سيف شمس
سعد سعيد "السيد العظيم"
الروائي المراوغ سعد سعيد يراوغنا هذه المرة بروايته "السيد العظيم" واضعاً بصمة من شخصيته وهي التلاعب بالقارء فيفاجئَه في كل مرة بحدث غير متوقع مستنبطاً تلك المفاجآت من واقعنا الذي نعيش فيه وبه يستمد شخوص روايته التي هي مزيج بين الواقع والخيال. لم أقصد بالمرواغ إلا كلاعب الكرة المحترف الذي يسدد باحتراف في كل مرة كرته في شباك هدفه المقصود.
لم يتخذ سعيد الخيال كأقصوصة بل كرمزية حادة وضعها بأماكن خفية كسحر يسعى ساحره إلى اخفائه، قاصداً من ذلك توجيه روايته لنخبة من القُرّاء بدلاً من العامة.
"السيد العظيم" هي ملحمة لطفل قد ولد في قرية نائية، طفل هامشي كاد أن يُنسى لولا لعبة القدر، الذي لا يريد الكاتب الاعتراف به، والذي جعل من هذا الطفل قائداً ورئيس دولة يبطش بشعبه. تلك الصدف المتتالية التي اوصلته إلى عرش السلطة والتي جعلت منه أفّاكاً يحتل حتى فروج العذارى. وقد زرع المؤلف التفاهة بشخص ربما يراه الآخرون عظيماً، معترفاً صراحة في الصفحة 10 حيث يقول: " كم يحتاج إنسان تافه من وقت ليدّعي العظمة .. ثُم ليصدق بأنّه فعلاً عَظيم؟! يحتاج إلى الكثير من الوقت طبعاً" لكن حسبما يقول المؤلف أن السيد العظيم رغم عقود عمره التسع إلا أنه بقي لا يستوعب بأنه ذلك.
(مهيرش) هو اسم السيد العظيم عند ولادته وعند نشأته الأولى في قرية مجهولة تدعى (هوشالة) من عائلة فلاحة لم تزر قط يوماً العاصمة، والذي سيغير اسمه فيما بعد إلى (مجدي خالد). وكان من المتوجب أن يكون هذا الطفل وريث أبيه في الحقل ليرعى ماشيته وزرعة ولكان قد امتطى أتانه بدلاً من كل تلك العذارى، لكن الصدفة قد رفضت هذا فأرسلت إليه أخته الكبرى نعمة لترعها وتعتني به بعد إن كان يرضع من ضرع أمه الذي رفض المؤلف ولسبب ما تسميته بالثدي، فقد أشاء كما أظن أن يخبرنا منذ البداية بأن هذا الطفل هو مسخ على هيئة إنسان.
في يوم ما قد وقع مهيرش في الساقية عندما كانت أخته قد غفلت عنه وهو لا يزال طفلاً ولا يزال القارئ يحبو بدهاليز تلك الرواية التي أشبه بالملحمة، ففي آخر أنفاسه ولحظاته قد أنقذته فيعلن الكاتب معترضاً على تلك الصدفة التي انقذت ذلك الطفل وكأنه قد خرج من كتابته ليصبح الكاتب قارئاً لما يكتب، وكأنه لم يخلق تلك الصدفة بأنامله فيقول في الصفحة 15: "لم تعرف أنها لو لم تنقذه، لوفرت بذلك حياة آلاف البشر..."
مهيرش يتفوق بالدراسة ليس لكونه ذكياً بل كان يعيد ما يقرأه عشرات المرات، ذلك العناد المتغطرس هو من أوصله ليكون رئيس دولة ما تحمل اسماً مستعاراً. ذلك الطفل ينهي دراسته الثانوية وتشاء الصدفة مرة أخرى ليلتحق بالكلية العسكرية بعد أن سعى والده لتكليم أحد المسؤولين الكبار ليقبل ابنه هذا في تلك الكلية التي كانت حكراً لأولاد الخاصة فتبدأ رحلته مع أولى خطواته باتجاه تلك الكلية العسكرية التي ستصنع منه ذلك الطاغية، في أولى خطواته قرر الاختفاء عن أهله وعدم العودة واللقاء بهم مرة أخرى، فأنسلخ في عالم التيه الأبدي، رافضاً حتى حصوله على اجازاته الشهرية والفصلية للعودة إلى بيته فبقي يسكن كليته.
الصدفة أيضاً كان تبتسم له عندما دخلت بلاده بلهوبور مع بيشبلشت حرباً ضروساً ليجد نفسه ذلك القائد المغوار الذي لا يخشى اقحام جنوده بتهور في ساحات المعركة. ليست قوة منه بل كل ما كان يستخدمه من سلاح هو جنوده الذين لم يكن ينظر إليهم إلا كأنهم خراطيش مستهلكة.
الصدفة مرة أخرى تضحك له فتهب له زوجة من عائلة لها مكانة في المجتمع فيتسلق من خلالها فيدخل عالم بعيد عن ذلك الذي نشأ بين الماشية والزرع، عالم غريب حيث زار بلدان وسفارات والتقى بسفاء مختلفين، ومن خلالهم قد أوصلوه أن يكون ملكاً على رقعة الشطرنج كما يراه الشعب لكنه في الحقيقة ما كان سوى بيدقاً بيد أحد السفراء، أصبح ماريونت تحركه عصى صاحبه بخيوط غير مرئية.
السيد العظيم له مزاج سيء حتى في الاستيقاظ صباحاً، فطاقم خدمته كانوا ينتظروه حتى يستيقظ بنفسه حتى ولو توقفت شؤون الدولة بأسرها، فهمه الأكل والنساء فلا يشبع منهما حتى أصبح جسمه كتلة مترهلة من اللحم، وقد دفعه ضعفه الجنسي وصغر قضيبه الذكري للانتقام من النساء فكل يوم كان يضاجع واحدة.
طفى طغيانه حتى أصبح زبداً صعب الاقتراب منه، لكنه في النهاية سقط على وجهه وقد حماه كرشه الكبير من الارتطام بقوة على الأرض، وحين اخترقت رصاصة صدغه دار فلم حياته في رأسه، فترادفت وجوه إخوته وأخواته ولم يغب عنه وجه أخته الكبرى نعمة التي ربته ومنحته كل حنانه وبالطبع لم يغب وجها والدَيه.
وضع الراوي وهو ترحشيش الكثير من الرموز حتى يمكننا عد هذه الرواية تنتمي إلى المدرسة الرمزية أكثر منها للواقعية حتى ولو حملت في طياتها الكثير من الواقعية. لم يذكر لنا الراوي في أي بلد قد دارت أحداث روايته لكنه وضع رمزين يدلاننا على أن العراق هو ساحة الرواية، ففي الصفحة 32 يخبرنا بأن والد مهيرش كان "يعمل فرّاشاً عند مدير الناحية" فلو أخذنا اسم الفراش وبحثنا عن الدول التي يمكن أن تطلق مثل هذا الاسم لاقتربنا من العراق إضافة إلى التقسيم الإداري وذكره لكلمة ناحية، فكلمتان الفراش والناحية تصحباننا إلى العراق، إضافة إلى إشارة أخرى في صفحة 67: "... كادوا يطردون مطاوع بسبب إلحاحه ولكنّه حين بكى حرّك الوتر الوحيد الذي يجعل هذا الشعب المسكين يتجاوز كلّ القوانين.." إشارته للشعب المسكين هي كلمة متداولة يتناقلها أهل العراق لوصف حالهم. وهنا إشارة أخرى هو ما يقصده هو الشعب العراقي.
هنالك رموز أخرى كتكليمه للحيوانات وتعلم من تلك الحيوانات الشيء الكثير، لا يسع المقال التكلم عن هذا الموضوع الكبير، لكونه سيدخل في أمور الدين. تحتاج هذه الرواية إلى المزيد من الدراسة والتحليل ولا تكفي هذه الكلمات إلى وصفها أو فهمها.
سعد سعيد روائي كبير استطاع توظيف خياله وثقافته بأسلوب لغوي رائع وقريب من القارئ حيث لا نجد الملل ونحن نحاول فك رموزها وقراءتها كما ينبغي أن تكون.
1048 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع