سمية العبيدي
نذرٌ
الساعة فوق الجدار الأزرق الذي يحاكي لون سماء صيفية صافية الساعة تشير الى الحادية عشرة قبل الظهر , انقلبت المرأة على جنبها الأيمن بصعوبة بالغة يلونها الأنين وهي تحدث نفسها : نعم قرب الأجل عليها إذن أن تنهي ترددها ومماطلتها وإن تسعى لتحقيق نذرها الذي أجلته عاما بعد عام لا لأنها مسوفة بطبعها , لا بل لأن هذا النذر بالذات سيدخلها في دوامة خجل لا تنتهي كما سيثير حولها الأقاويل وربما كمّاً هائلاً من السخرية والاستهزاء لا بد من ذلك . غير إن كل ذلك أهون من أن تلاقي ربها وهي لم تف بنذرها , لذا قامت من سريرها بتؤدة تبسمل وتحوقل و تضع كفها على موضع الترائب لعل وجيب قلبها يخفت . ذلك الوجيب الذي ترافقه عادة نوبة من الهلع كل مرة سحبت حقيبتها من تحت وسادتها تلك الحقيبة غدت توأما لوسادتها فهي تضم حبوب " ما تحت اللسان " وضعت حبة تحت لسانها وانتظرت بضع دقائق حتى تلاشت من فمها , ثم مضت الى مشجب في ركن الغرفة يغرق في الظلام وأنتزعت شالها وعباءتها .. أولا لفت بعناية شعرها بشالها الأبيض الذي واضبت عليه مذ أيام حجها لبيت الله في صدر شبابها , ثم ارتدت العباءة والمداس المنزلي الذي ما عادت تطيق غيره في قدمي السكري الذي ابتليت بهما طويلاً وأخذت تدرج في الممر الداخلي ذي البلاط المطعم بالرخام مفكرة بما جرها لمثل هذا النذر وأجابت نفسها : عمق الأزمات هو ما يلبس النذور ثيابا لا تليق بها ... نعم هذا ما حدث فعلا وتذكرت صديقتها التي كانت أزمتها حادة جدا مما جعلها تنذر أن ترقص في الطريق إذا ما انفرجت يوماً , ما اضطر صويحباتها اللواتي فرحن معها لانفراج الأزمة أن يحطن بها وجعلن من أجسادهن سورا لتحرك داخله يديها ورجليها بحركات غريبة تدعوها رقصاً وفاء بنذرها الأحمق كما نذرها هي . فتحت المرأة الستينية باب المنزل الرئيس بهدوء فهي لا تريد أن تلفت أحدا من أُسرتها لما تفعل ... خرجت الى الممر الامامي بصمت وانزلقت نحو رصيف الشارع الذي يمتد طويلا أمام منزلها ومنازل الجيران اتجهت يسارا الى عمق الشارع وأحست بالوهن والخور يعاودانها ويكادان يطرحانها أرضا .. لم تعد بل استمرت تمشي متخطية بابين وجمدت عند الباب الثالث فهي لا تستطيع أن تمضي أبعد من ذلك قرعت جرس باب البيت الثالث يسارا وانتظرت قليلا وكلا ساقيها تكادان تنسحقان تحتها ... سمعت من الداخل صوتا من ؟! لم تجب بل انتظرت أيضا فتح الباب فتى في التاسعة من عمره عرف المرأة توا وعرفته هي أيضاً غير إنها لم تلقي عليه التحية كما هو معتاد بل بسطت يدها كمتسولة وهي تقول بصعوبة بالغة : من مال الله ذُعر الفتى ولم يعرف ماذا يقول أو يفعل بل مضى مسرعا الى المطبخ ليقول لأُمه وكلا عينيه تنطقان بالذعر والحيرة حكى لأُمه على عجل ما جرى خرجت المرأة بسرعة خارقة وهي تنفض كفيها من بقايا الخضار الذي كانت تقطعه لتجد الجارة الوقور وقد انهارت تماما على نفسها قرب الباب انحنت عليها لتسمعها تقول : الحمد لله ... لقد وفيت بنذري .... وكان ذلك يوم المرأة المريضة الأخير في هذه الدنيا الفانية .
*****
سمية العبيدي / بغداد
29 /5/2019
333 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع