
محمد علي محيي الدين
تمّ بعون الله تعالى طبع مجموعتي القصصية الثالثة...... وتحمل عنوان . ( الرقصة الأخيرة )
الناشر / دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع ...بغداد / شارع المتنبي

لوحة الغلاف للفنانة التشكيلية المبدعة نجاة ريحان سلمان / من محافظة ميسان
بين يديّ المجموعة القصصية للقاصة سنية عبد عون رشو، التي اختارت لها عنوانًا لافتًا هو الرقصة الأخيرة، وهو عنوان إحدى قصص المجموعة. هذا العنوان استحضر إلى ذاكرتي رواية سابقة للكاتبة التشيكية ماركيتا بيلاتوفا بنفس العنوان، وقد تُرجمت إلى العربية بواسطة شيماء شعلان وراجعها الدكتور خالد البلتاجي وصدرت عن دار ابن رشد. ولعل اختيار القاصة لهذا العنوان للمجموعة يعكس اهتمامها الخاص بالقصة، ويفضّل أن تكون إما في مقدمة المجموعة أو في نهايتها لتبرز أهميتها ودلالتها المركزية.
تنوعت القصص بين شد وجذب، فكل قصة فيها تقدم جديدًا في الرؤى والأفكار والحبكة وطريقة العرض، مع غوص متواصل في أعماق النفس البشرية. ويبرز بشكل واضح معاناة المرأة وهواجسها وما يعتمل في داخلها من أفكار ومخاوف. ننساق وراء شخوص القصص فردًا فردًا، نستمع إلى ذكرياتهم وأوجاعهم ورغباتهم وأحلامهم، وقد نبكي لوداع أحدهم ونغترب مع آخر، وربما نبحث مع ثالث عن لغز الوطن حين تغدو الحياة فيه بلا قيمة، فنضطر للبحث عنه أو عن أنفسنا بعيدًا عنه، فلا نجد إلا الموت.
صراع يعيشه أبطال القصص في نصوص مليئة بالحياة رغم قسوتها، مع انسيابية رائعة في اللغة، ووصف دقيق ورشيق لكل شيء فيها، من المكان والزمان والملابس إلى الشعور الداخلي للشخصية. ومن اللافت التلاعب بالزمن بين القصص: كل شخصية لها زمانها ومكانها وتحولاتها وذكرياتها، لكنها أشبه بقطع البازل التي يحتاج القارئ لإعادة تركيبها ليكتشف في كل قراءة شيئًا جديدًا، حتى تغدو الأزمنة حالة واحدة ممتدة بين الحدث وشخصياته.
تضم المجموعة أحداثًا متلاحقة، حروبًا، نبوءات تتحقق، وحبًا يشتعل وينطفئ تحت وطأة الحرب والخوف، مع صراع داخلي بين الوطن والرغبة في تحقيق الذات بعيدًا عنه. كل ذلك وسط تموجات بعيدة الغوص في النفس البشرية وما فيها من مشاعر وأحاسيس، استطاعت القاصة أن تعبر عنها بلغة شفافة واضحة، تشد القارئ لمواصلة القراءة حتى نهاية القصة، التي غالبًا ما تكون مفاجئة لتصوراته السابقة، بما يعكس براعة المؤلفة في إدارة الحبكة وبناء المفارقة.
في قصتها المتهم رقم واحد، كما في نصوصها الأخرى، نلاحظ تكثيف السرد وحذف الاستطرادات المبالغ فيها، مع وضوح الحبكة (المطاردة، التوتر في المدرسة، المواجهة مع القاضي، النهاية المأساوية)، والحفاظ على الصور الشعرية مثل النخلة ودموع الفتى وإشراقة الصباح، مع تعزيز المفارقة بين الواقع المرير وقصيدة الشابي.
أما قصتها شهيق وزفير، فتتميز بجمالها الشعري ورهافة التعبير، حبكتها متصاعدة ومأساوية، ورؤيتها تنفتح على رموز الانتظار والحب والخذلان. ليست مجرد حكاية عن "ست وداد"، بل عن كل أم تُهمل في خريف العمر، وعن جيل من النساء اللواتي ارتبطن بالانتظار أكثر من الحياة. النص إنساني عميق، يفيض بالشجن والحنين، ويجسد مأساة امرأة عراقية تحمل في حياتها معاني الوفاء والصبر والخذلان. من الناحية الفنية، القصة مبنية على حبكة مأساوية تبدأ بالانتظار الطويل وتنتهي بالموت وحيدة، مع بقاء دفترها شاهدًا على حبها وذكرياتها، والأسلوب يمتاز بلغة شاعرية وصور رمزية تجعل النص أقرب إلى لوحة وجدانية مؤثرة.
الرؤية في هذه القصة تتجلى في ثلاث محاور رئيسية: الزمن، المرأة، والحب. الزمن في حياة البطلة بطيء ومثقل بالانتظار، يقاس بالشهيق والزفير لا بالساعات. المرأة تمثل نموذج المرأة العراقية المكافحة، جمعت بين دور الأم والأب والمربية الناجحة، لكنها تُترك مهملة في النهاية. أما الحب، فقد تحوّل إلى "زواج من الانتظار"، حيث بقيت وفية لعهد لم يتحقق، وكتبت رسائلها لزوجها الغائب ولأبنائها بصدق ولوعة. الرموز مثل الدفتر والمقعد الخشبي والياسمين والشهيق والزفير تمثل ذاكرتها وصوتها المكبوت وعزلتها .
ووحدتها ووفاءها . هكذا في باقي القصص، نجد صورًا معبرة عن معاناة المرأة وما يزخر به المجتمع من حكايات وواقع مرّ، تقدم القاصة من خلالها تجربة سردية غنية بالمعنى والرمزية .
القاصة سنية عبد عون رشو تعد واحدة من العلامات البارزة في القصة العراقية المعاصرة. إنها تعرف كيف تلتقط اللحظة الإنسانية الصغيرة وتحولها إلى نصوص مشبعة بالرمز والإيحاء، بحيث يصبح القارئ أمام مرآة تكشف له ذاته بقدر ما تكشف له عوالم الآخرين. رغم أن القلم النسوي العراقي واجه تحولات اجتماعية وسياسية معقدة، تمكنت رشو من إيجاد موقعها الخاص بفضل موهبتها السردية وجرأتها على معالجة موضوعات تمس الجوهر الإنساني، لتكتب أدبًا ذا بعد إنساني شامل، ينطق بلسان المرأة والرجل معًا.
تتمحور قصصها حول موضوعات حساسة: الوحدة والاغتراب، الخذلان العاطفي، الهوامش الاجتماعية، والأمل المجهض، لكنها تُقدّم بصوت هادئ، بعيد عن المبالغة، أشبه بالبوح الداخلي الصامت. أسلوبها يحقق التوازن بين اللغة الشعرية الهادئة، البنية السردية المكثفة، النهايات المفتوحة، والشخصيات الداخلية التي تحاور الذات أكثر من الصراع .
الخارجي . عند مقارنة نصوصها بأسماء بارزة مثل لطفية الدليمي وديزي الأمير، نجد أن سنية عبد عون رشو تحتل موقعًا مميزًا بصياغتها الألم الإنساني بصوت منخفض، وتفردها برسم ملامح إنسانية شديدة الخصوصية، ما يجعل نصوصها شهادات أدبية على معاناة لم يجد من يعبر عنها .
سوى قلمها . إنها بذلك تمثل صوتًا سرديًا رقيقًا لكنه عميق، هادئًا لكنه شديد الإيلام، تكتب القصة بوصفها ومضة حياة، فتحتل مكانة مرموقة بين القاصات العراقيات، مع تركيز خاص على المرأة والإنسان من زاوية نفسية ووجودية، لتصبح نصوصها شهادة على التجربة الإنسانية بكل أبعادها.
محمد علي محيي الدين
31-8-2025

1186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع