كتلة تاريخية قبل فوات الأوان

                                     

                         د.علي محمد فخرو

لم يكن أحد من السَّذاجة بمكان ليعتقد بأن مسار الثورات والحراكات العربية سيكون معبَّداَ أو سهلاً، وقد أكَّدت الكثير من الكتابات والمناقشات الرَّصينة بأن الحراكات السياسية التاريخية الكبرى تحتاج لعقود من الزمن حتى تنضج وتستقر في توازن معقول ، لكن تلك الحتمية التي أثبت صحتها مسار التاريخ البشري ليست حتمية اعتباطية من دون شروط، كانت مسارات الثورات في التاريخ تقتضي تواجد شروطها الخاصة بها، تبعاً للظروف والإمكانات والعوائق.

اعتماداً على ماسبق دعنا ننظر إلى ثورات وحراكات الربيع العربي ، كما هي وكما ينبغي لها أن تكون.
خلال أكثر من عامين ، منذ إطلالة الألق الربيعي التونسي وما تبعه من حراك ثوري عارم مبهر في مصر الكنانة، ومن ثمَّ انتشاره في الوطن الكبير ، دخل مسار الربيع العربي الواعد في الحال في ثلاث إشكاليات، الإشكالية الأولى في وجود قوى خارجية متعدٍّدة الأطراف ومتعاونة إلى أبعد الحدود فيما بينها تضادد الثورات أو تحاول تطويعها لتكون ثورات رخوة متردًّدة وبالتالي قابلة للانحراف والغواية، الإشكالية الثانية هي في الدخول المفاجئ للمال البترولي العربي في محاولة للسيطرة على مسار ما بعد الثورات من خلال دعم هائل لتوجهات ولجهات لا تمتُ بأي صلة لمبادئ وأهداف ومنهجية الثورات، إن نظرة على ماجرى وما يجري في مجتمعات مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية كأمثلة تظهر التأثير السَّلبي لهذا المال في خلط أوراق مسارات ما بعد الثورات وإدخالها في الصًّراعات الدينية والطائفية وفي مماحكات الهوامش الفقهية والفكرية.
الإشكالة الثالثة، وهي أهم وأخطر الإشكاليات، تتمثًل في مجموعة من نقاط الضعف المجتمعي، بدءاً باستفادة سياسية انتهازية لنتائج ونجاحات الثورات من قبل قوى لم تقم في الأصل بالثورات، وإنتهاء بفشل شباب الثورات في تكوين مشروع سياسي وتيار نضالي مشترك لتيسيروإنجاح المرحلة الانتقالية للثورات والحراكات إلى حين وصولها إلى برً الأمان الديموقراطي، لقد ارتكبت أخطاء وخطايا لا حصر لها ولا عد ، وهي معروفة ولاتحتاج إلى إعادة تذكير بها.
نحن أمام إشكاليات ثلاث كبرى، ساحتها الأرض العربية كلٍها ، ومصدرها قوى كثيرة متعدًّدة عبر العالم كلًه، هذا بينما مواجهتها تتمً على مستوى وطني قطري محلٍّي ، وفي كثير من الأحيان في مستوى فئوي محدود مضحك.
من هنا تأتي الأهمية القصوى لطرح شعار تواجد الكتلة التاريخية العربية كرد على جبروت تلك الإشكاليات الثلاث، فالإشكاليات كبيرة والردًّ يجب أن يكون كبيراً أيضاً،
لسنا هنا بصدد اختراع العجلة من جديد، ففكرة الكتلة التاريخية العربية، بأشكال عديدة من المسمُّيات، طرحت من قبل العديد من المفكٍّرين والنًّاشطين السياسيين والمؤسسات القومية المؤمنة بالنضال العربي الواحد وبالمصير العربي المشترك والرًّافضة لعبثيًّة تجزئة ذلك النضال وتقسيم ذلك المصير.
ومع خوفي الشديد وحذري من ذكر الأسماء والجهات ، تجنُبناً لعتاب هذا أو ذاك أو تجنُباً لرفض هذه أو تلك، إلاً أنني اعتقد أن أفضل من طرح حيثيات ومنهجيات هذا الموضوع هما مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي، الأول طرح الموضوع على مستوى الفكر من خلال كتابات كثيرة في مجلة «المستقبل العربي» وفي العديد من الكتب الفكرية السياسية التي قام بنشرها ، وفي مقدٍّمتها كتب المفكر الراحل محمد عابد الجابري كمثل.
أما الثاني فمن خلال مناقشات عدة في مؤتمراته السنوية لمشاريع تتعلق بتكوين تلك الكتلة، تحت مسميات من أمثال «الجامعة الشعبية العربية» أو «البرلمان العربي» أو «جامعة الشعوب العربي» إلخ...، وهي مشاريع قدَّمها ودافع عنها إخوة زملاء في المؤتمر القومي ومن أبرزهم علاء الدين الأعرجي وعصام نعمان ومعن بشور على سبيل المثال، ويستطيع القارئ العودة إلى الكتب الدورية عن المؤتمر القومي ، التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية ، ليجد تفاصيل المقترحات وردود أفعال الكثيرين تجاها.
لكنني أريد أن أشير إلى دراسة متمًّيزة تفصيلية عن الموضوع تحت عنوان «نحو خطة عمل لإنشاء جامعة شعبية عربية»، نشرت مؤخراً في مجلة «المستقبل العربي»، العدد 410 ، بقلم الأخ علاء الدين الأعرجي، إن التفاصيل المقترحة التي جاءت في هذه الدراسة تجيب على الكثير من الأسئلة المطروحة.
حسناً، إذن هناك حاجة ملحًّة لطرح هذا الموضوع كجزء من محاولات تيسير وتجويد مسار المرحلة الانتقالية لثورات وحراكات الربيع العربي، والسؤال : من سيقوم بهذه المهمة؟
في اعتقادي أن المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومؤتمر الأحزاب العربية يجب أن يدعو إلى اجتماع تأسيسي او أولي يحضره مندوبون عن تجمعات شباب الثورات والحراكات وعن بعض الاتحادات العربية وعن بعض مؤسسات المجتمع المدني بأطيافها المختلفة، إضافة لبعض المستقلين العاملين في الشأن العام، وذلك لدراسة الموضوع، اجتماع المؤتمر القومي في القاهرة في الشهر القادم يمكن أن يبدأ بحرف ألف في أبجدية المسار الطويل الطويل.
الشيطان سيكون في التفاصيل، لكن قيام كتلة تاريخية عربية أصبح ضرورة قصوى قبل أن تدخل الأمة العربية في حالة اللاتوازن السياسي للمرة الرابعة، عبر قرنين من الزمن، وتضيع فرصة تاريخية تحتاج إلى تعامل تاريخي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1504 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع