د.صلاح الصالحي
تل العليج في سامراء حرق جثمان الامبراطور جوليان (٣٦٣) ميلادي
شكل 1: خريطة تمثل سامراء في منتصف القرن التاسع عشر، ويظهر موقع تل العليج شمال مدينة سامراء
تناولت مذكرات النقيب البحري البريطاني جيمس فيليكس جونز (James Felix Jones) (1813-1878) ميلادي وصف رحلته على متن قارب بخاري إلى شمال بغداد وذلك في شهر نيسان 1846، وكتب ملاحظات مختلفة ذات أهمية في تلك الفترة والتي شاهدها في الطريق وكان هدف الرحلة تحديد مسار قناة النهروان القديمة التي انشأت فيما بعد عام 1848، واستمرت رحلته إلى الحدود بين الدولة العثمانية التي كانت تحكم العراق آنذاك وبلاد فارس عبر جزء من شمال العراق، كما تتبع مسيرة القائد والمؤرخ زينفون (Xenophon)عام (401) ق.م خلال انسحابه على طول المسار القديم لنهر دجلة وعرفت باسم (حملة العشرة الاف)، كما حدد موقع مدينة أوبس القديمة (Opis) بالأكدية (Upi) شمال بغداد على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وتحدث عن بغداد ووضع لها خريطة كذلك خرائط لنينوى وسامراء ...الخ، وقد جمعت مذكراته ونشرت من قبل (Thomas R. Hughes) في بومبي في الهند، وترجمت مذكراته إلى اللغة العربية من قبل الأستاذ عبد الهادي فنجان الساعدي باسم (بغداد في منتصف القرن التاسع عشر).
ان تاريخ سامراء قديم جدا فقد عثر تحت الطبقة الإسلامية على مخلفات من الفخار الملون بزخارف هندسية ورسوم اسماك أو عقارب أو طيور أو غزلان وأطلق عليها فخار دور سامراء وقدر تاريخها (4500) ق.م، كما يعتقد ان اسم سامراء مشتق من مستوطن قديم عرف بالنصوص البابلية والآشورية باسم سموريم (Summurim) أو اسم سرماتا (Su-ur-ma-ta).
كما ذكرها المؤرخ الروماني أميانوس مرسيلينوس باسم (سوميرة) وكان هذا المؤرخ قد رافق الحملة التي قادها الامبراطور جوليان (فلافيوس كلوديوس جوليانوس أغسطس) (Flavius Claudius Julianus Augustus) في آذار عام (363) ميلادي ضد الدولة الساسانية التي كانت تحكم العراق آنذاك، وكانت الحملة ناجحة في البداية، وحصلت على نصر خارج العاصمة الساسانية طيسفون (المدائن) (حاليا سلمان باك نسبة إلى الصحابي الجليل سلمان الفارسي المدفون فيها)، ومع ذلك لم يحاول جوليان المرتد (أطلق عليه اسم المرتد بعد وفاته) استمرار حصار على المدينة، وقرر الهجوم على قلب بلاد فارس، لكنه سرعان ما واجه مشاكل في الإمداد لجنوده الذين ارهقهم نقص الطعام وحرارة الصيف، فاضطر إلى التراجع شمالًا وقد تعرضت قواته باستمرار للهجمات من قبل القوات الفارسية.
شكل 2: يظهر في وجه العملة الامبراطور جوليان الملتحي واسمه باللغة اللاتينية، اما ظهر العملة فقد صور جندي روماني مسلح يمسك اسير باليد الأخرى وهي إشارة للقوة العسكرية للإمبراطورية الرومانية
كان الامبراطور جوليان (المرتد) ذا طبيعة معقدة وآخر حاكم غير مسيحي في الإمبراطورية الرومانية حاول إحياء الدين والتقاليد الوثنية على حساب الديانة المسيحية ومنها إقامة معبد للإله جوبيتر في القدس، وقد سعى للحصول على النصر حتى يرتفع شأنه في عيون الجيش الروماني وأيضا من أجل تحقيق رغبته في القتال والمجد، وهكذا غادر الامبراطور مدينة انتوشيا (انطاكيا) يرافقه (65000 إلى 83000) مقاتل واسطول من السفن بلغ (1000) سفينة، واتجه شمالا نحو الفرات وخلال مسيرته التقى بحكام الممالك الصغيرة لتقديم الطاعة والمساعدة بما فيهم ملك أرمينيا، وحاول شاهبور الثاني (Shapur) الاتفاق مع جوليان وابعاد شبح الحرب ولكن دون جدوى لذا اتبع الساسانيين خطة (الأرض المحروقة) فكسروا السدود وتحولت الأرض إلى مستنقعات ارهقت الجنود والفرسان الرومان، ومع هذا في منتصف شهر مايس وصل الجيش الروماني إلى مدينة المدائن العاصفة الفارسية المحصنة وحقق الرومان بعض الانتصارات عند أبواب المدينة ومع ذلك لم يتم الاستيلاء عليها.
كان الجيش الساساني ما زال قويا وطليقا يقوم بشن غارات متتالية على الجنود الرومان، وقد ارتكب جوليان خطا استراتيجي عسكري فقد ترك حصار المدائن واندفع شرقا باتجاه بلاد فارس كما اسلفنا كما ارتكب خطا آخر بتدمير الاسطول مما أفقد الجيش الروماني وسيلة للتراجع، وبعد عبور الرومان نهر دجلة احرق الفرس الأراضي الزراعية، واغرقت الأرض بالمياه ولهذا قرر مجلس الحرب الروماني في 16 حزيران (363) ميلادي ضرورة الانسحاب والعودة للحدود الرومانية خاصة مع زيادة معانات القوات الرومانية من الهجمات الفارسية المستمرة، وفي إحدى الاشتباكات في 26 حزيران (363) ميلادي وبعد معركة سامراء أصيب الامبراطور بضربة رمح اخترقت كبده والامعاء ولم يكن يرتدي في وقتها الدروع، فكان الجرح مميت فسكب النبيذ على الجرح وتم خياطة الأمعاء المتضررة ولكن حدث نزيف أدى إلى وفاة الامبراطور جوليان وهو يقول كلماته الأخيرة: (لقد انتصرت يا جليلي) (يقصد جليلي نسبة إلى مدينة الجليل حيث ولد السيد المسيح بمعنى انتصر الدين المسيحي على الدين الوثني).
شكل 3: نقش بالنحت البارز في موقع طق بستان في إيران (Taq-e Bostan) يظهر الإله ميثرا (Mithra) في (اليسار) والإله اهورامزدا (Ahura Mazda) (اليمين) والملك شاهبور الثاني (الوسط) يقفان على جثة الامبراطور جوليان المهزوم، ويقدم الإله اهورامزدا اكليل النصر للملك الساساني
بعد وفاة جوليان بقيت جحافل الرومان محاصرة في سامراء في مخيم نصب بواد منعزل وبقيت القوات الساسانية تغير على معسكر الرومان، وفي اليوم 4 من شهر تموز (363) ميلادي انتقل الجيش الروماني إلى موقع الدور(حاليا مدينة الدور) وكان الجنود الرومان يعانون من الجوع وحرارة الصيف، فأقام الجيش الروماني عند تل العليج (El Alij)، فلابد من حرق جثث الموتى بما فيها جثة الامبراطور في غضون (36) ساعة لشدة حرارة الجو، وفي حالة تحنيط جثة الامبراطور فيحتاج إلى وقت أطول، وحتى عملية نقل جثمان جوليان عبر دجلة ومنها إلى الفرات وصولا إلى طرسوس (Tarsus) يحتاج إلى فترة زمنية قرابة شهر والمعروف شهري تموز وآب هما اكثر اشهر الصيف حرارة في العراق، هذا إضافة إلى حصار القوات الرومانية في سامراء وهي تفتقد إلى السفن لتنقلهم عبر دجلة، ومن جهة أخرى العدو الساساني كان نشطا في شن هجمات متتالية عليهم .
لذا تم اتخاذ القرار من قبل الامبراطور جوفيان (Flavius Claudius Iovianus) (363-364) ميلادي الذي انتخب بعد وفاة جوليان وكان مرافقا للحملة على العراق بحرق جثة الامبراطور في تل العليج بسامراء، فتم تأدية الطقوس التي شارك فيها الجيش الروماني، كما عقدت معاهدة مع شاهبور الثاني واعتبرت المعاهدة مهينة سمحت للقوات الرومانية بالانسحاب حاملة معها رماد جوليان إلى مدينة طرطوس في سوريا حيث دفن هناك حسب وصيته قبل وفاته، كما ورد عند المؤرخ جيبون (Gibbon) في الجزء الثالث صفحة 237، وهكذا كانت الحملة الرومانية فاشلة راح ضحيتها الامبراطور جوليان (المرتد) كما خسر الجيش الروماني الشيء الكثير من سمعته العسكرية.
سارت السنين تجري مع مياه دجلة لتصبح سامراء عاصمة للدولة العباسية في عهد المعتصم بالله ومن بعدة الخليفة الواثق والخليفة المتوكل والخليفة المنتصر والخليفة المستعين والخليفة المعتز والخليفة المقتدي ولمدة (60) عاما، وترك خلفاء بني عباس اثارا شاخصة لازالت معالمها قائمة تدل على حضارة إسلامية راقية وهي جزء من حضارة العراق العظيم.
732 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع