د. مؤيد عبد الستار
تمثال مولانا جلال الدين في قونيا قرب ضريحه - تصوير مؤيد عبد الستار
جلال الدين الرومي ومدون أشعاره حسام الدين الكردي
دون حسام الدين جلبي نحو 25 الف بيت من أشعار الشاعر الصوفي مولانا جلال الدين الرومي ، وكان ملازما له لا يفارقه وهو يحمل الريشة والدواة والورق ، يدون الاشعار التي يلقيها الشاعر على مسامعه.
تعود أصول الشاعر جلال الدين الرومي الى خراسان فهو من مواليد مدينة بلخ حاضرة خراسان سنة 600 هجرية ، أقام فيها حتى هجرة أسرته سنة 618 هحرية بسبب التوغل المغولي في بلاد فارس ، فهاجرت أسـرته الى العراق ثم الى سورية واستقرت في الاناضول - قونيا - أي إن عمره كان 18 عاما حين هجرت أسرته مدينة بلخ .
كانت الثقافة السائدة في خراسان هي الثقافة الفارسية وكانت اللغة الفارسية لغة الادب والشعر ، لذلك نجد سيرة جلال الدين الرومي وكتبه وجميع آثاره مدونة باللغة الفارسية التي كانت لغة السلاجقة الرسمية في القرن الخامس الهجري .كما كان يجيد اللغة العربية ويستخدمها أحيانا لتـزيـين وتطريز أشعاره ونثره على عادة الادباء الفرس .
كتب الشاعر جلال الدين مقدمة باللغة العربية - ديباجة - لديوانه المثنوي ، المجلد الاول يقول فيها :
( هذا كتاب المثنوي المعنوي .. اجتهدت في تطويل المنظوم المثنوي المشتمل على الغرائب والنوادر وغرر المقالات ودرر الدلالات وطريقة الزهاد وحديقة العباد لاستدعاء سيدي ومكان الروح من جسدي ... أبو الفضائل حسام الدين محمد بن حسن الارموي الاصل ، المنتسب الى الشيخ المكرم بما قال ( أمسيت كرديا وأصبحت عربيا ) فنعم السلف ونعم الخلف ...) ويتضح من مقدمة مولانا جلال الدين الرومي إن حسام الدين جلبي من أبناء مدينة أورمية الكردية ، وهو كردي النسب ، لان العبارة التي استعارها - أمسيت كرديا وأصبحت عربيا - لها دلالة مستمدة من قول ينسب الى صوفي كردي يدعى الشيخ تاج الدين أبو الوفا المتوفي في بغداد في القرن الثاني عشر الميلادي ، قيل إنه لم يكن يحسن العربية، وبينما كان ذات يوم يلقي مواعظه في المسجد ، ألح عليه المستمعون أن يعضهم باللغة العربية ، فوعدهم بان يفعل ذلك في اليوم التالي ، في اليوم التالي بدأ خطبته قائلا ( رقدت كرديا واستيقظت عربيا ) فذهبت مثلا . حدث ذلك بعد أن تكررت الحادثة مع الشيخ الكردي الارموي حسين يزدان يار ، جد حسام الدين جلبي ، فبدأ كلامه قائلا ( امسيت كرديا واصبحت عربيا ) ، فنسب اليه جلال الدين الرومي هذا القول . ينظر كتاب جلال الدين الرومي للسيدة إحسان الملائكة . حاشية ص 147 .
والمثنوي ديوان شعر عبارة عن قصيدة مطولة ، وزنها بحر الرمل العربي وقافيتها من المزدوج او ما يسمى بالفارسية بالمثنوي ومن أمثلتها في العربية ألفية ابن مالك :
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن / فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
يشتمل المثنوي على مجموعة آراء وأفكار ونصائح تأتي على شكل حكايات وقصص وأمثال ويقع المثنوي في ستة مجلدات .
اشـتهر بمثل هذا الشعر فريد الدين العطار في ديوانه الشهير منطق الطير ، وسعدي في بُـستان وكَلستان ، والشاعر سنائي .
أما حسام الدين جلبي فهو ابن رئيس تشكيلات - الآهي لر - أي الاخوان ، وهم أعضاء نقابة الحرفيين، وتكتب في التركية آهي لر ، مثل خانم التي تكتب وتلفظ هانم أي السيدة . ولر علامة الجمع في اللغة التركية .
كان لهذه التجمعات دور كبير في التعاون بين أصحاب المهن والصنائع .
ارتقى حسام الدين جلبي في مراتب الفتوة حتى ترأس تشكيلات الآهي لر خلفا لابيه الاهي محمد .
وكان منذ شبابه دائم الحضور لمجالس جلال الدين الرومي حتى أصبح من أقرب المريدين له ، وأصبح نائبا لجلال الدين في إدارة شؤون نقابات الآهي لر المتصوفة ، فادار شؤونهم بكفاءة ونزاهة وأمانة .
حصل حسام الدين جلبي على تعليم جيد منذ صباه وعمل مدرسا في مدارس قونيا ، واستمر في خدمة شيخه جلال الدين وارتقى في المقامات الصوفية، وانتخب بعد وفاة جلال الدين خليفة له على رئاسة المولوية .
وهو الذي اقترح على جلال الدين أن يؤلف ابداعا يتفوق فيه على فريد الدين العطار ، وسنائي ، وكان الرومي مهيئا لذلك فابتدأ في نظم المثنوي ، حتى اكتمل قبل أن يحين أجله بنحو 25 الف بيت من الشعر . توفي جلال الدين الرومي عام 1273 م في قونيا بتركيا .
ادناه قطعة من مقدمة المثنوي من كتاب جلال الدين الرومي
اصغِ الى شكاية هذا الناي ، وكيف يحكي آلام الفراق
يقول : منذ فصلت عن أدغال القصب تأوه لنواحي الرجال والنساء
وها أنا أبحث عن القلب الحزين كي أشاركه أحزاني وأشواقي
لأن من تباعد عن وطنه لابد أن يتلهف لساعة اللقاء
أنا الناي الذي ترنم بالالحان في أفراح الناس وأحزانهم
حتى خيل لكم منهم أنه صار لي رفيقا مع أنه لم يحاول إستكناه بواطن أسراري
ليس من فرق بين ما أخفيه من ســرٍ وما أشعر به من حزن ، لكنّ ذلك النور لا تراه عين ولا تسمعه أذنٌ !
الجسد ليس محجوبا عن الروح ، والروح غير مستورة عن الجسد ، لكن مشاهدة الروح لم يُـسمـح بها لإنسان
نغمة هذا الناي نار وليست نسمة ريح ، فلا كان من لم يحترق بهذا اللهب
جذوة النار أصابت قصبة الناي ، وحميا العشق تمايلت في الشراب
عند فراق الحبيب صار الناي رفيقا لنا ، نقابه مزّق نقابنا وقُـضي الأمـر
والناي يحكي قصة طريق مـُخضب بالدم ، ما يفتأ يسرد تفاصيل حكاية المجنون
-------------
* ينظر : كتاب جلال الدين الرومي / عاشق حتى النهاية تأليف وترجمة احسان الملائكة ، بغداد 2015
** مجلد المثنوي معروضا في ضريح الشاعر في قونيا . تصوير م . ع سنة 2015
1159 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع