الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ الرياضيات والعلوم الإحصائية / جامعة الموصل
المهندسة المعمارية أصداء عبد الحميد التحافي
مُدرسة/ كلية الهندسة/ جامعة الموصل
الملا عثمان الموصلي يعود من جديد الى أحضان مدينة الموصل
في مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) 2019 عاد من جديد تمثال الموسيقار الخالد الذكر الملا عثمان الموصلي (1854-1923) في حلّته الجديدة، وفي نفس مكانه السابق مقابل محطة القطارات في أيمن الموصل. عاد هذا التمثال ليكون شاهدا تاريخيا على أصلة هذه المدينة وأبنائها البررة الذين أبوا إلا أن يُعيدوا وجه مدينتهم الحضاري الى سابق عهده وليثبتوا للعالم أجمع أن هذه المدينة الباسلة هي ينبوع الحضارة والأصالة في كل زمان.
لقد سبق وأن أعاد الباحث الموسيقي المرحوم الدكتور عادل البكري (1930- 2018) الملا عثمان الموصلي إلى الحياة بوصفه أحد رموز مدينة الموصل، بنشره ثلاث كتب عنه، كان اولهما عام 1966. وفي العام 1973 مرت على وفاة الملا عثمان 50 سنة، وبالتزامن مع هذه المناسبة عرض الدكتور عادل البكري على محافظ نينوى في ذلك الوقت علاء البكري ضرورة إقامة تمثال للملا عثمان في أحد شوارع المدينة بوصفه أحد رموز المدينة. فقام النحات الراحل فوزي اسماعيل (1935-1986) بإنجاز التمثال في العام ذاته عن أصل مصغر أبدعته أنامل الفنان الكبير الراحل راكان دبدوب (1942-2017)، وأقيم التمثال في المنطقة التي حملت اسمه وهي قبالة محطة قطار الموصل. وبالتزامن مع هذه الاحتفالات تم إقامة عدد من الندوات للتعريف بشخصية الملا عثمان احتضنتها عدد من مناطق غابات الموصل.
لقد تعرض ذلك التمثال الى التدمير خلال فترة احتلال الموصل (1914-2017). وقد أعادت بلدية الموصل الحياة من جديد الى التمثال وذلك بالتعاون مع نحاتي المدينة. وقد قامت الفرق الهندسية والفنية في بلدية الموصل بالتعاون مع فريق من النحاتين عملوا على إعادة نحت ونصب نسخة جديدة لتمثال الموصلي. وقد ذكر أستاذ النحت في كلية الفنون الجميلة بجامعة الموصل قيس ابراهيم أن ابنه النحات عمر قيس ابراهيم قد قام بعمل التمثال الجديد في ظروف صعبة وقياسية. وهناك جهود حثيثة لإعادة التماثيل الاخرى المُدمرة، وابرزها تمثال الشاعر أبو تمام وتمثال فتاة الربيع. وهذه المنحوتات تجسد الهوية الثقافية للمدينة، ومن الضروري تأمين التمويل الكافي لإعادتها مجدداً الى مركز المدينة.
وتجدر الملاحظة أن النحات المغترب عدنان الموصلي كان قد نحت تمثالا آخر للملا عثمان وذكر أن ذلك التمثال يحمل تفاصيل حقيقة لشخصية الملا بملامح حقيقية لوجهه مع طبيعة الملابس وتنسيق الجسم .
وبالنظر للمكانة الكبيرة التي يحتلها الملا عثمان الموصلي في مختلف الأوساط الرسمية والشعبية العراقية، فقد أوصت الأوساط الرسمية بتشييد تمثال للملا عثمان الموصلي في بغداد بعد إزالته من الموصل من قبل مسلحين، الى جانب إصدار طابع يحمل اسم وشكل يرمز للملا عثمان الموصلي، واُطلاق عليه لقب المعلم الثالث، حيث أن المعلم الأول هو أرسطو (384-322)ق.م، والمعلم الثاني هو الفارابي (874-950) م. وقال بيان لوزارة الثقافة ان (التوصيات بتشييد تمثال الملا عثمان الموصلي واصدار طابع يرمز لشخصيته جاء في اثناء عقد جلسة استنكارية ثقافية نظمتها دائرة الفنون الموسيقية تحت عنوان "الملا عثمان .. نغمة إيمان للوطن والإنسان" على قاعة الشهيد عثمان العبيدي، رداً على ما قام به مسلحون من ازالة الرموز والتماثيل الثقافية العراقية في الموصل.
واوضح البيان "قدمت في الندوة مجموعة من البحوث منها (أنغام خالدة في تنزيلات الملا عثمان الموصلي, أساليب التلاوة في منهاج الملا عثمان الموصلي, الأشعار الصوفية للملا عثمان الموصلي, والتأثير الإبداعي للملا عثمان الموصلي) والتي تعد خلاصة البحوث التي قدمها الباحثون في مجال الموسيقى والمقام العراقي وفي التاريخ الموسيقي القديم والتاريخ الفني المعاصر أيضا".
وصاحب التمثال الملا عثمان هو شخصية عراقية بامتياز من القرن التاسع عشر، وهو عبقري الزمان, وأسطورة الإنسان, رجل دين وأدب وثقافة، وصحفي من الطراز الأول ومنشد متمكن، وأديب وشاعر وقارئ من أنبل القراء, ومداح أينما ذهب كانت الصدارة له, وأينما حل كانت الريادة له. وهو ليس مجرد مغنٍ عابر من المغنين أو منشد من المنشدين، فهو يُعـد لدى عارفي فضله أحد أهم عباقرة الغناء العربي في المائة سنة الأخيرة، فهو أستاذ سيد درويش وعبده الحامولي وكامل ألخلعي وأبو خليل القباني، وواضع أشهر وأجمل الألحان العربية التي ما برحت شديدة الحضور حتى في القرن الحادي والعشرين.
ولد عثمان عبد الله الطحان في الموصل محلّة (باب العراق) سنة 1854 ابناً لسقّاء. وفي صباه أصابه مرض الجدري وأفقده البصر. تكفل برعايته الحاج محمود سليمان العمري وهيأ له من يعلمه العلوم العربية والموسيقى، ثم سافر إلى بغداد وصار المنشد الأول في الحضرة الكيلانية، ثم سافر إلى إسطنبول وعيَّنه السلطان عبد الحميد الثاني رئيساً للمحفل الديني في جامع (آيا صوفيا) ومعلماً للقراء الأتراك. ثم سافر إلى سورية عام 1906، ثم انتقل إلى مصر وأقام فيها بضعة أشهر. وعاد الملا عثمان وأسرته إلى الموصل، ثم استقر في بغداد إلى آخر أيام حياته حيث توفي هناك ودفن في جامع الخفاقين في بغداد واشترك اهلـها بتوديع الراحل العظيم بمأتم عز نظيره وأفاض الشعراء في رثائه وتعداد مواهبه ومآثره الخالدة.
لقد ترك الملا عثمان الموصلي ارثا فنيا ضخما بلغ قرابة الخمسين لحننا متميزا تغنت بها الأجيال ولا زالت، من تلك الألحان: زروني بالسنة مره، قدك المياس يا عمري، فوق النخل فوق، يا أم العيون السود، ربيتك صغيرون حسن، طالعة من بيت أبوها، لغة العرب أذكرينا، أسمر أبوشامة، يا مَنْ لعبتْ بهِ شمولٌ، أغنية ع الروزانا، يا خشوف على المجرية، يا ابن الحمولة، أشقر بشامة، يا عذولي لا تلمني، ليت امي لم تلدني، طولي يا ليلة، دزني وافهم مرامي، البنت الشلبيَّة، عبودي جاي امن النجف، ما أندل دلوني، النوم مُحرَّم على الأجفان، يا صياد السمك، آه يا حلو يا مسليني.
لقد ترك الملا عثمان بصماته الواضحة على الفن الموسيقي وانتشرت الحانه في العراق والشام ومصر وتركيا واليونان والهند وبلدان أخرى. كما ترك بصماته على الغناء في الموصل، وممن تتلمذ على يده في الموصل بلبل العراق سيد أحمد الموصلي وعبد الرزاق القبانجي والد المطرب الشهير محمد القبانجي. وكان الملا عثمان يعشق مدينته الموصل، يقول في إحدى أغنياته (فكل وأن طال المدى يتصرم)، ثم يعقب هذه الأغنية متشوقاً الى مدينته الموصل الحدباء: (يا أهل الحدباء يا أغاتي يا عيوني, هذا القوان اسمعوه بعد موتي وأنا الملا عثمان والسلام عليكم)، والقوان هي الاسطوانة التي كان يتم التسجيل الصوتي عليها.
من جميل شعر الملا عثمان:
قدك المياس يا عمري يا غصين البان كاليسرِ ... أنتَ أحلى الناس في نظري جل من سواك يا قمري
قدك المياس مد مالَ لحظك الفتان قتالا ... هل لواصل خلد لا لا لا لا فاقطع الآمال وانتظري
أنا وحبيبي في جنينة والورد مخيم علينا ... إن طلب مني وصالو يا رب تستر علينا
3472 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع