يوحّدنا جميعًا، مع وجود الخصوصيات لكل دين من هذه الخمسة. أمّا صفة أو تسمية (حنيف و أحناف)، فتعني المستقيم أو القويم أو كل من كان على دين إبراهيم، أو الموحّد في دينه. ونعت أيّ دين بالحنيف لا يخرج عن هذه المعاني مطلقًا.
لمّا كان إسماعيل إبن (هاجَر) ـ الأمة المصرية ـ فهو لا يرث مع إبن (الحُرّة الشرعيّة) سارة والدة إسحق، وعلى هذا الأساس، يرث إسحق، الإبن الشرعي، مالَ وعهدَ أبيه إبراهيم، إستنادًا إلى العهد اذي أعطاه الله إلى إبراهيم طبقًا للتوراة (تكوين 17 :2). ثم إن الآية 20 من الفصل 17 من التكوين تنصّ نصًا صريحًا : "وأمّا إسماعيل، ققد سمعتُ قولك فيه، وها أنذا أباركه وأنمّيه وأُكثره جدًا جدًا، ويلد إثني عشر رئيسًا، وأجعله أمّةً عظيمة". أمّا عن إسحق، فتنص الآية 21 من الفصل 17 على أن الله قال لإبراهيم: " غير أن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة ...". والقرآن يصدّق ذلك بقوله في الآية 27 من سورة العنكبوت : " ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوّة والكتاب". فالمعلوم أن كل أنبياء اليهود هم من بني إسرائيل الذي هو يعقوب بن إسحق. (أنظر "تفسير الجلالين") لهذه الآية.
بيدَ أنه من المعلوم جيدًا أن ليس كل اليهود إسرائيليين خالصين، بل هم أشتات من أمم مختلفة دخلتها اليهودية، فالشعب الإسرائيلي اليهودي حاليًا – ومذ قرون – غير نقي من أصل واحد عبراني (من ذرية إسحق)، وأحسن مثال على ذلك هو " يهود الخزر" الذين تغلغلوا في العنصر السلافي الذي يتميّز بزرقة العيون بشكل غالب. والراجح إن أغلبية يهود أوربا الشرقية يتحدّرون من أولئك يهود الخزر.(أنظر تفاصيل ذلك في كتاب الأستاذ نجدة فتحي صفوت : " ألعرب في الإتحاد السوفياتي ودراسات أخرى") ص 15-25.
إن [أليهودية العالمية] أفسدت فكر وعقيدة اليهود، بدافع ترويج الفكرة الصهيونية، وفي الوقت الحاضر، ومنذ سبعة عقود في الأقل، إنتفت الفكرة القائلة بالتفريق بين اليهودية باعتبارها ديانة وعقيدة سماوية، وبين الصهيونية كمذهب عنصري وعقيدة سياسية باطلة تتسم بالتزوير والشوفينية والغطرسة واحتقار ومقت الشعوب الأخرى – ساميّة وغيرها – وإذا وُجد بين اليهود أنفسهم حاليًا من يفرّقون بين اليهودية بكونها دينًا على شريعة النبي موسى وتعاليم أنبيائهم وتعاليم كتابهم الأرضي "ألتلمود"، وبين الصهيونية بكونها عنصريةً متمثّلة في "إسرائيل"، ولا يعترفون بها شرعًا وعقيدةً، فأولئك قلّة لا يُعتدّ بها، وهم جماعة (ناطوري كارتا) ـ أي حُرّاس الأرض ـ ألضئيلة عددَا وتأثيرًا.
وممن أخذوا بالأباطيل اليهودية- الصهيونية من المفكرين المعاصرين : جان بول سارتر الفرنسي وبرتراند رَسِل البريطاني وبعض الكتّاب الأمريكيين، كما أن أنشتاين كان يهوديًا وصهيونيًا في آنٍ معًا.( أنظر كتاب" اليهودية العالمية وحربها المستمرّة على المسيحية" للمؤلف إيليا أبي الروس، ص135- 137). لكن مع ذلك نطالع في كتاب الدكتور الأستاذ محمد عبد الرحمن مرحبا، المعنون " أنشتاين والنظرية النسبية ص 49 " هذه السطور عن بعض مواقف حميدة لأنشتاين، منها ( عندما حاول زعماء الصهيونية إقناعه أن يتربّع رئيسًا لدولة إسرائيل، رفض العرض وقال قولته المشهورة : "إن دولة تنشأ كما نشأت إسرائيل جديرة بالفناء ". وأبى الرجل الإنساني أن يزجّ نفسه في دولة الظلم والعدوان) ـ ألكتاب من منشورات مكتبة النهضة/ بغداد ـ 1982 .
وأفضل مثال واقعي على حصول هذه الأخوّة، في مجال معتنقي الإيمان الإبراهيمي، هو ما حصل طوال عهد الخلافة العباسية قي جميع أمصار سيادتها وخصوصًا في العراق، حيت كان حسن التعايش والتآلف والتآزر والإحترام المتبادَل بين المسلمين وبين كل المِلل والِنحَل التي طُبّق عليها مفهوم وأحكام " أهل الذمّة": يهود ومسيحيين، ثم أضيف إليهم صابئة ومجوس، بعد أن عدّهم الففهاء من مصاف "أهل الذمّة" من حيت الحقوق والواجبات، بشرط أن يوافقوهم في أصل المعتقد ـ أي توحيد الله تعالى.
ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن جميع أعياد وطقوس وممارسات التقوى والتعبّد، لدى جميع أهل الذمّة الآنف ذكرهم. قد وردت في مؤلّفات مسلمين وعرب في كتب مشهورة للمسعودي والمقريزي والقلقشندي والشهرستاني والدمنهوري والطبري وابن الفوطي والمقدسي والبيروني والحموي واليوزبكي والنويري. كل هذا عدا مؤلفات ومراجع أخرى غربيّة، منها (ألحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) لآدم متز الألماني، و(إيران في عهد الساسانيين) لآرثر كرستنسن، وكتاب (الفندبداد)المترجم من قِبل داود الجلبي الموصلي.
ويفيدننا رفائيل بابو إسحق بكتابه عن (أحوال نصارى بغداد في عهد الخلافة العباسية) بالأستناد إل مصادر عربية موثوقة أن المسلمين راعوا حقوق التصارى، كما راعىى النصارى حقوق المسلمين، فعاشوا متحدين، متضامنين، تسودهم المعاملة الحسنة، ويظللهم التسمح التام. وبمرور الزمن إزداد تمازج المسيحيين والمسلمين، واشتدّ الإتحاد بينهم، وقلّد المسلمون المسيحيين في بغداد في بعض عاداتهم وتقاليدهم، واشتركوا في أعيادهم، كما تصفّحوا كتبهم الدينية، وعرفوا مذاهبهم الكنسية. فقد بحث المقريزي بالتفصيل عن النصرانية، ونكلم عن أعيادها ووصف طوائفها. وأورد المسعودي في كتابه (ألتنبيه والإشراف) قصة الترجمة السبعينية للتوراة، وعدد المجامع الكنسية، وفِرَق الهراطقة والمعتقدات المختلفة . وألمّ إبن خلدون جيدًا بالإنجيل وبالتنظيمات البيعية التي استعان بها في وضع مقدّمته المشهورة للتاريخ. وراعى البيروني في كتابه ( ٌانون مسعودي) الدقّة التامّة في معالجة النظم المختلفة لتوقيت الزمن. وأكّد القلقشندي على الكاتب أن يعرف أعياد (الذمّيين)، وروى القصص المتعلّقة بها والعادات المرعية فيها. أما إبن حزم الأندلسي، فوقف تمامًا على نصوص "ألعهد الجديد"، وعلى الأسفار اللاهوتية( ص 64 ـ إستنادًا إلى الحوادث الجامعة لإبن الفوطي البغدادي ص 66 ـ 69) واستنادًا إلى مؤلّف غربي يُدعى (ترتون) وترجمة كتابه اامعنون (أهل الذمّة في الإسلام ص 184 ـ 185) من قِبل حسن حبشي ، طبع مصر عام 1949 ص 49)، يعلمنا أن المسلمين في بغداد شاركوا المسيحيين في أعيادهم، فأصبح عيد الصليب ( في 14 أيلول من كل عام) لديهم يوم بطالة وعطلة عامّة، واتخذوا عيد السعانين عيدًا يحتفلون به معًا، وعُرف هذا العيد في المصادر العربية بيوم السباسب أو الشعانين( ص 65ـ إستنادًا إلى "المخصص" لابن سيّد و"تاج العروس". ومما قاله الشاعر محمد بن عبد الرحمن الثرواني في عيد الشعانين هذه الأبيت:
خرجنا في شعانين النصارى وشيّعنا صليبَ الجاثليق
فام أرَ منظرًا أحلى بِعيني من المتقنّياتِ على الطريق
حملنَ الخوصَ والزيتونَ حتى بلغنَ إلى ديرِ الحريق
ودير الحريق هذا هو من ديارات الحيرة العديدة ( ص 65ـ إستنادًا إلى "مسالك ألأبصار وممالك الأمصار" لإبن فضل الله العمري ـ تحقيق أحمد زكي باشا ـ مصرـ 1924ج1ـ ص 316.
سبق أن أوردتُ سطور هذه الفقرة في مجلة (بين النهرين) البغدادية بعددها المزدوج 109/110 لعام 2000 وفي كتابي (ألأماني والأهواء بين الدين والدنيا ) ص 243، 245 ، 246.
من كل ما أسلفتُ ذكره يبدو جليًا أن حسن التعايش والتآزر والتسامح واحترام الآخَرالمتبادَل في العهدين الأموي والعباسي، كانت عوامل إيجابية وسمت عيش المؤمنين الموحّدين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ونِحَلهم ومِللهم ، حتى إنها أثمرت إزدهارًا رائعًا للحضارة العربية الإسلامية في القرون الأربعة الهجرية الأو لى شهدت له مؤلفّات الغربيين، وأسهمت كثيرًا في بروز عصر النهضة الأوربية وما تلاها. فلولا هذه العناصر الإيجابية في عيش هذه المجتمعات المتنوعة أنئذٍ، لما كان ممكنُا بلوغ ذلك الإرتقاء والإزدهار.
يسير مما أسلفت، إستنتاج أن عنصر الأخوّة الإنسانية كان عنصرًا حافلاً بتلك العوامل الإيجابية. والآن ها قد صرنا إزاء حدث تاريخي في أبي ظبي يوم 4 شباط 2019 حيث تمّ توقيع (وثيقة الأخوّة الإنسانية) بين شيخ الأزهر الإمام أحمد الخطيب، وبين قداسة بابا الفاتيكان فرنسيس، وثيقة تُجسّد معنى التسامح واحترام الآخر وحسن التعايش. فالوثيقة تهدف لتكون إعلانًا مشنركًا عن نوايا صالحة وصادقة من أجل دعوة كل من يحملون في قلوبهم إيمانًا بالله، وإيمانُا بالأخوّة الإنسانية أن يتوحّدوا ويعملوا معًا من أجل أن تصبح هذه الوثيقة دليلاُ للأجيال المقبلة يؤدّي بهم إلى ثقافة الإحترام المتبادَل في جوٍ من إدراك النعمة الإلاهية الكبرى التي جعلت من الخلق جميعًا إخوة.
في هذا الظرف الحالي ومنذ عام 2001، وسباق التسلّح المُرعِب على قدم وساق، وتناحر الإيديولوجيات ألدموي، والحروب الموضعية على ساحات أقطار الشرق الأوسط تتوالى، مما يشين جبين الإنسانية، سيكون إعلان (وثيقة الأخوّة الإنسانية) إمتحانًا لقدرة إنسان هذا القرن على أن يقرر إن كان جديرًا بالحكمة القائلة (ألإنسان سيّد نفسه فيكون سيّد مصيره ) وخصوصًا بفضل دروس أحداث الحرب العالمية الثانية ونتائجها، وبفضل محتوى وهدف هذه الوثيقة الحكيمة التاريخية.
1168 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع