جميل الشبيبي (*)
ذاكرة / من تاريخ التجمعات الثقافية - مقهى هاتف في البصرة عام 1965
تقع مقهى هاتف في مركز مدينة البصرة القديمة على الطريق التي تصل البصرة القديمة بالعشار.. وقد تأسست في العهد الملكي واستمرت على البقاء حتى عام 2004 تحت اسم آخر هو مقهى الشناشيل، بعدها بيعت وتحولت إلى معمل للنجارة فاندثرت آثارها وانمحى تاريخها المضيء في هذه المدينة العريقة، كما اندثرت مقاه وتجمعات أدبية أخرى: "علي بابا" تحول إلى محل لبيع الأحذية ، ومقهى أبي مضر (مقهى الدكة) في العشار ، تعرضت هي الأخرى إلى الهدم لتصبح محلات لبيع الملابس الرجالية والنسائية.
مقهى هاتف مقهى تراثي يحمل مواصفات التراث البصري: الباب الخشبي العالي المزين بالنقوش والزخارف وهو يتصدر البناية الداخلية للمقهى ويضفي عليها وقاراً من نوع خاص.. المبنى الداخلي (الشتوي) وهو عبارة عن صالة طويلة تتوسط أرضيتها طاولة كبيرة للبليارد كان يتناوب على اللعب عليها مجموعة من لاعبي المدينة بينهم الشاعر الراحل محمد طالب محمد الذي كان احد المولعين بهذه اللعبة . أما الخارج فيتكون من سقيفة محاذية للبناء الداخلي ثم ساحة مكشوفة مسورة بسور خشبي، في هذه الساحة نخلتان باسقتان تؤرخان للمقهى وهما علامة من علاماتها.
ومقهى هاتف مقهى شعبي عام ، ولم تكن مقهى للمثقفين ولكننا كنا نشغل حيزاً صغيراً فيها ، وهذا الحيز كان معروفاً لجميع رواد المقهى ، الذين يتعاملون معنا بتقدير واحترام.. وكان صاحب المقهى (هاتف الجنابي) (أبو حارس) رجلاً أنيقاً يرتدي ملابس الموظفين ويشرف على المقهى ويرتبط مع (شلتنا) برابطة الاحترام والتقدير حتى انه كان لا يستنكف من حمل أواني الشاي بيده إلينا من دون الاعتماد على عاملي المقهى النشيطين : سعيد و الزاير ناصر
لقد انتظمنا ضمن حلقة أدبية عفوية لم ترتق إلى تنظيم أدبي أو ثقافي، كانت دائمة الانعقاد في هذه المقهى خصوصاً يومي الاثنين والخميس، وقد بدأت هذه الحلقة بمجموعة أدباء كان بعضهم من رواد المقهى الدائميين كالشاعر محمد طالب محمد وصديقه عبود عذافه.. أما الباقون فقد انتظموا بعد ذلك لتتكون في المقهى ما يشبه الحلقة ولتصبح بعد ذلك بؤرة مضيئة في تاريخ المدينة، بإنجازات الكثير من روادها في تلك الفترة وما بعدها، حين لمعت أسماؤهم في سماوات المدن العربية والأجنبية .. من هذه النخبة الأدبية لا أستطيع أن أنسى تلك الأسماء اللامعة في سماء المدينة ، وهي تؤسس مشروعها الأدبي_ الثقافي في زمن كانت البلاد قد خرجت تواً من مجازر 8 شباط الدامي عام 1963، والانتكاسات السياسية التي عانت منها الحركة الوطنية العراقية، أتذكر هذه الوجوه واحداً واحداً .. ادقق في ملامحهم التي غيبتها زحمة الأيام وتوالي المحن والمصائب وكثيراً ما أتأمل في نتاجاتهم التي صدرت في العراق أو في الغربة بعد ذلك بسنين طويلة ، وأصبحت تراثاً أدبياً مرموقاً يحتاج إلى الدراسة والتأمل. خصوصاً وان بعضهم قد غاب عنا إلى الأبد وبعضهم وجد ملاذه في بلاد الغربة، فأصبح العراق عصياً عليه..!!.
كنا مجموعة هواة، نقرأ كتب الأدب والفلسفة والسياسة، وكان لبعضنا تجربة سياسية محبطة ولذا أصبح الأدب والثقافة بديلاً عن تلك التطلعات السياسية التي دمرتها المؤامرات والصراعات الدامية والحسابات السياسية غير الدقيقة.
من ابرز الوجوه الأدبية في مقهى هاتف: الروائي إسماعيل فهد إسماعيل الذي تعرفت عليه عن طريق احد الأصدقاء بداية عام 1965 ، وكان قد أصدر مجموعته الأولى (البقعة الداكنة) على حسابه الشخصي. كان معلماً منسباً لتدريس الرسم في إحدى المدارس المتوسطة وكان مثقلاً بعائلة كبيرة من الإخوة..هو معيلهم الوحيد. وعلى الرغم من أن هذا الروائي لم يكن معروفاً بين وسطنا الأدبي إلا انه بعد فترة قصيرة من تعرفه على أصدقائي أصبح قطباً لذلك التجمع الأدبي الذي بدا يتسع تدريجياً ليضم أسماء شعراء وقصاصين ونقاد. كان إسماعيل فهد إسماعيل يمتلك سمات أديب قادر على إدارة التجمعات الأدبية وتطويرها من خلال ما يمتلكه من مكتبة كبيرة تضم الكثير من النتاجات الأدبية والفلسفية والفكرية وبالتخصيص كتب الأدب الوجودي: كامو و سارتر وسيمون دو بوفوار وغيرهم.. كما انه يمتلك شخصية مرنة تستمع إلى الآخرين وتقرأ نتاجاتهم وتعلق عليها. إضافة إلى إن بيته كان يقع في وسط البصرة القديمة ، فأصبح مكاناً لاجتماعات هذا التجمع الأدبي . كان إسماعيل فهد إسماعيل الوحيد من بين هذا التجمع الأدبي الذي أصدر مجموعة قصصية فلم يكن لمعظمنا أي اثر أدبي منشور في الصحف او المجلات العراقية، كنا جميعاً في أشواطنا الأولى، نتلمس طريق الأدب الصعب ونقف متأملين الأعمال المنشورة بينما كان إسماعيل فهد إسماعيل قد كتب روايته الأولى (كانت السماء زرقاء) وقدمها مخطوطة لبعضنا(مصطفى عبد الله وجعفر موسى علي وأنا) كانت تمتلك سمات مرحلة جديدة في كتابة الرواية ، لم تكن مألوفة لنا ، لان قراءتنا كانت ضمن النتاج العربي ، الأجنبي المترجم المعروف آنذاك، ولم يصدر في ذلك الوقت ما يشبه هذه الرواية الصغيرة المكثفة والمحيرة لنا لذا كانت قراءتها من قبلنا قد أوقعت ( إسماعيل فهد إسماعيل) بالحيرة والشك..مما دعاه إلى إعادة كتابتها أكثر من مرة ، ليستقر بعدها على نسختها الأولى التي صدرت بعد ذلك عن (دار العودة – بيروت عام 1970).
كان يقول لنا: "لا أستطيع أن احمل تطلعاتكم في الكتابة.. يكفيني أن احمل تطلعاتي..!".!
كما ضم هذا التجمع الأدبي الشاعر الراحل مصطفى عبد الله الذي عرّفنا به الروائي إسماعيل فهد إسماعيل ، كان أصغرنا سناً..ومصطفى عبد الله مجموعة من الابتكارات الأدبية :قاصاً كتب الكثير من القصص القصيرة ونشر بعضها في الصحف البصرية، و كاتبا مسرحيا كتب نصوصاً مسرحية مستقاة من واقع فلاحي مدينته أبي الخصيب ، وناقداً ذكياً ، اذكر انه أهداني كتاب "رولان بارت" (درجة الصفر في الكتابة) بداية السبعينيات وأوصاني بقراءته لأنه من وجهة نظره احد كتب النقد المهمة...
لقد أجبرت السلطات الدكتاتورية هذا الشاعر المبدع إلى الهجرة خارج الوطن فأسس له كياناً أدبيا في المغرب. إلا أن القدر لم يمهله طويلاً إذ تعرض لحادث أودى بحياته عام 1989 وهو في قمة عطائه الأدبي.
و من بين هؤلاء الأدباء الروائي "عبد الجليل المياح" الذي يحمل في ثنايا روحه البيضاء تطلعات الآخرين وكان مشروعاً روائياً واعداً وكان من أوائل كتاب هذا التجمع في إصدار روايته الأولى (جواد السحب الداكنة) عام 1968 وكتب بعد ذلك قصصا قصيرة وروايته الثانية (الفرس والسماء المربعة) التي حملها الروائي إسماعيل فهد إسماعيل إلى بيروت لطبعها في دار العودة، لكن الدار إضاعتها ولم نعثر على أي اثر لها فيما تركه الراحل.
كان عبد الجليل المياح طموحاً لإنشاء تيار أدبي ملتزم في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ العراق ، وكانت آراؤه في هذا المجال تثير الكثير من النقاشات وردود الفعل إلا انه كان مطمئناً لها وبالتعاون مع نخبة طيبة من أدباء البصرة أثمرت جهوده على إصدار مجموعة (12) قصة بعددين بداية سبعينيات القرن العشرين.
وقد أعدمته السلطة الفاشية في ثمانينيات القرن العشرين بسبب أفكاره المناهضة للفاشية والعسف.
لا ادري لماذا أقدم الموتى على الأحياء، ولكني اعترف إنهم ما زالوا يشغلون حيزاً كبيراً في ذاكرتنا المكدودة، لقد خسروا حياتهم ولم يستطيعوا إكمال مشروعهم بسبب هذا العنف المستشري في جسد هذا الوطن..هذا العنف الذي يطوي ويلغي حياة من يتطلع نحو غد أفضل . كان ذلك الطافح بالحيوية، الشاعر محمد طالب محمد أكثرنا حضورا وسطوعاً في مقهى هاتف متألقا و مشغولا أبدا بالحياة، كان مغرماً بلعبة البليارد وبالتعليقات الساخرة التي يبتكرها وينثرها يومياً على رواد المقهى.. ولم يكن ميالاً للنقاش الأدبي أو الثقافي ، فقد كان يعتقد بخصوصية التجربة الشعرية ولذا كان يعرض نتاجه الشعري على مجموعة صغيرة من أصدقائه.. اما مصيره فكان مروعاً حين قتلته أيدي المتعصبين السلفيين في الجزائر قرب المدرسة التي يُدرّس فيها أوائل تسعينيات القرن المنصرم.
ضم هذا التجمع أسماء أخرى: يوسف السالم الذي كان شاعراً وكاتباً وكان يصر على أن يكون مدير حسابات هذا التجمع .. عبد الجبار ألحلفي الذي نشر عدة نصوص قصصية في جريدة البصرة، التي صدرت عن كلية التجارة المسائية وقد عرفنّا وقتها بصديقيه القاص عبد الستار ناصر والشاعر فوزي كريم كما ضم هذا التجمع الفنان الأديب البحريني احمد المناعي الذي كان طالباً في كلية الآداب –جامعة البصرة- وكان خطاطاً بارعاً.
ومن بين هؤلاء الأدباء لا أستطيع أن أنسى صديقي جعفر موسى علي، ذلك الوجه الباسم المتطلع دائماً نحو الجديد والممتع والفني. الناقد الشفوي وأحد مؤسسي هذا التجمع وابرز مثقفيه. كان مجموعة من الاهتمامات : الأدب، الفن،الثقافة،السياسة.. وكان تأثيره قوياً على الروائي إسماعيل فهد إسماعيل فقد كان صديقاً شخصياً له يقرأ ما يكتبه إسماعيل،وكان رأيه في كتاباته معيناً ثراً لهذا الروائي، خصوصاً وانه كان يركز على الجديد في الكتابة القصصية، وقد اتضحت شخصية "جعفر موسى علي" الثقافية وقدرته في الكتابة والإشراف الأدبي و العمل الصحفي حين هاجر إلى الكويت نهاية الستينيات وعمل في مجلتي "الطليعة و العامل" الكويتيتين مشرفاً وكاتباً ومحرراً لكثير من الأبواب الأدبية - الصحفية والمهنية.. كان يتحرق شوقاً لوطنه بعد هجرة دامت أكثر من ربع قرن، لكنه توفى في الغربة قبل سقوط النظام الفاشي بشهرين فقط.!!
اتسعت مجموعتنا الأدبية الصغيرة واغتنت بالأسماء الجديدة ، التي كانت تحرص على الحضور إلى المقهى بهدف اللقاءات الأدبية المثمرة فيها ، اذكر منهم: خليل المياح ، محسن براك، جاسم العايف وصديقي الكويتي غازي عبد العزيز الجاسم الذي كان صديقاً لنا جميعا ويحرص على الحضور وباستمرار إلى المقهى قادماً من الكويت ومشتركاً بشكل فاعل في نقاشاتنا الفكرية السياسية، وقد أصبح فيما بعد صحفياً معروفاً عاملاً في اكبر الصحف الكويتية.
وكان الشاعر عبد الكريم كاصد، الذي كان يدرس في الجامعة السورية ، ويلتحق بالمقهى أثناء العطل الصيفية احد أهم الوجوه الأدبية التي أنظمت إلى هذا التجمع الصغير ..فكان حضوره إلى المقهى بمثابة دم جديد بسبب ثقافته وإطلاعه على مصادر معرفية وثقافية وأدبية متنوعة ولامتلاكه تجربة جديدة علينا، من خلال تعرفه على بعض الأدباء العرب في سوريا وإطلاعه على تجاربهم الشعرية والقصصية . توطدت العلاقات الشخصية بين هؤلاء الأدباء الذين جمعتهم مقهى هاتف. وأصبح إسماعيل فهد إسماعيل، بعد استقراره وعائلته في الكويت ، حاضراً معنا عبر رسائله وحضوره الشخصي إلى البصرة في العطل الصيفية أو الربيعية ، وقد عمد على نشر كتابات بعض أصدقائه، فقد ساهم في نشر الطبعة الأولى لديوان الحقائب للشاعر عبد الكريم كاصد وقدم ديواناً للشاعر مصطفى عبد الله إلى دار العودة لطبعه، لكن الدار لم تطبعه لأسباب مجهولة. ومن المفارقات الساخرة في هذا المجال، أن يتعرف الصديق (جاسم العايف) على غلاف ديوان الشاعر مصطفى عبد الله الذي صممه الفنان التشكيلي شاكر حمد الذي سلمه إسماعيل فهد إلى دار العودة في بيروت كغلاف لمختارات من قصائد الشاعر عبد الوهاب ألبياتي وبعنوان ( كتاب البحر) المطبوع في نفس الدار.
لقد كانت مرحلة منتصف الستينيات في العراق والوطن العربي مرحلة مخاض وتأمل أفرزت تيارا أدبيا عربيا وعراقيا متمردا على القديم متشوفا نحو أفق جديد للثقافة والأدب أتضح فيما بعد بالنتاج الستيني المتمرد في بنية القصيدة الجديدة والقصة القصيرة والرسم والنحت وكان رواد مقهى هاتف من الشعراء والقصاصين الذين يتنفسون هواء هذا المزاج الجديد وينهلون من مصادره التي شاعت وانتشرت في الأسواق العراقية مجسدة في المؤلفات الوجودية لسارتر وكامو وسيمون دو بوفوار وغيرهم والتي كانت تطرحها إلى الأسواق دار الآداب في بيروت وكذلك القصص والقصائد المنشورة في مجلتي الآداب ، ومجلة جاليري 68 القاهرية التي نشرت نتاجات الجيل المتمرد في مصر ممثلا بالأسماء اللامعة فيما بعد : جمال ألغيطاني ، محمد ألبساطي ،عبد الحكيم قاسم ، إبراهيم أصلان ،مجيد طوبيا وغيرهم ....
لقد كانت مرحلة الستينيات في العراق والوطن العربي مرحلة مهمة اتضحت معالمها في النتاج الأدبي و بشكل خاص في القصيدة والقصة القصيرة والرواية القصيرة التي تمردت على الإشكال الكلاسيكية السائدة آنذاك.وكان من أهم تلك الثمرات التي افرزها هذا التجمع الأدبي الذي كانت بداياته في مقهى هاتف، الروايات القصيرة التي كتبها الروائي إسماعيل فهد إسماعيل في العراق في تلك الفترة ثم صدرت بداية السبعينيات عن دار العودة في بيروت وهي : كانت السماء زرقاء ، المستنقعات الضوئية ، الحبل . وكذلك رواية ( جواد السحب الداكنة) عام 1968للقاص الراحل جليل المياح ،وديوان ( الحقائب ) للشاعر عبد الكريم كاصد ومجموعة 12 قصة في بداية السبعينيات بعد أن امتدت علاقات بعض رواد المقهى مع مجموعة كبيرة من أدباء البصرة إضافة إلى مجموعة كبيرة من القصائد والقصص القصيرة التي كتبها رواد هذه المقهى ونشرت في الصحف العراقية .
لقد كانت هذه النتاجات إنجازات فردية لأصحابها ولكنها كانت ثمرة ناضجة لتلك الفترة المهمة من تاريخ ألمدينه ومن تاريخ هذه البؤرة المضيئة في مقهى هاتف في بصرة منتصف الستينيات.
أخيرا أود أن أشير إلى أن هذا التجمع الصغير كان تجمع أصدقاء في مدينة واحدة جمعهم هاجس حب الأدب والثقافة وقد تطورت العلاقة بين بعضهم إلى درجة عرض نتاجاتهم الأدبية وإبداء الرأي فيها. وما زالت هذه العلاقة بين الأحياء منهم قوية على الرغم من تفرقهم في منافي الداخل أو الخارج وأيضا على الرغم من امتلاك معظمهم عالما أدبيا خاصا ومنشورات خاصة به .
(*) الكاتب جميل الشبيبي ناقد عراقي غني عن التعريف اغنى المشهدين البصري بشكل خاص والعراقي عموما اضافة الى حضوره الدائم في المجلات والصحف الصادرة في الخليج وعواصم العالم .زاول مهنة التعليم اضافة للصحافة والكتابة النقدية وله عدد من الكتب النقدية الصادرة .
1163 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع