بقلم د. رحيم الغرباوي
فلسفة المقدس في رؤى الشاعرة وفاء عبد الرزاق في قصيدتها ( قديسة الكرستال) من أعمالها الشعرية ( لاترثى قامات الكرستال ) .
لعل الشاعر حينما يعيش واقعاً مريراً لما حوله ، يجعله يعبر عن المعاناة التي يراها ، فيحاول المقارنة بين عالمين : الأول عالم الصفاء الذي يمثله الغاطس من الذكريات الجمعية في أصل كل إنسان ، وهو عالم النور والأسطورة الأزلي ، والآخر : العالم الفاحش الذي يراه في الواقع ممثَّلاً بعالم الظلمة والخداع والدنس ويبدو أنَّ مرسيا إلياد هو " خير من بحثَ في العود الأبدي وعلاقته بالأسطورة , وخير من فرَّق بين الزمن الأبدي والزمن التاريخي ، فهو يرى أنَّ الزمان والمكان والأشياء يمكن أنْ تُصنَّف إلى نوعين أحدهما مقدس أبدي , والآخر مدنس تاريخي , والمنظومة المقدسة هي من صنع الآلهة ( أو الإله الواحد ) ، أما المدنسة فهي مرتبطة بالإنسان " (1) , ولايمكن الوصول للمنطقة الأولى داخل الذات إلا بفلسفة الشعر الذي يمكن للشاعر أنْ يرسي سفينة إبحاره في موانئها الصافية الأمواه بوصف الشعر جمالاً يخلقه الإنسان ؛ ليعبِّر عن السيرورة الأولى أمام منغصات الواقع ، ولعل الفن والفلسفة شكلان من أشكال الوعي الإنساني الذي يمد جذوره عميقاً في الذاكرة بوصف الفلسفة هي " التفسير العقلي للظواهر ، وغاية الفن هي استبطان الشعور الحي وتجسيمه والمشاركة الحيوية التي هي ضرب من التماس الوجدان والتفاعل مع الصورة الحيوية " (2) وعلى الرغم من أنَّ أحكام الشعر مشتقة من العواطف والحواس , وأنَّ أحكام الفلسفة قائمة على التفكير إلا أنَّ القصيدة الحداثية ، قد كسرت المفهوم القديم ومازجت بين الشعور والفلسفة فكليهما خُلِقا توأماً في رحم الوجود الإبداعي ، وكليهما يحاول أنْ يظفر بحركة الأشياء وأبعاد الزمن الكلي ، ويبدو أنَّ فلسفة الشعر مرتبطة بالدين , فيرى أدونيس " أنَّ كلَّ ما يفعله الشعر موجَّه من خلال الدين ، فيحول دون أنْ يكون الشعر موضوعاً يؤدي البحث فيه إلى الشك في المعرفة الدينية ، أو المروق إلى الزندقة , كل هذا أثَّر على مفاهيم كثيرة مثل الجميل والقبيح ، والحق والخير والشر ، فالشعر ليس ما يراه الشعر جميلاً ، بل ما يراه الدين " (3)
والشاعرة وفاء عبد الرزاق في أعمالها الشعرية ( لاترثى قامات الكرستال ) التي تحمل فيها أوجاع الواقع أمام ذاتها الناصرة لكل ما هو مقدس بوصفها قامة من قامات الكريستال التي لاتصدأ ، بل تظل مزهوة بجمال الروح التي تؤسس الفعل الجميل من أجل المقدس الروحي ، وهي تواسي أبناء شعبها العراقي ؛ كونهم يعيشون محنة الاستلاب والفقر والفاقة ؛ لتجسد في أشعارها رحلتها بين الميتافيزيقيا والواقع ، ومن خلالهما تترجم فلسفتها للحياة شعراً ؛ فنراها تمازج بين المتخيل والحقيقي ؛ لتدس الشروط التي بها نشعر بالجميل ، الذي وضع له الفلاسفة المثاليون شروطاً معرفية " يتناغم فيها الحس مع مطلب كلي ألا وهو الفكر ، فالفن لايتنكر إلى طبيعة الذات العارفة التي تشترط الاستمتاع والتذوق والحكم التي لها وقع خاص على المتلقي يجعلنا نصفها بالجمال ، إذ يتفق العقل والحس ؛ لتحقيق وجودهما الفعلي وقيمتهما بما ينسجم والحاجات الاجتماعية التي تدفعه فيما بعد لإصدار الحكم عليها , إذ هو اتساق داخلي نسحبه على مضمون خارجي ؛ ليكوِّن معه وحدة فنية مرهونة فهماً واستيعاباً بالخبرة " (4) ؛ ذلك هو الشعر الجديد الذي يتعامل مع الأفكار والأحاسيس بأساليب فنية تتعالق مع حقيقة الذات وما تلفَّعت به مما يحيطها من غوائل ؛ لتعود إلى حقيقتها الروحية , فتسكبها بذوق فكري يترجم حقيقة الوعي في ضوء المقدس الماكث بأعماق الذات .
ولعل الشاعرة في قصيدتها
( قديسة الكرستال) تمهر لنا شجنها للواقع الذي يعيشه أبناء بلدها , فنراها تقول :
أقدِّس الحزن ؛ لأنه ابن أمي .
أقدِّس تدفق الحليب في دعائها
أقدِّس العراء
أبا الفقراء
وملاذ أطفال
يمسحون الأحذية
أقدس روحاً عفَّفتها الحاجةُ
وصارت قنديلاً
بعضَ سُحبٍ وأعناب
أقدِّسُ رحمَ الأرض
فقد أنجبَ رغم الشكِ
أركانَ الخضرةِ .
وقال اسجدوا للسدر
سفينة العابرين .
فقد أشاعت الشاعرة القداسة في النص الشعري ؛ بوصفه إدراك لمعاني العالم , وإعادة تعريفه بصوره مثالية ، فالمقدس لدى الشاعرة هو تكوين أصيل يولد مع ولادة الإنسان ، ويكون المقدس جوهراً له ... اسمه الشعور الديني الذي هو بنية أصيلة في الإنسان والمجتمع ، لم تكن ممارسة الطقوس والاعتقاد بالأساطير إلا مرحلة من مراحلها " (5) , فالحزن الذي دهم نبي الله يونس صار مقدساً, ولعل الحليب حين يتدفق مع دعاء الأم منحها القداسة ؛ بوصفها المعينة والمغذية والراعية لديمومة الحياة ، كما أنَّ العراء هو أبو الأطفال مثلما الأنبياء والولاة الذين طالما اهتموا بالفقراء والطمأنينة على أحوالهم ، فهو يمثل الحنو والدفء ؛ بوصفه الراعي لهم ؛ ليمنحهم الصبر والقوة والتجلد على تحملهم له , كما أنها تقدس الأطفال وهم يمسحون الأحذية ؛ كي تعيش أسرهم كريمة متعففة ، مقارنةً باللصوص الذين باتوا ينهبون خيرات بلادهم أولئك الذين لايحترمون القانون الأخلاقي عن عمد . كما أنها تقدس الروح التي عففتها الحاجة من دون النظر إلى ما في أيدي الآخرين ، فأصبحت قنديلاً وبعض سحب وأعناب ؛ إشارة إلى خلودها بفعلها الاستثنائي الذي يحولها من التاريخ القابل للنسيان والاندثار إلى الأسطورة الخالدة ، ملمِّحةً إلى الجشع والطمع والتهالك على الغنائم التي تسود بلادها من قبل المتصارعين من أطراف شتى ، وجشعهم في أخذ مابيد الآخر ولو تطلب سفك الدماء ، ثم هي تقدس رحم الأرض التي تنجب أركان الخضرةِ , فهي السومرية التي تعتقد " عمليات البذار وكأنها طقوس دفن الحبوب في الأرض المعبرة عن موت الإله ( ديموزي ) أملاً في نهوضه في الربيع القادم " (6) ، فالأرض هي البطن التي تنجب الخضرة ؛ لذلك نرى شاعرتنا تمنح الأرض والنبات القداسة بوصف الأرض الأم التي تبذر في أحشائها الحياة ، بينما الخضرة ممثَّلةً بالنباتات بوصفها تتمثل بالشفاء والطيبة ، وهي المانحة للخلود والقوة . ولعل السدرة إلى يومنا هذا نراها تُنحر لها القرابين عند اقتلاعها ، لما ورد بوصفها الشجرة الفارعة بجانب العرش وهي من تولد من أحشاء الأرض ولعل إله الخضرة ( آبو ) أو ديموزي كان يجري الاحتفال بزفافه من إنانا سيدة الطبيعة والخصب (7) ، لذا فالسدرة رمز الخصب التي يمكن السجود تحت ظلالها ؛ لتكون سفينة لهم ؛ كي يعبروا إلى بر الأمان في إشارة إلى من لا يعمر الأرض بل يسعى في خرابها ذلك هو من يظل أسيف التأريخ .
ثم تقول :
أقدِّسُ المزيد المزيد
من العشاق
وأقدِّسني لأنِّي تلوتُ صلاتي
بطريقتي
ومددتُ يديَّ
طليقةً بقبضةِ الماء
لا فضلَ لأحدٍ عليها
من ذا الذي يشهدُ الآن
بأنَّني في هذا الشهد
الذي قدَّستهُ
أقربُ من ألفِ عِمَّةٍ
وألفِ عِمَّة إلى الله . ص23 – 24
ثم هي تقدس المزيد من العشاق ممن أنصفوا أنفسهم وحقيقتهم المتجذرة ، لا ممن هم مراؤون ، أو لا يعنيهم شأن سوى أنفسهم ، كما أنَّها تقدس ذاتها ؛ لأنها أيقنت أنَّ فكرة وجود الحق ناضبة في كل ضمير حي يستشعر آلآم الآخرين ويقدسها من خلال الحنو والعطف والوقوف أمامها باحترام لا بسخرية أو نفاق , ولعل طريقتها بتأدية صلاتها مع العمل بدواعي الإنسانية هي أنصع بكثير من طرق المضللين والمرائين الذين ما فتئوا يتلاعبون في مصائر البرايا من طريق إضفاء المقدس على أنفسهم ؛ ليستغلوا الناس الجهلاء بتلك المظاهر المقنعة التي تفشَّت في عصرنا الحاضر , بينما تشير إلى الماء الذي يمثل أصل الأشياء كما يمثل يعدُّ رمز التطهير ؛ لذلك أشارت له أنه حالٌّ في قبضتها ، فمن ذا يكون بهذا الشهد ؟ والشهد رمز الحلاوة والطعم الذي لا يدانيه في التذوق أيُّ طعم ؛ كونها اقتربت من المقدس رمز الإنسانية , وذلك أقرب ما يكون إلى الله وليس مظهر القداسة هو ما ينمُّ عن المقدس ، إنما العمل الصالح والضمير الحي الذي يرقى به الإنسان حينما يلامس المقدس روح الجماعة من فقراء وكادحين وعشاق بصدق النوايا ونقاء الضمير .
(1) العود الأبدي , د. خزعل الماجدي , الدار العربية للموسوعات ,
بيروت – لبنان , ط1 , 2011 م : 17 .
(2) فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة , د. محمد علي ابو ريان الدار القومية
للطباعة والنشر ، الإسكندرية ، مصر ط1 ، 1964 : 9 .
(3) محاضرات الإسكندرية ، أدونيس ، دار التكوين ، لبنان ، ط1 , 2008م : 75
(4) الوعي الجمالي بين فلسفة العلم والراجماتية , د. هيلا شهيد , منشورات الرافدين ، بيروت , ط1 , 2017 م: 229
(5) العود الأبدي : 52
(6) المصدر نفسه : 36
(7) ينظر : المصدر نفسة والصفحة نفسها .
1155 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع