أ.د. ضياء نافع
شئ عن جامعة الصداقة في موسكو
كنّا في ذلك الحين طلبة في جامعة موسكو , عندما تم الاعلان في الاتحاد السوفيتي عام 1960 عن تأسيس جامعة جديدة في موسكو تسمى جامعة الصداقة بين الشعوب , وفهمنا, ان هذه الجامعة كانت خاصة فقط لطلبة بلدان آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية , وانها تهدف الى اعداد كوادرعلمية في مختلف الاختصاصات لتلك البلدان , التي حصلت على استقلالها في الفترة الاخيرة , البلدان التي كانت تسمى ( النامية ) عندئذ, و كلمة النامية هي مفردة مؤدّبة ومحسّنة لكلمة ( المتأخرة ) طبعا , وهي البلدان التي كانت تندرج ضمن ( العالم الثالث ) كما كانوا يسمّوه في ذلك الزمان ( ولا يزال هذا التعبير سائدا لحد الان مع الاسف) , وهو تعبيردقيق جدا يعني, ان هذه البلدان بعيدة جدا عن العالمين الاول والثاني ( ولم يخطر ببالنا آنذاك من هي بلدان العالم الاول ومن هي بلدان العالم الثاني!!) , وفهمنا ايضا ,ان الطلبة الذين سيدرسون فيها يجب ان يكونوا من انصار ومؤيدي تلك الاحزاب السياسية التي تقف ضد سياسة الغرب وتؤيد اقامة و توسيع العلاقات المختلفة مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي في بلدانهم بشكل او بآخر . وعلمنا ايضا , ان القبول في هذه الجامعة يتم عن طريق المنظمات الاجتماعية مثل النقابات والاتحادات ...الخ وليس عن طريق الاتفاقات الدولية العامة كما كان يجري تنظيم العلاقات الثقافية بين الدول , وباختصار , فان جامعة الصداقة بين الشعوب كانت منذ بدايتها ذات طبيعة سياسية واضحة المعالم , وهذا هو الخطأ التاريخي الجسيم , الذي ارتكبته الجهات السوفيتية عند تأسيسها لتلك الجامعة , اذ ان الجامعة , اي جامعة , هي مؤسسة اكاديمية تخضع لضوابط علمية محددة وصارمة فبل كل شئ وليس لضوابط سياسية ابدا , وتلك ضوابط علمية معترف بها في كل بلدان العالم ,ونحن ( شاهدنا !) في العراق , ما الذي فعلته السياسة عندما ( اقتحمت !) الجامعات العراقية وخرّبت الضوابط العلمية وتقاليدها الممتازة , التي كانت سائدة فيها منذ تأسيس كلياتها المتفرقة في النصف الاول من القرن العشرين . ولكن يجب القول الان , ان انطباعاتي عن الجامعة الروسية هذه اصبحت عتيقة جدا وترتبط بعصر انتهى فعلا , اذ ان جامعة الصداقة بين الشعوب في الوقت الحاضر قد تخلّصت بالتدريج من ذلك الخطأ الجسيم , ومن هذه المفاهيم السياسية الضيقة ( رغم ان هذه العملية المعقدة قد استغرقت فترة طويلة زمنيا) , وهكذا اصبحت هذه الجامعة في زماننا الان واحدة من الجامعات الروسية المرموقة جدا , رغم كل القيل والقال هنا وهناك , و ما اكثر تلك الاقاويل التي سمعناها بعد عودتنا الى العراق , وما أغرب الحكايات التي حاكتها ونشرتها القوى السياسية العراقية االمعادية للاتحاد السوفيتي سياسيا ضد هذه الجامعة المتفردة في بنيتها ونظامها , واروي هنا مثلا واحدا من تلك الثرثرات الغريبة التي سمعتها شخصيا مرة , ومن احد المسؤولين العراقيين والذي كان يسميها جامعة لومومبا , والذي تحدّث وبكل ثقة قائلا , ان هذه الجامعة تبعث طائرة سوفيتية خاصة الى افريقيا , ويقف الطيار في باب تلك الطائرة بالمطار الافريقي ويصيح – موسكو موسكو ( على طريقة سيارات النفرات في علاوي الحلة آنذاك ) , وهكذا يهرع الشباب الافريقي الى الطائرة , وعندما يتم اشغال كل مقاعدها , واستخدم هذا المسؤول كلمة ( تقبط ) , تقلع الطائرة من المطار الافريقي وتعود الى موسكو , حيث تلتحق هذه المجموعة بجامعة لومومبا , وتمنح هذه الجامعة بعد عدة سنوات شهادات عليا للجميع , حسب ما تقتضيه (القنطرات !!) .
لم اكن قريبا من اوساط هذه الجامعة في الستينيات, ولم اتعامل معها في تلك الفترة , ولكني كنت أعرف معلومة شبه علنية تقريبا, مثل كل الطلبة العراقيين في موسكو بشكل عام , و المعلومة هذه تقول , ان الحزب الشيوعي العراقي كان مسؤولا عن قبول الطلبة العراقيين في تلك الجامعة , وقد سمعت مرة من أحد الزملاء الذين أثق جدا بما يقول , ان الحزب الشيوعي العراقي أرسل من العراق المرحوم د. عبد الزهرة العيفاري ليكون طالبا في تلك الجامعة باسم الحزب الشيوعي العراقي, وقد وصل فعلا الى موسكو والتحق بهذه الجامعة , ثم اصبح ايضا مسؤولا عن عملية القبول في تلك الجامعة بالنسبة للعراقيين . والمرحوم العيفاري درس في جامعة الصداقة وتخرج فيها , ثم عاد الى العراق , ثم رجع لاكمال الدراسة العليا في تلك الجامعة , وبعد حصوله على درجة الكانديدات ( دكتوراه فلسفة ) تم تعينه في نفس كليّته , وهناك استطاع ان يحصل على شهادة دكتوراه علوم ( دوكتور ناووك ) وهي اعلى شهادة علمية في روسيا, واستمر بالتدريس هناك وحاز على درجة بروفيسور . وتوفي في موسكو قبل فترة قصيرة وتم دفنه هناك , وهو واحد من اوائل الطلبة العراقيين , الذين لم يرجعوا الى العراق بعد انهاء دراستهم , والذين قرروا البقاء في الاتحاد السوفيتي والاستقرار فيه والعمل في مؤسساته وضمن ضوابطه الادارية السائدة , ويستحق العيفاري - بلا شك - ان نتوقف أكثر عند مسيرته الطويلة في موسكو , ونروي قصته المتشعبة .
جامعة الصداقة الان تسمى رسميا – الجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب , ويدرس فيها مئات الطلبة الروس جنبا لجنب مع الطلبة الاجانب , وتعدّ واحدة من ابرز الجامعات الروسية المعاصرة ...
1365 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع