نشأة كليات الطب في الحضارة العربية الإسلامية

                                                   

                   الدكتور محمود الحاج قاسم محمد
                باحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي
                   طبيب أطفال – الموصل / العراق


نشأة كليات الطب في الحضارة العربية الإسلامية

لقد مرت كليات الطب العربية في عهد الدولة الإسلامية بأدوار كثيرة وتطورت حتى نمت واتخذت شكلها المتكامل الناضج ، حيث بدأ تعليم الطب في المساجد كسائر العلوم ، ثم أنشأت دور الحكمة التي جمع فيها الكتب من مختلف اللغات ، وفي زمن المأمون ارتفعت هذه الدار من مجرد مكتبة إلى دار وأكاديمية للبحث العلمي والإنتاج الفكري توفرت على خدمة العلم ، تلقى بها المحاضرات العلمية والأدبية. وكان للطب حظ كبير من ذلك فترجموا العديد من الكتب الطبية اليونانية والفارسية والهندية إلى اللغة العربية 

ولما أهلّ القرن الخامس الهجري كانت قد انتشرت مختلف العلوم على يد العلماء العرب والمسلمين بفضل مؤلفاتهم والكتب المترجمة من اللغات الأخرى وكان شغف الناس قد بلغ بالعلوم مبلغاً عظيماً ، فكان لابد من ظهور المدارس . لقد كانت هذه المدارس في البداية دوراً يجتمع فيها الأستاذ مع من يصطفيه من الطلاب الذين يتوفر على تدريسهم ، إما في دار ينشئه هو أو يقوم بإنشائه أحد الأثرياء . وأقدم مدرسة من هذا النوع مدرسة أبي بكر بن فورك الأصبهاني ( ت 406 هـ ) . ثم انتشرت هذه المدارس الأهلية في مختلف البلاد الإسلامية وتطورت تطوراً سريعاً ، حتى إنها قبل أن ينتصف القرن الخامس الهجري دخلت دوراً جديداً باحتضان الدولة لفكرة المدرسة واتخاذ هذه المدارس مراكز لنشر العلوم والفكر الإسلامي . وأول من قام بإنشاء المدارس الحكومية هو الوزير نظام الملك الذي عاش بين ( 408 – 486 هـ ) فأنشأ في كل مدينة في العراق وخراسان مدرسة .
وكانت أعظم هذه المدارس المدرسة النظامية في بغداد التي أكمل بناؤها سنة 459 هـ ، وفي شمال إفريقيا أنشئت مدرسة في جامع الزيتونة منذ بنائه عام 141 هـ ، ما لبثت أن أصبحت مدرسة دينية وللغة العربية …. وفي عام 245 هـ بني جامع القرويين في فاس بالمغرب الذي تحول بدوره إلى جامعة إسلامية وتعتبر جامعة القرويين أقدم جامعة استمرت بأداء مهمتها لأنها سبقت في أداء رسالتها العلمية أي جامعة أوربية .
إن موضع المدارس الطبية في هذا التطور المدرسي لم يكن يختلف كثيراً عن المدارس الأخرى التي كانت تدرس علوم الشريعة ، ويمكن إجمال ذلك بما يلي :

 

أولاً :المدارس الطبية النظرية الخاصة :
كانت لقاءات خاصة بين الأساتذة وطلابهم الخاصين في بيوت الأساتذة الخاصة ولم تكن معاهد عامة يتردد عليها الناس ، ومن الأمثلة على ذلك مجلس ابن سينا بالليل في داره . ومجلس ابن هبل البغدادي في بيته بمدينة الموصل ومجلس أوحد الزمان أبو البركات .
ثانياً :المدارس الطبية النظرية العامة :
لقد كان ظهور هذه المدارس نهاية المطاف بالنسبة لتطور دراسة الطب النظري فأصبح لتدريس الطب مدارس عامة على نظام المدارس الأخرى غير أن عدد هذه المدارس كان
قليلاً ، ولم تنتشر كثيراً ولعل ذلك يعود إلى كون الطب من العلوم التجريبية التي لا تصلح أمثال هذه المعاهد لدراستها دراسة علمية صحيحة . لذلك ظلت البيمارستانات هي الكليات المفضلة . وأوائل هذه المدارس الطبية النظرية التي جاء ذكرها :
أ - المدارس الطبية النظرية العامة في بلاد الشام : وأهم وأول مدرسة طبية نظرية عامة عرفتها الشام هي المدرسة الدخوارية بدمشق التي أسسها الطبيب والأستاذ بالبيمارستان الكبير النوري مهذب الدين عبد الرحيم المعروف بالدخوار حيث أوقف داره وجعلها مدرسة للطب سنة 628 هـ=1230 م وممن درسوا صناعة الطب في هذه المدرسة الحكيم سعد الدين إبراهيم بن عبد العزيز والحكيم شرف الدين أبو الحسن الرحبي وعماد الدين الدنيسري وعز الدين السويدي وكثيرون غيرهم .
ومن المدارس الأخرى من هذا النوع : المدرسة الدنيسرية التي أنشأها عماد الدين الدنيسري .
المدرسة اللبودية : التي أنشأها نجم الدين اللبودي .
ب - المدارس الطبية النظرية العامة في العراق : إن أقدم مدرسة نظرية للطب أنشئت في العراق هي مدرسة الطب في البصرة والتي أنشأها أبو المظفر باتكين سنة 629 هـ / 1231 م في خلافة المستنصر .
أما أشهر هذه المدارس في العراق فهي مدرسة الطب ( إيوان الطب ) التي ألحقت بالمدرسة المستنصرية . وقد تم إنشاؤها سنة 633 هـ / 1235 م مقابل باب المدرسة الرئيسي كما يقول ابن الفوطي ، تكامل بناء الإيوان المقابل للمستنصرية وعمل تحته صفة يجلس فيها الطبيب وعنده جماعته الذين يشتغلون عليه بعلم الطب ويقصده المرضى فيداويهم .وحين يصف للمرضى الدواء يصرف من المخزن المعد لهذا الغرض والذي يشرف عليه صيدلي وهناك مضمد يقوم بمداواة وتضميد المرضى .
وقد أصبحت هذه المدرسة النواة لازدهار الدراسات الطبية في بغداد …. وكان المشرف على قسم الطب في المستنصرية مشرفاً عاماً على جميع الأطباء في العراق .

ثالثاً : المدارس الطبية العملية ( البيمارستانات أو المستشفيات التعليمية ) :
لقد أدرك المسلمون أن علم الطب باعتباره من العلوم التجريبية لا يمكن دراسته بعيداً عن المرضى . كما أدركوا أن المستشفيات خير مكان لهذه الدراسة لقرب الطلاب من الحالات المرضية ولتوفر العلاجات المتنوعة فيها . وكان اختيارهم هذه المستشفيات وجعلهم إياها كليات لتدريس الطب الإكلينيكي ( العملي ) = السريري من أجلّ الأعمال التي أسهمت في تقدم العلوم الطبية الحديثة .
كانت هذه المستشفيات في بدايتها قليلة إلاّ أنها في وقت قصير من عمر الزمن انتشرت في أغلب الحواضر الإسلامية مما أدى بماكس مايرهوف أن يقول : (( ولدينا معلومات وثيقة لأربعة وثلاثين معهداً من هذه المعاهد على الأقل كانت منتشرة في أنحاء العالم الإسلامي من بلاد فارس حتى مراكش ومن شمال سوريا حتى مصر وأشهر هذه البيمارستانات على سبيل المثال :
‌أ- البيمارستان المقتدري في بغداد : أنشئ سنة 306 هـ وممن درسوا فيه يوسف الواسطي وعليه قرأ جبريل بن بختيشوع .
‌ب- البيمارستان النوري الكبير في دمشق : أنشأه السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد عام 549 هـ = 1154 م من مال أخذه من أحد ملوك الفرنج ، وقد دخله ابن جبير عام 570 هـ فوصف عناية الأطباء بالمرضى وتفقدهم لشؤونهم وقد أستمر هذا البيمارستان يقوم بعمله حتى سنة 1317 هـ .
‌ج- البيمارستان العضدي في بغداد : أنشأه عضد الدولة بن بويه سنة 368 هـ ، وجعل فيه أربعة وعشرين طبياً منهم أبو الحسن علي بن إبراهيم ابن بكس الذي دأب على تدريس الطب فيه . ومن الأطباء الذين درسوا فيه أبو الفرج بن الطيب الذي عاصر ابن سينا وكان يدرس في البيمارستان ويعالج المرضى ومن تلاميذه ، ابن بطلان وابن بدروح والهروي وغيرهم من أعلام الطب في الإسلام . ومن بين من ترأس هذا البيمارستان ، أبو الحسن سنان بن ثابت بن قرة وأمين الدولة ابن التلميذ وكان هذا البيمارستان من أكبر الكليات الطبية التي شهدتها بغداد ، تهدم هذا البيمارستان في الغزو المغولي سنة 656 هـ .
‌د- البيمارستان النوري الكبير أو المنصوري بالقاهرة : أنشأه الملك المنصور سيف الدين قلاوون وأكمل بناءه سنة 683 هـ . لقد بلغ البيمارستان الغاية في البناء والإعداد والأوقاف المخصصة له . ومن جملة ما ذكره المقريزي من وصف لهذا البيمارستان : (( وجعل فيه مكاناً لإلقاء المحاضرات في الطب ينتفع بها الطلبة ويعتبر هذا البيمارستان أعظم المستشفيات والكليات الطبية في تاريخ مصر في العصور الوسطى وممن قام بالتدريس فيه ، ركن الدين بن القريع التونسي ، عمر بن سراج الدين البهادري ، عبد الوهاب بن محمد الشاوي ، مدين بن عبد الرحمن القوصني وغيرهم كثير )) .
هـ- وأما في المغرب العربي وعلى سبيل المثال أيضاً فقد كان في الأندلس أربع مدارس مشهورة أقدمها هي مدرسة الطب التي أسسها عبد الرحمن الناصر في قرطبة والتي تعتبر أول مدرسة للطب أُسست في أوربا . أما الثانية ففي إشبيلية والثالثة في طليطلة والرابعة في مرسية

------------- 

- الحنبلي ، ابن العماد : شذرات الذهب ، الشركة التجارية ، بيروت ( بدون تاريخ ) ج 3 ، ص 181 .

-أمين ، د. أحمد: ضحى الإسلام ، دار الكتاب العربي - بيروت ، الطبعة العاشرة ، ج 2 ، ص 49 .
- أقدم جامعة أوربية أنشئت في ساليرنو في إيطاليا 1050 م ، ثم تبعتها جامعة بادوا 1223 م ، وأكسفورد 1249 وكامبرج 1284 م ، وسلامنكا بأسبانيا 1243 م ثم مونبليه .
- منتصر ، عبد الحليم : تاريخ العلم ، دار المعارف ، الطبعة الثالثة ، 1969 ، ص 50 .
- ابن الفوطي ، كمال الدين أبو الفضل : الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة ، المكتبة العربية – بغداد 1932 ، ص 181 .
- ابن الفوطي : المصدر نفسه ، ص 181 .
- الأعظمي ، علي ظريف : مختصر تاريخ بغداد ص 112 .
- ابن العبري ، غريغوريوس أبي الفرج : تاريخ مختصر الدول ، المطبعة الكاثوليكية – بيروت ، 1890
ص 465 .
- أمين ، د . حسين : المدرسة المستنصرية – مطبعة شفيق ، بغداد 1960 ، ص 56 .
- توماس ارنولد : تراث الإسلام ، ترجمة جرجس فتح الله ، الطبعة الثانية ، بيروت 1972 ، ص 387
- الجراري ، عبد الله بن العباس : تقدم العرب في العلوم والصناعات ، دار الفكر العربي 1961 ، ص 64 .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4844 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع