بلد التمر يستورد التمر

                                        

                     يعقوب أفرام منصور

     

بلد التمر يستورد التمر

قبلَ اكتشاف النفط (ألذهب الأسود) في باطن أرض العراق، وتحديدًا في حقول كركوك، خانقين، الموصل، البصرة وميسان، وبذا غدا العراق أحد أغنى أقطار العالم بهذا النوع من الثروة الطبيعية، عُرف العراق بغناه في محصول أصناف عديدة من التمر، فوُصِف بكونه [بلد التمر]، وكانت أرقى أصنافه تُصَدّر إلى إنكلترا وأمريكا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بصناديق خشبية مبطّنه بكاغد مشمّع ابيض وأسمر. وعُرف التمر في أسواق دياربكر وغيرها من مدن جنوب الأناضول في أوائل القرن العشرين. وأغنى محافظة بهذا الحاصل الغزير كانت محافظة البصرة، فكانت غزارته سبب رخص أسعاره ردحًا طويلاً، حتى قيل عنه في الأمثال ( أرخص من التمر في البصرة !). وكانت ولاية البصرة في أواخر العهد العثماني ـ المتداعي للسقوط ـ اوسع ولايات العراق المعروفة آنئذٍ رقعةً، إذ كانت حتى أوائل القرن العشرين تشتمل على منطقة الأحواز ( عربستان الحالية في إيران، وكانت تُسمّى أيضًا " ناصرية العجم"، وفيها عبدان والمحمرة ونهر كارون الذي يصب في شط العرب.) كما كانت ضمن أراضي البصرة في الجانب المقابل من خليج البصرة ( أوالخليج العربي): قضاء الكويت الوسيع ليضم شبه جزيرة " فَطَر" الحالية. وتمتاز البصرة بإنتاجها أجود وألذّ الأنواع وأكثرها عددًا ، وبعضهم يقول إنها تربو على عشرين نوعًا. وما برحتُ أذكر أكثرها شهرةً : ألحلاّوي، الخضراوي، ألبرحي، اللِلوِي، ألبرَيم، الكنطار، ألحِمري. أمّا من أنواعه الرخيضة المبتذلة، فأذكر الساير والزهدي.

شاع في البصرة ،منذ مطلع القرن العشرين، إحتواؤها على مكابس التمور على الضفة اليمنى المعمورة من شط العرب، وعُرفت مواقع المكابس بإسم (جراديق) ومفردها (جرداق)، حيث في كل مكبس يقوم عمّال مدرّبون بصفّ وكبس أجود أنواع التمور في صناديق خشبية مستوردة ، طول أحدها قدمان وعرضه قدم واحد وعمقه قدم، وفي صناديق مماثلة أحجامها تعادل نصف حجم التي أسلفتُ ذكرها وكان ه، يزن الكبير رهاء 10 كغم من التمر، ويزن الصغير زهاء 5 كغم من التمر. والعمّال يَرتدون "الصدريات " البيض، وهم أصحّاء الأبدان وعرضة للتفتيش الصحّي في فترات غير محددة طيلة موسم الكبس والتحميل في " مهيلات" شراعية كبيرة ومتوسطة تنقل الصناديق المعبّأة إلى السفن البحرية الراسية وسط شط العرب مقابل الجراديق من منطقة " المعقل" إلى " أبي الخصيب" قبل (الفاو). وكان هذا الموسم ينتهي في أواسط أو أواخر الخريف.
أمّا التمور الرخيصة أسعارها، فتُكبس في خِصاف، زنة الواحد منها زهاء 20 كغم، وفي الناصرية والديوانية وغيرهما تُكبس تمورها في خِصاف أيضًا، ومنها يُرسل الكثير إلى بغداد وكركوك والموصل. أمّا الصنف الجيّد والمشهور في بغداد، فهو "ألأجرسي"، وكان من تمر واسط الجيد والنادر نوع "ألبدرايي" نسبةً إلى بلدة "بدرة" (بادِرايا التاريخية)، وثمة صنف آخر يأتي منه إلى بغداد في الخريف، ويُعرف ب "الديري" وهو قليل الطراوة غير دَبِق، أملس، لونه بنفسجي غامق، ولعلّه من بُليدة (ألدير) قرب البصرة أو التي قرب اليوسفية أو الإسكندرية جنوبي بغداد. وثمة صنف آخر نادر يُعرض في بغداد في أول الشتاء ويُسمّى (ألأزرق).
ونقلاً عن شبكة الإنترنت، إستنادَا إلى (الموسوعة الحرّة) و (عراق برس)، ورد ما يأتي : [ تُعد البصرة في مقدمة أكبر المدن العالمية في تصدير التمور، حيث توفرت أجهزة المقاييس والسيطرة النوعية والتعاون مع مراكز البحوث. واستنادًا إلى " ألموسوعة الحرّة"، يُعد العراق في مقدمة أقدم مواطن زراعة النخيل في العالم؛ إّذ أظهرت بعض الآثار والمكتشفات التاريخية صُوَرًا للنخيل في مناطق من جنوب العراق. وفي عام 1888 أُدخِل عدد من مكابس التمور إلى البصرة لغرض تعبئة وكبس التمور قبل تصديرها من عدة موانئ ومراسٍ وسط شط العرب. وبعد عام 1968 ظهرت عدة محاولات لإنشاء مؤسسة مركزيّة واحدة لجميع متطلّبات خدمة ورعاية النخيل وحاصل التمور، فتمّ تأسيس (ألشركة العراقية لتصنيع وتسويق التمور.) وعندما وصل سوء حال النخيل في العراق إلى هلاك 16 مليون نخلة، شرعت الكويت تُصدّر التمر إلى العراق !]. ومعلوم أن الدبس العراقي المستخرج من التمر يُعد مادة غذائية متميّزة، وكان أحد مصانع تعليب المواد الغذائية في كربلاء ينتجه على نطاق واسع في السبعينيات والثمانينيات.
مع نهاية الخمسينيات كان عدد النخلات في العراق بربو على 30 مليون نخلة، منتشرة على مساحات واسعة من بساتين النخيل في جميع محافظات الوسط والجنوب، وفي ظلالها تُزرع الخضروات وأشجار الحمضيات والفواكه والكروم، فأرض هذه المناطق الحارّة نسبيًا، حين تُقارن بمناطق المحافظات اشمالية، كما أنها ذات تربة رسوبية ومرويّة جيدًا قليلة الملوحة المفيدة ، وبيئتها ذات رطوبة قليلة مفيدة لإثمار النخيل. وكان في وزارة الزراعة فريق ومواد لمكافحة الأمراض التي تصيب النخيل ومنها حشرة (ألدوباس). وكان ملاّكو بساتين النخيل يغتنون بالواردات التي يحصلون عليها من بيع التمور المصدّرة إلى أقطار الغرب وأسواق أقطار الخليج العربي وعمان والهند والشرق الأقصى ( أندونيسيا والفلبين وغيرهما) والمستهلكة محليًا. واغتناء الملاّكين المذكورين كان يُسهم في إزدهار الحركة التجارية والريع والإقتصاد.
لكن دخل العراق من بيع النفوط أخذ بالتدريج يفوق دخله من بيع التمور والشعير والجلود والمصارين والعظام، والعفص من منطقة كردستان، فهبط مستوى الإهتمام بالنخيل، مما أدّى إلى تناقص إنتاج التمور وصادراتها وصادرات بقية المواد الزراعية والحيوانية . كما أن االحروب المتوالية على العراق 1980 ـ 1988 ، 1991 ، 2003 ـ 2019 أدّت إلى اقتلاع واحتراق عدد كبير من النخيل، فضلاً عن اتّساع رقعة البناء والعمران والنمو السكّاني في الحواضر، فنجم عنه بتر واقتلاع عدد كبير من النخيل كما نجم عدم شتل فسائل النخيل لتدارك هذا التناقص المستمر في عدد النخيل في ظل تردّى أوضاع البلد التي عمّها الإهمال والفساد خلال العقدين الأخيرين حتى أمسى العراق قطرًا مصدّرًا فقط بامتياز وتفوّق على أقطار أخرى مجاورة لا تمتلك مياهه ولا تربته ولا أياديه العاملة، ووصل به الحال السيئ إلى إستيراد التمر من الكويت والسعودية وإيران منذ أعوام بعد 2003 حتى الأن وبتصاعد، حين غدا عدد النخيل في بلد النخيل 3 ملايين نخلة أو ربما أقل بعد أن كان في الستينيات المنصرمة زهاء 33 مليونًا!
أمّا الذي نشاهده من التمر المكبوس محليًا وللإستهلاك المحلّي في علب أو أكياس نايلونية متفاوتة الأحجام، فهو من المحزِن المبكي والمخجِل، شكلاً ونوعًا وتعليبًا وتعبئةً، فأمسى هذا البلد المشهور بوصفه " بلد التمر"، يستورد التمر م.ن أقطار مجاورة دونه شهرةً بهذا المنتوج. ومما يضاعف حزن وغم المواطن العراقي الغيور المثقّف ألاّ يستشفّ أصلاً أيّ تحسّن في أحوال النخيل في البصرة خصوصًا وفي غيرها عمومًا: كربلاء، النجف، الحلة ، ديالى، ميسان.
إن وصع النخلىة العراقية وضع موجِع، ويعكس صورة واضحة عن وضع العراق المتدهوِر من النواحي السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية والأخلاقية؛ إذ كلّما كانت النخلة في حالة زاهية ومزدهرة، وفي إنتعاش وانتشار وعطاء، يكون العراق بأسره، في كل مجالات الحياة، أفضل وأسعد وأرقى عزًّا وسؤدَدًا. والعكس هو النقيض تمامًا. وهذه سطور قطعتي في شأنها عندما نشرتُها في عام 2008 تحت عنوان (رفقًا بالنخلة). أنظر مجلة (نجم المشرق) البغدادية في عددها 56 لعام 2008 وعن تمور وجراديق البصرة أنظر مقالي (ألبصرة في أعماق الذاكرة) النشور في كتابي (بين الأصيل والغسق) بغداد ـ 2012 .

رِفقًا بالنخلة
رِفقًا بالنخلة يا أبناءَ الوطن
طالَ عليها العُسف والجور والمِحن
من خمسة عقودٍ عُجاف تُعاني
حَرقًا وبترًا وسحقًا وظمأ
فإلامَ تبقى نخلتنا تُعاني، يا بني وطني ؟!
أيُرضيكم ما قاست من حيفٍ وعسفٍ ووَهَن ؟!
أما كفاها تمزيقًا وتجريفًا وضنىً؟!
نخلتكم هذي، أبناء العراق،
صِنوُ الأرز في البهاء والخلود
فغدت حاضرًا عجفاءَ مطروحةَ القدود
ظلّت نصفَ قرنٍ زينةَ شعارِ الوطن
ثمّ خبا زَهوُها وتوالت عليها الدِمَن
فحروبٌ ونيرانٌ واقتلاعٌ وعِلل
ثمّ إهمالٌ وهجرانٌ من أهلِ نِعمتها
ونَبذُها ونسيانُها من حرّاس الوطن
بعدَ أن غدا الِنفطُ في هذا الزمن
سلطانًا تَدينُ له الرِقابُ والذِمم !
فواأسفاه ! ثم أسفاه ! وواأندباه !
يا أبناء الرافدين والشطِّ والنَخيل ـ عِزّكم وعُنوانكم
ما أجهلكم، ما أظلمَكم وأقساكم على باسِقاتِكم !
أينَ عبيرُ الطَلعِ والتمرِ وشذا الأرطاب
من رائحة النِفطِ، تزكمُ الأنوف وتسبّبُ الصداع !
أين بهاءُ النخلات الحِسان بسعفاتها وعَذوقِها
من سوادِ النِفطِ الذي يَشري الذِمم ويُردي القِيًم ؟!
ألا رِفقًا بالنخلة يا أبناء الوطن
فقد كفاها ما قاست من حيفٍ وعُسفٍ ووَهَن !
لا يستعيدُ الوطنُ عِزَّه وسؤدَدَه
إلا إذا استعادَ النخلُ نَشرَهُ ورونقَهَ .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

836 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع