سمية العبيدي
ألوان الطيف الشمسي
كانت تلف قدميها على بعضهما ابتغاء إراحتهما , مالت بجسدها نفضت رماد سيجارتها في منفضة جميلة موضوعة على منضدة صغيرة بجانبها من الألمنيوم والزجاج ثم اعتدلت و رفعت رأسها واستأنفت معلقة على ما جرى من حديث : لا أدري لِمَ تستغربون وترفضون التنوع ؟ ! , ولا تصدقون إمكانية التآلف معه وبه , وقد ضرب الله لنا مثالا عليه , ألا ترون الطيف الشمسي أليس هو مكونا من عدة ألوان جميلة إذا رأيناها منفردة ولكنها تنسى تفردها إذا اجتمعت معا مكونة لنا ضوء الله الذي ننعم به جميعا . أنا أرى إن المجتمعات كذلك وإن في تنوعها قوة وفائدة لنا وإن الانسجام فيها أصيل لا مفتعل .
أجابتها جليستها وهي محنكة تلتحف بالسواد : لا أرى ما ترين فلا يمكن لمجتمع من هذا الطراز أن ينتج خيرا ويستمر عليه فإن تضارب الميول والرغبات سيؤدي به الى التهلكة .
وكانت تقف عند رأسيهما فارعةٌ في غاية الأناقة تحمل بيدها اليسرى صحنا صغيرا من حلويات اختارتها من الصحون المصفوفة بترتيب وذوق على مائدة في جانب من الغرفة أما يدها اليسرى فهي تحمل كوبا من الشاي سكبته لنفسها من إبريق يحتفظ بالحرارة , فجلست في مقعد بينهما بعد أن وضعت ما في يديها على منضدة صغيرة أُخرى , جلست وهي تقول : عجبا لكما الا تريان إن التنوع هو سمة الحياة الأساسية وهو سمة الخلق كله ؟!. تخيلا بلدا لا ينبت فيه الا القمح وبلدا فيه كل ما خلق الله من نباتات و ورود ترى في أيهما تودان العيش ؟!!! .
استمرت ثلاثتهن بالحديث والجدل البارد وكن فيه إذ دخلت بل اقتحمت عليهن الغرفة رابعة وكانت تحمل في يدها بضعا من ورود ال " كاردنيا " الموسمية , وفي اثناء إلقاء التحية والتقبيل الحار أعطت لكل منهن واحدة فرفعنها جميعا لأُنوفهن وهن يسحبن منها أنفاسا ويتمتعن بخلق الله ويستحسن الرائحة الجميلة قالت : قطفتها من أجلكن قبل صعودي لسيارتي إنها طــازجة ناعمة وبيضاء " مثل القيمر " . . شكرنها جميعا ثم عدن لحديثهن قالت إحداهن : كنا نتحدّث قبل مجيئك عن التنوع وعن الانسجام هل هو فعلي أم مصطنع ومدى قوته وفاعليته في المجتمع فما هي وجهة نظرك يا ترى ؟ قالت وهي تزم شفتيها : أنا أرى انه ضروري لتقدم المجتمعات ولإيقاد شعلة الحضارة فيها , أُنظرن معي سيظل مجتمع ما على ما هو عليه ما دام منعزلا يتداول عاداته وتقاليده أبا عن جد ما لم يتلاقح مع مجتمعات اُخرى يظل بسيطا موقنا من انه على حق تماما وأبدا سواء أكان كذلك أم لا , هيا تخيلن معي مجتمعا بعيدا عن المدن والتجمعات البشرية لنأخذ مثلا في القطب الشمالي إنهم منذ زمن موغل في القدم يعيشون يأكلون ويشربون ويتناسلون كل ذلك جميل لكنهم لن يتقدموا أبدا ما لم يروا أُناسا آخرين يحيون بطريقة اُخرى ولهم عادات أُخرى فهم سيقتبسون منهم ما ليس لديهم وما ينقصهم وهذا ما فعلوه فعلا أخذوا من الآخرين ما ليس لديهم فطوروا من أوضاعهم واكتسبوا أشياء اُخر لم تكن لديهم لذا سهلوا طرق عيشهم وطوروها مع الاحتفاظ بقيمهم . وكذلك أراد الله لخلقه في قوله تعالى " وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " .
أجابت ربة الدار من مقعد وثير كانت تغطس فيه وهي طبيبة في الأربعينات من عمرها جميلة ترتدي فوق ملابسها شالا أزرق لأنها لم تتشافَ تماما من مرضها بعدُ - كانت صديقاتها يزرنها للاطلاع على صحتها من جهة وليؤنسنها من جهة اُخرى - قالت كلكن تعرفن منحدري وقد طلبت أن يكون تدرجي الطبي حيث وُلد جدي لأخدم أهلي وعشيرتي . غير اني طوال ما كنت هناك عوملت كغريبة تماما إذ كانت بنات عمومتي لا يأنسن لي أبدا وينظرن اليّ في معطفي الأبيض كدخيلة لا لشيء الا لأني أولا أعمل في مشفى ولأني ثانيا لم أكن ألبس ولا أتكلم مثلهن ..... حتى ندمت لاختياري منطقة التدرج وفرحت بانتهائه - . وهذا يبرهن إن الانغلاق سببٌ للتمسك بعادات وتقاليد مناطقية والتحمس لها والذود عنها وقد لا يكون كل الخير فيها .
قالت الاولى : لعل فيما نقول بعض التجني . غير إن كثيرا من العادات التي تمارس في المواقع المنعزلة على إنها تمسك بالتقاليد يُشرّف من فعله قد يُعدُّ سُبّة في مجتمع آخر .
ردت الثالثة : نعم فيما تقولين كل الصحة فان ابن أحد أعمامي نهى عن ابنة عمي الآخر ومنعها من أن تتزوج لأنها مسماة باسمه منذ ولادتها ولما ترك عمي ( أبوها ) القرية الى مدينة صغيرة قريبة منها أتم كل أبنائه تعليمهم وكذلك ابنته فجاء المسمى خطيبا متقدما لخطبتها مصرّا عليها ولم يرض عمي ولا ابنته بذلك غير إن العشيرة كلها – الا أبي - وقفت مؤيدة ابن العم في إصراره على الزواج منها واعتبروه شجاعا وشهما لتمسكه بها وبتقاليد العشيرة ونسي الجميع أو تناسوا قول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم ) ( بالكفء ) فلما ذكّرهم أبي بذلك , قالوا جميعا انه كفؤها أليس ابن عمها فلم يروا في الكفء الا جانب النسب فحسب .
قالت الثانية : ولِمَ لم يزوجوها منه ؟! . الا يُعدُّ ذلك استكبارا أن ترفضه لأنها متعلمة وهو ليس كذلك ؟
قالت الثالثة : الا تعلمين إن شرط الزواج الرضا والقبول وما لم يتوفر يُعتبر الزواج باطلا لو إنها اقتنعت به لكان الأمر طبيعيا ولكنها لم تقتنع ومن هنا ولد الإشكال . ثم إن المرأة عادة تضع نصب عينيها مثالا ويكون زوجها قدوة فإن لم ترَ فيه قدوة لها ومثالا فلن يكوّنا اسرة قادرة على المضي قدما في مختلف الأحوال والظروف . خذي مثالا على ذلك زميلتنا ( س ) التي انفصلت عن زوجها لأنها كانت تتعرض لسخرية الزوج كلما نطقت بكلام أو طرحت فكرة ما وإن كانت نيّرة , ذلك لأن البون شاسع بينهما في التحصيل العلمي والثقافي . فكان يسخر من كل ما تعلمته وآمنت به وتود أن تعمل به ليكون دعامة لمسيرة حياتها وحياة اسرتها . لذا فقد أبقاها معلقة فلا هي زوجة ولامطلقة . لذا فإن " الكفء " تشمل التعليم ضمن ما تشمل كما أرى وأعتقد . وهنا اندفعت الى منتصف الغرفة حيث ربة البيت طفلة في الرابعة من عمرها بجدائل كستنائية جميلة وهي تقول : ماما ماما سوزي مريضة اكشفي عليها واعطني دواء ماما ماما أرجوك أسرعي سوزي تحتاج الى " ابرة " . كانت تحتضن دميتها سوزي بحنان ورثته عن امها وجدتيها . أخذت أمها الدمية ووضعتها في حضنها وهي تتظاهر بالكشف عليها قائلة :
اوه .... نعم إن حرارتها مرتفعة , وجست نبضها ثم طلبت من ابنتها أن تأتيها بلوازم " الابرة " - وكان ضمن لعبها عدة بلاستيكية لذلك - وبعد أن تظاهرت بانها حقنت الدمية بما يشفيها طلبت من الطفلة أن تأخذها الى فراشها كيما ترتاح وطمأنتها قائلة : لا تخافي فقد أجريت اللازم . كانت الضيفات جميعا يبتسمن طوال الفترة التي استغرقها الفحص والتشخيص واجراء اللازم . أعجبهن ما فعلته الطفلة فابتسمن قائلات " فرخ البط عوام إن شاء الله " .
ولما خرجت الطفلة عُدن لتداول الحديث ولكنه هذه المرة كان عن اسعار وأنواع الملابس والكماليات وعن أخبار المحلات الجديدة
" المولات " الكثيرة التي انتشرت أخيرا بسعة وانتشار في أرجاء البلدات القديمة
*****
سمية العبيدي
بغداد
31 / 5 /2014
1720 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع