الجِنسُ المُحايِد والحديثُ ذو شُجون

                                                  

                         د. زكي الجابر

               الجِنسُ المُحايِد والحديثُ ذو شُجون

       

إعداد: د. حياة جاسم محمد

ما سأتحدَّثُ به إليكَ ليسَ لَعِبَاً وإنْ كانَ هناكَ مِن الجِدِّ ما يجُرُّهُ اللَعِبُ، كما أنَّه ليس هَزْلاً فهُناكَ مَن ينصَحُكَ بِمُجانَبَةِ مَن هَزَلَ، ولكنّه حديثُ دِراساتٍ تُعْرَفُ بالدراساتِ الحَضاريَّة. وهي تقولُ، فيما تقولُ، بوجودِ صوتٍ يَتعالَى بمَفهومِ ’’النَوعِ‘‘، ويُرادُ به المَفهومُ الحَضارِيُّ الذي يُلحَقُ بِهُوِيَةِ الجِنسِ من ذَكَرٍ وأُنثَى، وإنَّ الغَرَضَ من ورائِهِ يَنتهي إلى تَحريرِ النساءِ وكَذلك الرجال. إنَّه مفهومٌ يَتجاوَزُ التَنْميطَ الجِنسِيَّ القائمَ على الفوارِقِ البَيولوجيةِ بين الذَكَرِ والأُنثَى والانتقالَ إلى مُستَوىً قد يكونُ نَظَريّاً ولكنّه إنسانيّ. إن الفارِقَ البَيولوجِيَّ، في رَأيِ مَن يَطرَحُ مفهومَ النَوعِ، ضعيفُ التَوازُنِ، ولكنّه يُطوِّرُ فَوارِقَ بِنْيَوِيَّةً حَضاريَّةً تُوَظَّفُ من أجلِ تَصنيفِ عَلاقاتٍ اجتماعيّةٍ ذاتِ مَعنَى. وإذا ما كانَ الفارِقُ البَيولوجِيُّ يَصعُبُ تَغييرُه فإنَّ الفارِقَ الحَضاريَّ الآيديولوجِيَّ يُمكِنُ أنْ يَتغيَّرَ مع مُرورِ الزمن.
واستَعِنْ بِصَبرِكَ قليلاً فالموضوعُ لم يَصِلْ إلى نِهايتِهِ، فقد طَرَحَتْ تلك الدراساتُ أيضاً ما يُدعَى بالجِنسِ المُحايِدِ أو الشامِلِ، وهو يَنتَزِعُ كثيراً مِمّا أسبَغَهُ المُجتمعُ على الرجلِ والرُجولةِ من صفاتٍ لِيَمْنَحَها للأُنثَى، وهذا يُوَلِّدُ الجِنسَ المُحايدَ الذي تَتلاشَى فيه الفَوارِقُ ويَغْدو الذَكَرُ والأُنثَى جِنساً مُوَحَّداً هو ذلك الجِنسُ المُحايِدُ أو الشامِل.
والداعُونَ إلى الجِنسِ المُحايِدِ أو الشاملِ يَرَوْنَ أنَّ المُؤتَمراتِ الدُوليَّةَ حولَ الشأنِ النِسوِيِّ تَضمَّنَتْ في مُحتَوَياتِها ذلك المفهومَ وإنْ لم تَذْكُرْهُ صَراحَةً أحياناً. أَلمْ يَقُلِ المُؤتمرُ الدَوليُّ للسُكّانِ (القاهرة 1994): ’’تَشتَرِكُ المرأةُ اشتراكاً كاملاً، وعلَى قَدَمِ المُساواةِ، في الحياةِ المَعرِفِيَّةِ والثَقافيَّةِ والاقتِصاديَّةِ والسياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ على كُلٍّ من الصَعيدِ الوَطنيِّ والإقليميِّ، وإزالةِ جميعِ أشكالِ التَمييزِ على أساسِ الجِنس‘‘؟ أَلَمْ تَذْكُرْ اتفاقيَّةُ القَضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييزِ ضِدَّ المرأةِ التي أصبَحتْ نافِذَةَ المفعولِ في أيلول 1981: ’’إنَّ تحقيقَ المُساواةِ الكاملةِ بين المرأةِ والرجلِ يتطلَّبُ إحداثَ تَغييرٍ في الدَوْرِ التقليديِّ للرجلِ وكَذلك في دَورِ المرأةِ في المُجتمعِ والأُسرة‘‘؟ أَلا يَعني ذلك تَبَنِّياً لِمفهومِ الجِنسِ المُحايِد!
وأتمنَّى أن تستعينَ بِصبرِكَ مرّةً ثانيةً فالموضوعُ لم يصِلْ إلى نهايتِه. ثَمَّةَ كاتِبةٌ لُغويَّةٌ فَلسفيَّةٌ اجتماعيّةٌ تحملُ اسمَ ’’جُوليا كريستيڤا‘‘(1)، لَها ما لَها من أتباعٍ ومُريدينَ، ترَى أنَّ الحركةَ النِسْويَّةَ مرَّتْ بِثَلاثِ مَراحلَ، أُولاها كانَتْ حِينَ رَغِبَتِ النساءُ في المُساواةِ وحاوَلْنَ الفَلاتَ من أَصْفادِ الخُضوعِ وقُيودِ التَبَعِيَّةِ للرجل. وكان لذلكَ حَصِيلَتان، أُولاهُما النِسوِيَّةُ المَنزليَّةُ الّتي تَنظُرُ إلى الفوارقِ بين الذَكَرِ والأُنثَى على أَنّها فَوارِقُ طبيعيّةٌ، وأَنَّ السُلطةَ الأَبَويَّةَ للرجلِ يجبُ أن تَبقَى ولكنْ على اعتبارِ أَنَّ القِيَمَ الأَخلاقيَّةَ التي تتمتَّعُ بها المرأةُ من عَطفٍ وحنانٍ وتَضحيةٍ وصَبرٍ أَفضلُ من القِيَمِ الذُكوريَّةِ مِثلَ التّنافُسِ والعُدوانيَّةِ والفَردانِيَّة. أَمّا ثاني الحَصيلتَيْنِ فَهيَ اللِيبراليَّةُ النِسويَّةُ التي لم تَتَوانَ في المُطالَبَةِ بالمساواةِ مع الرجلِ في مَجالاتِ الخِدمةِ العامَّةِ، وكذلك المُساواةِ بالأُجورِ وإحداثِ التَغييرِ في نِظامِ المِهَنِ بِحَيثُ يَتلاءَمُ مع عملِ المرأةِ خارِجَ المَنزِل.
وفي ثانيةِ المراحلِ، كما تقولُ كريستيڤا، تتصاعدُ الدَعوةُ إلى استقلاليَّةِ المرأةِ وتكوينِ مُجتَمعاتٍ نِسائيَّةٍ يُرْفَضُ فيها النظامُ الذُكوريُّ ورُموزُه، ويُحتَفَلُ بالأُنثَويَّةِ لِما تَتَميَّزُ بها من خَصائِصَ جوهريَّةٍ فريدة.
وفي ثالثةِ المراحلِ، والقولُ لكريستيڤا أيضاً، تتجاوَزُ النساءُ الفوارقَ الاجتماعيَّةَ ’’المُشَيَّدَةَ‘‘ بين الذٌكورةِ والأُنوثةِ، ويرفُضْنَ الفَصلَ بينَ الذُكورَةِ والأُنوثة، ويتّوَلَدُ مفهومُ النوعِ ودراساتُه التي اقتَرَنَتْ مع دراساتٍ أخرَى منها دراساتُ النساءِ ودراساتُ المِثلِيّينَ والمِثلِيّاتِ ودراساتُ الرجال! وفي كلّ هذه الدراساتِ يسودُ الاعتبارُ بأّنَّ نوعَ الشَخصِ لا يتأتَّى طبيعيّاً أو حَتِميّاً من الجِنسِ (ذَكَرٌ، أٌنثَى)، وأَنَّ هناك تشيِيداً لِهُويَّةِ المرأةِ والرجُلِ في المجتمعِ وأَدَبهِ، وما يُعتَبَرُ ذُكوريّاً في مجتمعٍ ما يختلُف مُعتَمِداً على مَدَى اختلافهِ عمّا يُعرَفُ بأَنَّهٌ أٌنثَوِيٌ، وما يُعتَبَرُ أٌنثَويّاً يعتمدٌ على ما لَيسَ بِذُكورِيّ. إنَّ المرأةَ إِذْ تولَدُ لا تأتي مُزوّدةً أوتوماتِيكيّاً بالأُمومةِ، فَقدْ تَرغَبُ بعضُ النساءِ في الأُمومةِ، وبعضُهنَّ يَرغبْنَ ولا يَقدِرْنَ عليها، وبعضُهنَّ لا يَحمِلْنَ، وبعضُهنَّ لا يكترثُ بالعِنايةِ بالطفل.
والجِنسُ المُحايِدُ يَحمِلُ في طَيّاتِهِ ثورتَه على النظامِ الأَبَوَيِّ الذي ينطوي على السيطرةِ والاستغلالِ البِنيَوِيِّ والمُنَظَّمِ والتأريخيِّ للرجالِ على النِساءِ، والذي ينطوي كذلكَ على ذلكَ النَمَطَ من القبيلةِ أو الجماعةِ أو الأُسرةِ أو العائلةِ أو الساكنةِ تحتَ سَقفِ دارٍ واحدةِ تخضَعُ لِذَكَرٍ مُسيطِر يَمتلِكُ قُوّتَينِ: قُوَّةِ الأب وقُوَّةِ الرَجل، وبِهِما يتمكَّنُ من إِخضاعِ كلِّ ما تّحتَ السَقفِ من ’’مُمْتَلَكاتٍ‘‘ ومنها الزوجةُ والأطفال.
والجِنسُ المُحايِدُ يَتضمَّنُ ثورةً ضِدَّ تلكَ القوَّةِ على اختلافِ ضُروبِها، وفي مُقَدَّمَتِها العُقوباتُ الجّسديَّةُ من ضربٍ وتعذيبٍ، والهَيمَنَةُ الفِكريَّةُ التي تُضطَرُّ فيها النساءُ إلى التَوافُقِ مَعَ ما هو قائِم.
والجِنسُ المُحايِدُ يَتضمَّنُ ثورةً علَى ’’التَنمِيطِ‘‘ الذي بمُوجِبِه تُوضَعُ المرأةُ في قَوالِبَ مُحَدَّدةٍ والرجلُ في قَوالِبَ مُحَدَّدةٍ أخرى. فالمرأةُ هي الخاضِعةُ الخائِفةُ من غَضْبَةِ الفَحْلِ، وهي المُغرِيَةُ جِنسيّاً وتِجاريّاً في الإعلانِ التِجارِيِّ، وهي راقِصَةُ البَطنِ أو البَلهاءُ المُغَفَّلةُ، والرَجلُ هو الرَجلُ، قُوَّةُ العَضَلِ والإِباءُ والخِبْرة.
والجِنسُ المُحايِدُ يَتضمَّنُ ثورةً ضِدَّ اللُغةِ، اللُغةِ النسائيةِ المعروفةِ بصَوْتِيّاتها وقَواعِدِها ودَلالاتِها، اللغةُ التي لا يَحسُنُ بالرَجلِ أن يَنطِقَ بها أو بِمِثلِها، اللغةُ التي تَمتَزِجُ فيها الرِقَّةُ والدموعُ والحَلاوَةُ والخَديعة.
وأظُنُّ أن صَبرَكَ قد ضاقَ، ومن هُنا يَجدُرُ بي أن أقولَ إنَّ تَوَجُّهَ الجِنسِ المُحايِدِ لم يَستَطِعْ بَعدُ أن يُرَسِّخَ أقدامَهُ، وإنَّ هناكَ تَوَجُّهاً آخَرَ آخِذاً بالتَصاعُدِ بعد أن هَدَأَ لفَترَةٍ، التَوجُّهُ الذي يُكَرِّرُ الدَعوَةَ القديمةَ إلى الأُسرةِ النَواةِ حيثُ تقومُ المرأةُ بِدَورِها التربويِّ التَقليديِّ في ظِلِّ تَفاهُمٍ بَنّاءٍ قائِمٍ على الحِوارِ والمُناقَشَةِ حولَ العَمَلِ وشُؤون الأُسرةِ رُبَّما ينتهي إلى تَخفيفِ الصِراعِ بين الزوجِ والزوجَةِ، وبِتعبيرٍ آخرَ إِنّهُ يَتعالَى على مَفهومِ رَبّاتِ الخُدورِ ولابِساتِ الشُفوفِ:
إِنَّما نَلبَسُ الدُروعَ ثِقالاً
لِرُجوعٍ لِلابساتِ الشُفوفِ
كما يَتعالَى على سَجنِ المَرأةِ ما بينَ جُدرانِ المنزلِ:
والمَرءُ يعملُ في الحُقولِ
وعُرسُهُ في المَنزِلِ!
ويَميلُ إلى التأكيدِ على سَلامةِ صِحَّةِ الأُسرَةِ بَدَنيّاً وعَقليّاً وعاطِفيّاً. تُرَى هل أَعرَبتُ عن رأيي في الجِنسِ المُحايِد؟ لقد خَشِيتُ أن أُطيلَ، ولعلَّكَ لن تُطيقَ مَعِيَ صَبراً، والحديثُ ذو شُجونٍ يَأخُذُ بَعضُه بأطرافِ بَعض.
_____________________________________
(1) جُوليا كريستيڤا (Julia Kristeva) أديبة وعالمة لِسانيات وفيلسوفة ونِسويّة فرنسية من أصل بلغاري. لها تأثير في التحليل النقدي الدولي، وأنتجت كمية هائلة من الكتب والمقالات في التناصّ والسيميائية واللسانيات ونظرية الأدب والنقد، وتحليل النفس والسيرة والسيرة الذاتية وتحليل الفن وتأريخه. كانت من البنيويين ولها مكانة مهمة في الفكر ما بَعْدَ البنيوي. (ويكيـﭙـيديا)
********************
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘ (المغرب)، 2000-1-18.
ما بين نشر المقالة واليوم توسع مفهوم الجنس المُحايد وتطوّر، فلم تعد العناية بالطفل مقصورة على الأم بل ظهرت ’’إجازة الأبوّة‘‘، فيُمنح الأب إجارةً مدفوعة الأجر ليتفرّغ للعناية بالطفل. كما لم يعد مُستغرباً أن يلبس الرجل ملابس النساء إن رَغبَ والعكس يَصِحّ، ولم يعد مُستهجناً أن يتحوّل الذكر إلى أنثى والأنثى إلى ذكر، ونتوقّع من آتياتِ الأيام أكثر فالتغيُّر قاعدة الوجود.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

832 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع