قاسم محمد داود
خمسون عاماً على رحيل جمال عبد الناصر
لا نتجاوز الحقيقة إذا اعتبرنا أنه بعد انقضاء 50 عاماً على رحيل الزعيم العربي جمال عبد الناصر، فأنه كل ما يتعلق به – سياسته، علاقاته المصرية والعربية والعالمية، مواقفه، وقراراته.. حتى شخصيته – لا يزال يثير الجدال، وفي كثير من الأحيان ما يكون جدالاً حاداً. ذلك أن أنصار عبد الناصر يؤيدونه بكل مشاعرهم.. وخصومه ينتقدونه بالدرجة نفسها من الحدة. ومن هم وسط بين هذا وذاك حالات قليلة. نصف قرن على رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، الذي نالت شخصيته حب الجماهير المصرية والعربية وبقيت "كارزميته" حية رغم مرور كل هذه السنوات، وتزايدت مع ظهوره على ساحة السياسة في مصر، ومع مرور الأحداث السياسية في جميع الفترات العصيبة التي شهدتها مصر، ورفضت الرحيل برحيله. ورغم رحيل عبد الناصر، وعدم معاصرة الجيل الحالي له، إلا إنه يبدو وكأنه غادرنا بالأمس، فصورته حاضرة في العقل المصري والعربي، ويبدوا فيها رمزاً عصياً على الرحيل والغياب، بشخصيته المتفردة، فقد عاش بمقاييس الزمن حياة قصيرة، إلا أن السنوات الـ 18 من حكمه مثلت فصلاً استثنائيا في المشهد المصري والتاريخ العربي كله. ويعتبر ناصر شخصية بارزة في جميع أنحاء الوطن العربي، ورمزاً للوحدة العربية والكرامة، وشخصية هامة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث وبطل العدالة الاجتماعية في مصر، حيث أضفى شعوراً بالقيمة الشخصية والكرامة الوطنية التي كان المصريون والعرب لا يعرفونها منذ 400 عام. لقد استطاع جمال عبد الناصر أن يكون حجر زاوية مهم في السياسة العربية والعالمية، وكان صاحب مشروع واضح المعالم في مصر وفي علاقاتها بالوطن العربي وأفريقيا وبقية دول العالم. المشروع الناصري أحد النماذج المهمة لردود الفعل حيال السيطرة الأوربية على الشرق الأوسط الذي تتمثل فيه العسكرية الوطنية، فقد أصبح عبد الناصر خلال مدة بضع سنوات من العام 56 – 1970 الرجل القوي في الوطن العربي وفي الشرق الأوسط متمتعاً بشعبية كبيرة جداً في المنطقة كلها وألهمت التحولات السياسية والاقتصادية في مصر الكثير من الدول والقوى السياسية الأخرى. تميزت التجربة الناصرية بالإلغاء السياسي لملاكي الأراضي الأقطاعين وللبرجوازية الكبرى من رجال الأعمال المرتبطة بالشركات الغربية الكبرى وأنشاء الحزب الواحد وتأميم المصالح الغربية الكبرى ومن ثم أيضاً المؤسسات المحلية الكبرى وكان لهذا النموذج تأثيره القوي وسرعة انتشاره وبخاصة في سوريا والعراق وليبيا والسودان. وقد نادى النموذج الناصري بمعاداة الإمبريالية وبالكفاح ضد الكيان الصهيوني لضمان حق تقرير المصير والعودة للفلسطينيين وبالقومية العربية التي يجب أن تفضي إلى إزالة الحواجز المصطنعة التي أقامها المستعمرون الفرنسيون والإنكليز وقسموا بموجبها الوطن العربي وفقاً لمصالحهم أثر انهيار السلطة العثمانية في عام 1919. أقام عبد الناصر نظاماً وطنياً وجعل التعليم مجانياً وحقق تنمية على جميع الصعد ونهضة صناعية كبيرة وأمم قناة السويس وواجه العدوان الثلاثي الأنكلو- فرنسي "الأسرائيلي" بشجاعة كبيرة وبنى السد العالي وعمل على مواجهة إسرائيل على الرغم من هزيمة 5 حزيران 1967 في حرب استنزاف طويلة الأمد ولم يتنازل ولم يساوم أو يستسلم. لقد اعتبر عبد الناصر ان ما يتحقق من منجزات على الصعيد الوطني لابد أن يأخذ بعده العروبي من المحيط إلى الخليج كما كان يردد حيث انه يعتبر الفكرة الوطنية والفكرة القومية وجهان لعملة واحدة فلا يمكن للمرء أن يكون وطنياً دون أن يكون قومياً بمعنى التواؤم الوجداني المعبر عنه في هوية مشتركة وموحدة بما ينسجم مع فكرة العروبة الثقافية باعتبارها رابطة حضارية اجتماعية إنسانية مثل الروابط الأخرى ذات الانتماءات القومية او الدينية أو غيرها. ولا يمكن للمرء أيضاً أن يكون وطنياً وعروبياً دون أن يكون إنسانياً، بمعنى الإيمان بحق الشعوب في تقرير مصيرها صغيرها وكبيرها ومثلما لنا الحق في تقرير المصير فإن من يناضل من أجل حقه في تقرير المصير والتحرر والاستقلال فإنه يكون رفيق درب؛ لأن قضية الحرية لا تتجزأ. هكذا كانت نظرة عبد الناصر لفكرة العروبة والقومية العربية. لم ينجح عبد الناصر أبداً بأبعاد نفسه عن القضية الفلسطينية والتركيز على المشاكل الداخلية في مصر المتعلقة بالإصلاح الزراعي الذي أراد تنفيذه وغير ذلك من العقبات والمشاكل الداخلية التي واجهته. وبإمكان المرء القول إن المشكلة الفلسطينية فرضت نفسها عليه. وكان التعامل مع هذه القضية جزءاً من مهامه بحكم موقعه كقائد للعرب. وبدءاً من صفقة الأسلحة مع الجمهورية التشيكية، وتأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وعواقبه، فقد أصبح جمال عبد الناصر الزعيم بلا منازع للعرب. لكن قبل ظهور عبد الناصر على الساحة العربية، ظل القادة العرب منذ العشرينيات يركزون على القضية الفلسطينية. وفي أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، قبل أعداء عبد الناصر زعامته واعتبروه مسؤولاً عن المواجهة مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن كل الحكومات العربية قد تنافست على روح القضية الفلسطينية، فأن القبول به قائداً للجميع كان اعترافاً غير مباشر بموقفه مع الشعب العربي وبقيادة مصر للوطن العربي. ظلت مصر بزعامة عبد الناصر تلعب دوراً مهماً في قيادة الأمة العربية تحت فكرة القومية العربية رغم فشل مشروع الوحدة المصرية السورية وإعلان الانفصال عام 1961. غير أن هزيمة حزيران 1967 في مواجهة الكيان الصهيوني ثم وفاة عبد الناصر المبكرة في 28 أيلول 1970 أدت بشكل كبير إلى تراجع عقيدة القومية العربية ذات الطابع العلماني وتمت تعبئة الفراغ الحاصل دون عناء، فإن الإسلام كان أمراً حياً وجزءاً من حياة الناس يعيش معهم في حركاتهم وسكونهم، وهو كأي دين آخر يمثل الملجأ لكل الساخطين. لذلك بدأ الصعود السريع للألوان من سياسة المحافظة والأصولية الإسلامية الواردة من بعض الدول العربية بمساعدة الحرب الباردة بين الغرب والكتلة السوفيتية وإلى التوسع المفاجئ للثروة النفطية لدول شبه الجزيرة العربية المصدرة للنفط واستُبدلت القومية العربية بحركة الصحوة الإسلامية. وبدأ تسويق الصحوة الإسلامية التي جهدت دول عربية في تسويقها ليس في الوطن العربي وحسب بل أيضاً في دول إسلامية في آسيا وأفريقيا وكل مكان يضم مجموعات إسلامية. لا شك أن نظرة إلى واقع الوطن العربي، الذي تسوده النزاعات والانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية وكل أشكال الخلاف والتمزق، تعطينا فكرة عما وصل اليه حال العرب الذين ناضل عبد الناصر من أجل تخليصهم من هذه النزعات وحارب ليجمع الأمة على العوامل المشتركة بينها وتهميش المختلف عليه. في الختام أقول إن القدر اختطف عبد الناصر وهو في أوج عطائه، ونضج تجربته، ومحاولته مراجعة إخفاقاته وثغرات النظام الذي أسسه، لكنه كان ابن عصره، زعيماَ تاريخياً حقيقياً ووطنياً وعروبياً بامتياز، أخطأ أم أصاب إلا أنه كان صميمياً بكل ما للكلمة من دلالة ومعنى.
2498 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع