د.صلاح الصالحي
(شارُ-تمخاري) مقارنة بين سرجون الاكدي، والمعتصم بالله الخليفة العباسي
خريطة بلاد الاناضول (تركيا) وتظهر فيها مدينة بوروش-خوندا في عهد سرجون الأكدي، وقلعة عمورية في عهد المعتصم بالله العباسي
نجد في التاريخ الاسلامي حوادث تحمل في طياتها العبرة، والمجد، والقوة، والدفاع عن حقوق الاخرين، والاخيرة يمكن ان ندعوها بتعبير (النخوة) التي تدل على رفع الظلم، والدفاع عن المظلوم، وكثيرا ما تذكر في مدارسنا حادثة المرأة العربية في مدينة عمورية التي طلبت نجدة الخليفة العباسي المعتصم بالله (833-842) م (العصر العباسي الأول) على إثر هجوم الجيش البيزنطي بقيادة توفيل بن ميخائيل امبراطور بيزنطة (829-842) م على مدينتها واخذه النساء سبايا فصرخت تلك المرأة (وامعتصماه) وهي كلمة استغاثة جعلت الخليفة العباسي يقود جيشا منطلقا من بغداد باتجاه شمال غرب بلاد الاناضول (تركيا الحالية) قطع فيها اكثر من (1600) كلم حيث مدينة عمورية (إقليم فيريجيا)وهي قلعة حصينة اعتبرت من امنع المواقع التي لم يصل اليها المسلمون سابقا، وكما هو معروف فأن الحروب بين الدولة البيزنطية والمسلمين على مدى تاريخهم (الاموي والعصر العباسي الاول) سلسلة من الهجوم والهجوم المضاد، عانت فيها المدن والقرى في كلا الجانبين للتدمير، وأخذ الاسرى كعبيد، ومصادرة الأملاك، وفرض الضرائب، وكل فريق يحاول جاهدا الانتقام من الفريق الاخر بتخريب وحرق المدن والقرى الحدودية، وهذه المأساة هي التي تعرضت له المرأة التي عرفت باسم (شراة العلوية) حسب المصادر العربية، وأدت صرختها إلى نشوب معركة عمورية في آب عام (838) م فتم تحرير المرأة ومن معها من الأسرى، واخذت الغنائم وبكثرة وتم نقلها إلى سامراء عاصمة الخليفة المعتصم بالله، واجبرت المعركة الامبراطور البيزنطي في القسطنطينية (إسطنبول فيما بعد) على إيقاف العمليات العسكرية ضد أراضي الدولة العباسية، وإعادة اعمار ما خربة الجيش البيزنطي.
مجريات الحادثة أعلاه تذكرنا بما يشبهها في تاريخ العراق القديم، وتعود لعهد سرجون الأكدي (شرو-كينو) (Sharrum-Kin) معنى اسمه (الرئيس القوي) أو(الملك المكين) (2371-2316) ق.م، على الرغم من الفارق الزمني بينهما قرابة (3000) عام، ولكنهما يشتركان بـ(النخوة) فقد وصلت صرخات استغاثة مسامع الملك الأكدي، وكانت أرض المعركة هي ذاتها بلاد الاناضول (تركيا الحالية)، وكلا الملكين يتصفان بالقوة وقيادة الحملات العسكرية بنفسهم، ومهما يكن الامر بدأت الحادثة التاريخية السرجونية عندما اعتلى سرجون الأكدي العرش فوحد المدن بدولة مركزية عاصمتها اكادة (لا نعرف موقعها حتى الان)، وانتهى النظام السياسي القديم التقليدي الذي كان سائدا في العهد السومري (دولة –المدينة) (كل مدينة وما يحيط بها من قرى تعتبر دوله مستقلة يدير شؤونها ملك)، واعتمد النظام الاقتصادي لهذه الدولة الفتية على الزراعة، والتجارة، والحروب التي تجلب الغنائم، والأسرى الذين يخضعون للعبودية، اما التجارة فكانت البضائع متنوعة مثل المنسوجات الصوفية والكتانية (الصوف بالأكدية شباتيم) (šipātim)، والكتان (بالأكدية كيتانو) (kutanu)، والسجاجيد، وجلود الحيوانات، والمعدن أطلق عليه الأناكوم (Annukum) وهو عند الاكديين معدن القصدير، وعلى ما يبدو أن المجتمعات الأناضولية اعتمدت على القصدير المستورد لعمل البرونز، والاحجار الكريمة، والصخور البركانية الصلبة مثل الاوبسيدين (حجر السبيج) لعمل المرايا، وحيوانات الركوب، واشتهر الاكديين بهذه المهنة لمهارتهم في البيع والشراء، كما تشعبت طرق المواصلات شرقا إلى عيلام، وغربا نحو البحر المتوسط، وشمالا بلاد الاناضول، وحظيت الأخيرة باهتمام التجار طيلة قرون عدة، وكانت البضائع تنقل بواسطة الحمير، ويطلق على الحمار اسم الأسود (صللاموم Sallamum) ففي تلك الفترة لا يعرفون الجمل (بالأكدى جمالو(Gammalu) وترجمتها (حمار الصحراء)، ومن المحتمل ولدت الحمير ودربت على حمل الأثقال في بلاد الرافدين، وتتألف القافلة من (200) إلى (250) حماراً، وكان سعر الحمار بمعدل (20) شيقل من الفضة، وكان الحمار يحمل حوالي (65) كيلو غرام من القصدير أو (60) منه من المنسوجات وعلى شكل قطع ما بين (25-26) قطعة، وتقطع الحمير معدل(15) ميلاً يومياً، وكان المالك في بلاد الرافدين يشتري الحمير لكل رحلة تخرج إلى بلاد الأناضول وعند وصولها إلى آسيا الصغرى يتم بيعها هناك، وهذا يدل على غلاء أسعارها واقتصاد التاجر في النفقات أذا ما تم إرجاعها فارغة إلى بلاد آشور.
وكان على التاجر دفع ضرائب المرور في كل مدينة تمر القافلة خلالها، وتختلف تلك الضرائب طبقاً لحجم البضاعة ويطلق على الضريبة نيشاتوم (Nishatum) وتقدرها حكومات المقاطعات (5%) على المنسوجات و(3%) على القصدير، ويظهر أن القصر له الحق أن يشتري (10%) من المنسوجات قبل أن تعرض للبيع العلني في السوق، ومن اجل تقليل النفقات والتهرب من دفع ضرائب المرور التي تفرض من قبل الأمراء المحليين في الأناضول، فقد عرف التجار طريقة انعطاف القوافل وعدم مرورها في المدن التي تفرض الجزية بمعنى عدم استخدام الطرق الرئيسية والسير على الطريق الجانبي وهذا يعرف باسم Suqinnim) (harrān وتعني (الطريق الضيق) صحيح أن ضرائب المرور تقل لكن الخطر يزداد لوجود قطاع الطرق، كما أن تغيير مسار الرحلة يتطلب مياه وطعام أكثر، ولهذا كان التجار الآشوريين ينصحون مساعديهم بالحذر كما توضح هذه الرسالة من بوزازو (Buzazu) إلى مساعدة في العمل بوزور-آشور (Puzur-Assur)
(دعهم يسافرون إلى تملكايا (Timilkia) لإيصال بضاعتي، أذا الطريق الضيق آمنة من اجل قصديري ومنسوجاتي ...، بقدر ما تستطيع أجلبها عبر البلاد، ويجب أن تأتي مع القافلة عن الطريق الضيق، على كل حال إذا الطريق الضيق ليس آمناً دعهم يجلبون القصدير...) وكان لحكام المدن الأناضولية سلطة عليا في أقطارهم وكانوا يراقبون فعاليات التجار الاكديين بكل دقة وكان التجار يتجنبون أي صدام مع مصالح الحكام المحليين، فإذا لم يراعوا الأنظمة أو اختلفوا مع الحكام فان النتائج كانت وخيمة، وإذا رأى الحكام أن أي عملية للتجار تضر بمصالح البلد فإنهم لم يتورعوا على إنزال الأذى بمصالح التجار حتى القبض عليهم وتفتيش بيوتهم ، أو مصادرة ما لديهم من ذهب وفضة.
تحدثنا وثيقة حثية تحمل اسم شارُ-تمخاري (šar-tamhari) تعني (ملك الحرب) (كلمة شارُ تعني ملك وتمخاري معناها الحرب) بانه في السنة الثالثة من حكم سرجون استلم شكوى ومعها صرخة استغاثة من تجار أكديين تعرضوا إلى اضطهاد (نور- دﮔان) ملك مدينة (بوروش-خوندا) (Puruš-ḫanda) أو بوروش-آتوم (Burush-attum) من المحتمل تقع جنوب بحيرة الملح (Salt lake) أو في قونية (Konya)، استنجدوا به لرفع الحيف عنهم فقد صودرت بضائعهم وتعرضوا للاعتقال والتعذيب، وعلى ما يبدو أن مبعوث سرجون لم يلاقي اذنا صاغية من ملك المدينة مما تطلب حملة عسكرية صمم فيها سرجون على الثأر لهم واستفسر على نوعية الطريق فاخبروه بان جزءا من الطريق مكون من قطع كبيرة من اللازورد والذهب وآخر مغطى بغابات كثيفة وآخر بمساحات من الشوك الغزير الصعب الاجتياز، ومع هذا تحرك سرجون الأكدي بقواته من عاصمته اكادة صعودا مع مجرى الفرات حتى وصل مدينة كركميش (Carchemish) (جرابلس الحالية)، ثم عبر جبال طوروس وما تلاها من هضبة الاناضول وبذلك يكون قد سار مسافة (1400) كلم حتى وصل سرجون الأكدي إلى مدينة بوروش-خوندا وفرض الحصار عليها، وفشل ملك المدينة من الصمود أو فك الحصار أو مقاومة الجيش الأكدي، وأجبر الملك (نور- دﮔان) ان يطلب الصلح، وتوقيع المعاهدة وافق فيها على شروط التجار الأكديين متعجبا من وصول الملك الأكدي لمنطقته بهذه السرعة، وعمد سرجون على تأسيس مستعمرة أكدية هناك لسكنى التجار، ومن تلك المناطق بعث إلى اكادة بصنفين من أغراس التين، وأغراسا من الكرمة والورد وما إلى ذلك من اصناف الشجر والنبات .
هذه الوثيقة التي تصف حملة سرجون (شارُ-تمخاري) (ملك الحرب) عثر عليها في بلاد الاناضول (تركيا) وتعود إلى عهد حاتوسيلي الاول ملك حاتتي (1620) ق.م يتحدث عن حملته الثانية على حلب وعبوره نهر (مالا) أي الفرات وتدميره المدن يقول: (لا أحد عبر (نهر) مالا (Mala) (الفرات)، لكن أنا الملك العظيم، عبرته، مشيا على الاقدام، وجيشي عبره (بعدي) (؟) مشيا على الاقدم (؟) وساروكينا ( يقصد سرجون) أيضا عبر الفرات،...)، أن المنطقة التي غزاها سرجون الأكدي سابقا هي ذاتها التي غزاها فيما بعد حاتوسيلي الأول الملك الحثي، واجمل ما في النص الحثي أن ذكرى الملك الأكدي ما زالت عالقة في عقول اجيال عديدة بعد موته، لأن الفارق الزمني بين سرجون الأكدي والملك الحثي (700) عام، ولابد وأن حاتوسيلي الأول يشعر بانه مساوي لسرجون في كل النواحي، بل ويدعي في أحد نقوشه بالتفوق على انجازات سرجون الهائلة، كما عثر على وثيقة تعود إلى عصر تل العمارنة بمصر ان سرجون عبر جبال طوروس إلى بلاد الاناضول، والشيء الوحيد الذي يؤكد على ما يبدو مجد سرجون أكثر من غيره بزحفه على (بلاد مهبط الشمس حتى نهايتها) تلك العبارة فتنت خيال معاصريه، كما والهبت شخصيته كأول فاتح عظيم حماسة ومخيلة المؤلفين القدماء الذين اعتقدوا بأنه الملك الذي قال: (والان، على كل ملك يبتغي تسمية نفسه ندا لي أن يذهب حيثما ذهبت).
1007 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع