سمية العبيدي
طلعت الشميسة
من عاش قبل جيلين أو ثلاثة أجيال لابد يعرف بل يحفظ عن ظهر قلب هذه الأُنشودة فلقد كان لها صدى واسع وحضور كبير على ألسنة الأطفال واليافعين ذكورا وإناثا . وكان صداها يتردد في أزقة بغداد غالباً كل صباح , يقولها بعضهم بمفرده وقد يقولها الأطفال مجتمعين . أحببت أن أُلقي بعض الضوء على معانيها وأُذكر بها من تركها خلف ظهره فلم يعرفها لا أطفاله ولا أحفاده لعلهم يعودون اليها والعود أحمد فيزرعون الفرح و حب الحياة وحب التعلم في نفوس الأطفال بهذا .
طلعت الشميسة
على كبر عيشة
عيشة بنت الباشه
تلعب بالخرخاشة
صاح الديج بالبستان
الله ينصر السلطان
ياملتنا صرفينا
فات الوكت علينا
وشموسنا غابت
وارواحنا ذابت
طلعنا ليبره
شفنا حبيب الله
بيده قلم فضة
يكتب كتاب الله
يا فاطمة بنت النبي
أخذي كتابك وانزلي
على صدر محمد وعلي
*****
أول ما يلاحظ هنا التصغير التحببي الذي استعمله واضع الأُنشودة فالشمس حبيبة وغالية لأنها بفضل الله تمنحنا الحياة والنماء والطعام وتمنحنا الرؤية والإبصار عند شروقها يبدأ النهار وتستمر الحركة فالبركة لذا يحببها المنشد للأطفال بالتصغير . إذن طلعت الشمس اللطيفة الحبيبة وأشرقت على كبر عيشة وعيشة لا يقصد به أمرأة معينة بل احدى نساء العرب غير إن ما يشير له البيت الآخر يقرر إنها امرأة مترفة أو بنت مترفه فهي بنت باشا وقد تكون في الأغلب لمّا تزل طفلة بدليل إنها تلعب بالخرخاشة " وهي صندوق صغير يحتوي على بعض الحصى أو الكريات الصغيرة تنبو عنه استطالة يمسك منها وعند تحريك الخرخاشة ولو قليلاً تُصدر صوتاً يحبه الأطفال " وأظن أن الأصل أن تشرق الشمس على قصر عيشة لا على قبرها كما تذكر الأنشودة فذلك أكثر انسجاماً مع كونها ابنة باشا وهو لقب رفيع المستوى في الدولة العثمانية وينسجم كذلك مع كونها تلعب بالخرخاشة فكيف تلعب وهي في القبر وأظن أن تحريفاً ما قد حصل باللفظة عبر الزمن وكثيرا ما يحدث ذلك بالمرويات الشفاهية .
يظهر أن أول ظهور للأُنشودة في عصر الحكم العثماني عصر السلاطين حيث ينصرف الصغار الى أماكن تعليمهم صباحا كما تقول الأُنشودة وهي آنذاك " الكتاتيب " وربما فجرا مع صياح الديك وأظن إن في ذلك مبالغة فالأطفال يتوجهون عادة الى كتاتيبهم - كما رأيت في صغري وإن لم أدرس فيها - في الصباح كما في المدارس , وهم يدعون لولي الأمر بالنصر على أعدائه وبالتوفيق في حكمه وفي حياته كما يفعل الديك مثلهم فهم إذن يستنطقون الديك هنا ويضعون على لسانه ما هو على ألسنتهم من أدعية وأمانٍ . ثم تنصرف الانشودة الى ذكر التعب والانهاك الذي يصيب طالبي العلم الصغار وربما الجوع بعد انقضاء النهار في طلب العلم وفي حفظ القرآن الكريم وترتيل آياته لذا تراهم يخاطبون معلمتهم " ملتهم " ويطلبون منها صرفهم الى بيوتهم لأن الوقت قد تأخر حتى غابت الشمس وبدأ الظلام يحل وأضر بهم التعب والجوع فذابت أرواحهم من التعب والإجهاد والملل أيضا - وللعلم كان طلاب العلم في الكتاتيب المنتشرة عبر المدن الكبرى وحتى في القرى الصغيرة والنائية يأخذون معهم إضافة لأجزاء القران الكريم بدءاً بجزء " عمَّ " ثم " تبارك " لوحا للكتابة عليه ثم أصبح فيما بعد كراسة وقلما .. وبعض الطعام - . بعد أن تستجيب المعلمة – المله – ( 1 ) لطلباتهم وتصرفهم الى بيوتهم وحين يخرجون الى الفضاء الرحب والهواء والخلاء يحسون الفرح يداعب أرواحهم ويحل في قلوبهم والانعتاق يغمر نفوسهم بالسرور فكأنهم يرون الرسول من شدة فرحهم . غير إن واضع الأُنشودة لا يريد أن ينسى الأطفال واليافعون أهمية العلم والتعلم فيضرب لهم أمثولة بصورة الرسول الكريم وهو يمسك قلما ثمينا من الفضة البيضاء وهو يكتب كتاب الله " القرآن الكريم " وكلنا نعلم أن الرسول أمي لا يحسن الكتابة بل من يحسنها ابن عمه وصهره المذكور هنا معه علي بن أبي طالب ولعل المقصود أن الرسول الكريم كان يملي على الإمام علي وعلي يكتب كتاب الله ( 2 ) حيث تطلب الأُنشودة من فاطمة وفاطمة هنا محددة كونها ابنة الرسول وزوجة علي بن أبي طالب حصراً أن تأخذ الكتاب من بين يديهما لتحتفظ به وتحفظه عن ظهر قلب وتحفظ ما كتبت عليه آيات القرآن الكريم وكانت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ( العسب واللخف والأكتاف وجلود الحيوانات ) ( 3) تأخذها لتحفظها في مكان آمن ونظيف وبعيد عن أيدي العابثين , مطلوب من فاطمة أن تأخذ الكتاب وتقتدي برسول الله وصهره فتزل آياته في صدرها كما أنزلاها في صدريهما حفظا وإعزازاً . وهنا إشارة واضحة الى حث الرسول لأمته على العلم والتعلم عموما وتعلم القران وعلومه خصوصاً , كما في عديد من أحاديثه الشريفة
" طلب العلم فريضة على كل مسلم "
" أطلب العلم ولو في الصين "
" خيركم من تعلم القرأن وعلمه "
*****
( 1 ) كثيرا ممن مارسوا مهنة التعليم آنذاك كن من النساء . وكلمة " ملة " تطلق لمن يعلم الأطفال في الكتاتيب رجلا كان أم امرأة .
( 2 ) كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أحد كتاب الوحي ومنهم أيضاً
أبي بن كعب
زيد بن ثابت
معاذ بن جبل
عبد الله بن رواحة وآخرون من الصحابة
( 3 )
ا- العسب / من السعف فوق الكرب لم ينبت عليه الخوص
ب - اللخف / حجارة بيضاء رقيقة
ج- الاكتاف / عظمة الكتف وهي عريضة مستوية عادة
د- الجلود / جلود الحيوانات
وكل ذلك وغيره كان أدوات الكتابة في عهد الرسول لا في زمن الأُنشودة إذ استعمل الورق مذ عدة قرون .
سمية العبيدي
1100 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع