ابراهيم الولي*
البراغماتية Pragmatism
ثلاثة أسباب دعتني للخوض في هذا الموضوع :
أولها : إن لي ذكريات عنها حين كنت طالباً أدرس الإجتماع والفلسفة في جامعة فؤاد الأول , القاهرة , حالياً في آخر أربعينيات القرن الماضي، وكان أستاذنا الكبير علي عبد الواحد وافي يحثنا على البحث والقراءة , وقد كلفنا , أنا وزميل آخر بإعداد وريقة عن البراغماتية وأشار إلى دائرة معارف العلوم الإجتماعية كمصدر .
وثانيها : إحساسي بأن الكثير من المواطنين لا يعرفون عن هذه الفلسفة غير انها أسلوب عمل في السياسة يعني الإنتهازية حتى ليُقال للإنسان الإنتهازي أنه براغماتي ، وهذا هو الجانب السلبي الغالب عليها.
وثالثها : إعتقادي بأن الفلاسفة هم قادة الفكر والعمل ومعلمو التشريعيين في بلدانهم ، ولهذا وددت أن اتلمس إسقاطات هذه الفلسفة السياسية على بلداننا العربية والإسلامية سواءً بسواء ، فكيف يكون ذلك ؟
تعريف وماذا في الإسم : عرَف البعض هذه الفلسفة بالبراغماتية (كلمة براغماً تعني باليونانية العمل)، وآخر بالذرائعية والعمليانية والنفعية ، ولكل من هذه المسميات صفات لبعض خصائص هذه الفلسفة . سأمر سريعاً على تسلسل المدارس الفلسفية التي بدأت في اليونان في أوروبا ثم انتقلت الى أمريكا في نهايات القرن التاسع عشر.
الفلسفة هي حب الحكمة Philo ، sophy وهي الرغبة والسعي للوصول إلى حقيقة الأشياء – والفلسفة نوعان : عملية ونظرية ، تضم الأولى فلسفة الحكمة والجمال والأخلاق والعلم، والثانية الفلسفة النظرية وتضم المنطق فهي تسعى لفهم ما بعد الطبيعة Metaphysics والواقع ومعنى الوجود والكون والخلود والجمال والخير والشر.
• علم الوجود Ontology
• علم اللاهوت و الدين و المعتقد ،
• العلم الكلي ، المنطق والاستدلال العقلي .
قبل أن أدخل في موضوع (البراغماتية) وجدت ضرورياً إجراء مسح سريع لتذكير القاريء بجذور الفلسفة اليونانية وما يليها من الهبوط الى البراغماتية:
سأذكر أسماء الفلاسفة ومع كل اسم صفة أو قول يشير الى الفيلسوف محصورة بين قوسين:
ظهر سقراط في القرن الرابع قبل الميلاد ( الخير الوحيد هو العلم والشر الوحيد هو الجهل ) جاء بعده أفلاطون المثالي ( جمهورية أفلاطون ) ثم أرسطو الواقعي الذي رسم فلسفة ما وراء الطبيعة . الميتافزيقيا التي تصف طبيعية
الأشياء سماها الفلسفة الأولى، وله منطقه الخاص ، وكان فيثاغورس فيلسوف الرياضيات، وكان ذلك في اليونان ، بعد هؤلاء انتشرت شجرة الفلسفة في أوروبا فكان ايمانويل كانت (نقد العقل المجرد) و نيشته ( هكذا تكلم زرادشت ) و شوبنهاور ( كل أمة تسخر من الأمم الأخرى ، وكلهم على حق ) وكارل ماركس ( رأس المال ) وهيجل ( الديالكتيك ) ولاينبز وسبينوزا الذي أُعتبر من أهم تنويري القرن السابع عشر ،و ماكيا فيللي ( الأمير ) ورينيه دي كارت ( أنا أفكر إذاً أنا موجود ) وهوبز (Leviathan التنين ) وجون لوك ، و فرانسيس بيكون ( الجاذبية ) وآدم سميث ( ثروة الأمم ) وفولتير ( روح القوانين ) وروسو (العقد الإجتماعي ) وغيرهم في الغرب عديد .
أما في العالم العربي والإسلامي ، حيث نشطت حركة الترجمة في زمن المأمون ، فقد برز الفارابي المعلم الثاني بعد أرسطو ، وإبن سينا ( القانون في الطب، و ابن ماجه ( فلك وموسيقى ) وابن رشد ( تهافت التهافت ) وابن خلدون (مقدمة علم الإجتماع و ابن القف (طب وفلسفة ) وإبن النفيس ( علم وظائف الأعضاء ) والغزالي (تهافت الفلاسفة، والكندي (طب ) و ابن طفيل ( حي بن يقظان ) والإدريسي ( جغرافية ) والرازي (طب ) وفي عصر الحداثة ظهرت الوجودية ( سارتر ، كن رجلاً ولا تتبع خطواتي حُراً ومسؤولاً ).
أما وقد دخلنا بعد هذا المسح الى أواخر القرن التاسع عشر والعشرين ، فقد بدأت الفلسفة الأوروبية الحديثة تتراجع اما م الفلسفة الأمريكية. فهناك نشأت وترعرعت فلسفة جديدة نادى بها تشارلز ساندرز بيرس 1829م - 1914م سمَاها البراغماتية ، وجورج ميد ( علم النفس الإجتماعي ) 1862م- 1921م ثم وليم جيمس (كتاب البراغماتية ) 1842م- 1910م ، ثم جون ديوي ( كيف نفكر ) 1859م- 1952م وفي 1979م ظهر من المحدثين في البراغماتية ريتشرد رورتي ( الفلسفة مرآة الطبيعة ) .
تلك هي البراغماتية ، من قائل أنها فلسفة نفعية تنظر الى المنفعة التي تجنى من أي فكرة ، وفلسفة أو عمل حتى سماها ( النفعية) ومنهم أو هم الأغلب كما كنا نسميها في الجامعة بالذرائعية أي أنها تتذرع أو تستهدف القيمة الحقيقية والنافعة في الأفكار والقضايا التي يُصار إلى تطبيقها ، ومنهم من سماها الأداتية Instrumantalism والعمليانية أي أنها تأخذ بالإهتمام النتائج المثمرة للعمل وتنبذ غير النافع منها. يقول جيمس : أن الفكرة أو الإعتقاد تكون ذات قيمة فقط عندما تنشط في العمل ، أي أن تكون قد حققت تغيراً ما في عالمنا، وبعكسه فنسقطها رغم جاذبيتها إن لم تكن ذات نفع ، فهي أي البراغماتية تؤكد على الفعل أكثر من النظرية ، وتعارض المثل والقيم المطلقة، التي يدعو لها المثاليون، وتركز على قوة الإنسان وتدعو الى تطوير القيم الإجتماعية وتؤمن بالتعددية فهي تقوم على مبدأ المنفعة utilitarianism معتمدة على التجربة بعكس المباديء المقررة سلفاً ذلك أن الأفكار تستمد معانيها من نتائجها ومن الحقائق للتثبت بها.
إن الحقيقة هي مجرد منهج للتفكير ، كما أن الخير هو للعمل، فحقيقة اليوم قد تصبح خطأ الغد، فالثوابت والحقائق التي بدت كحقائق منذ زمن طويل ظلت تروى ولكنها ليست حقائق مطلقة بل لعل من الممكن تسخيفها، فالفكرة تصدّق قدر فائدتها، فالنفع والضرر يحددان قبولها أو نبذها.
يقول ديوي، إن الفلسفة ليست حلاً سحرياً لمشاكل الناس ولكن ما ينبثق من أساليب اتخذوها لحل مشاكلهم.
ويقول بيرس إن الفكر يجب ان يُنتج فعلاً بدل البقاء في العقل وإن المعتقد والفكر يكون لهما معنى بحسب تأثيرهما الإيجابي.
ويقول جيمس أن وظيفة الفلسفة يجب أن تقوم على إيجاد الإختلاف الثابت التأثير عليك وعليّ في زمن معيّن من حياتنا. إن أكبر عدو لإحدى حقائقنا ربما تكون بقايا حقائق فهذه تملك غريزة مفرطة لحماية نفسها وكذا الرغبة في مسح _ ما يناقضها . أن اعتقادي بالمطلق يقوم على الخير الذي يصيبني ويجب أن ينبذ جميع المعتقدات الأخرى. وإن الفكرة الصادقة هي تلك التي تؤدي بنا الى النجاح في الحياة ، أي أن المعرفة Epistemology هي مقياس الصدق لأن الأساس هي المنفعة .
رأي
و أنا استعرض ما قال فلاسفتها في البراغماتية كفلسفة وبرنامج عمل في الحياة ومنهج فكر، قد وجدت خلاصته في:
لاقيمة لفكرة أو نظرية أو مبدأ في حياة الإنسان، والدول والعلم مالم تؤدي وتحقق نتائج مثمرة ذات فائدة ومنفعة من أجل المحيط العالمي سياسةً واقتصاداً واجتماعاً، بل وللإنسان الذي نادى أو عمل بها، وبعكسه فإن احتقارها يكون بصرف النظر عن جاذبيتها، يكون هذا الحكم بدون الإلتفات الى القيم والتقاليد وحتى الأخلاق المتوارثة ، ربما لأجيال مضت فهي في تبدل وتطور . هذا التوصيف للبراغماتية يذكرني بالفيلسوف نيكولا ماكيافللي ، الذي كان ينصح الحاكم في كتابه الأمير بأن الغاية تبرر الوسيلة ، ولا أظن أن ماكيافللي كان يعطي للأخلاق دوراً في نصيحته فهو يركز على المنافع التي يجنيها الأمير من التمسك بهذه الفلسفة النفعية بإمتياز . أليس البراغماتي جاء متأثراً بهذا !!
دعنا من الإيطالي الفيلسوف ولنذهب الى الأرض، البلاد والدولة. الولايات المتحدة الأمريكية فهي مهد البراغماتية التي بشّر بها أربعة أمريكان حتى الآن ، وهم كما تقدم فلاسفة علم الإجتماع والرياضيات وعلم نفس و طب ؛ بيرس وميد وديوي وجيمس ، مع حفظ ألقابهم. هنا أكرر ما قال الفقهاء بأن الفلاسفة هم معلمو الشعوب والسلطة التنفيذية خاصة. هذه القاعدة تصدق على عدة رجال ونساء في السلطة ممن استهدوا بالبراغماتية كمنهج عمل لا يلتفت ، بإنانية واضحة ،الى المحددات التي تسود العقل الجمعي في البلدان المستهدفة . وتأتي نظرية الفوضى الخلاقة منهج عمل في كل مجالات الحياة التي فُرضت على بلدان كثيرة، والعراق في مقدمتها وقد سبق لي أن عالجت هذه القضية التي رسمتها وعملت بها الآنسة كونداليزا رايس وأسِفت فيما بعد على خيبتها.
ويأتينا السيد زبغنيو برجنسكن بتجسيد آخر للبراغماتية معلناً أن علينا في الولايات المتحدة أن نخطط منذ الآن – أي خلال الحرب العراقية الإيرانية- لحرب خليجية ثانية تمكننا في نهاية المطاف من رسم المنطقة، أي إعادة النظر في سايكس بيكو المشؤومة، لتصب في مصلحة إسرائيل وأمريكا فحسب .
ودعوة الرئيس بوش الإبن للرئيس الفرنسي جاك شيراك لإشراك الجيش الفرنسي في مطاردة يأجوج ومأجوج في بابل، فيرد شيراك عليه قائلاً لو كنت كررت ذلك على مسمعي لما صدقته _Si vous le repe’tez Je dementirai
هل يشك أحد أن بوش كان يضلل هذا الرجل المثقف ابن الذوات ! ولكن تلك هي البراغماتية.
ولا أكرر الأمثلة الواضحة في سلوك هنري كيسنجر الفلسفي والسياسي فهو ملتزم بما يسميه السياسة الواقعية Reel Politik التي تضع الأخلاق جانباً عند الممارسة .
وحتى الرئيس باراك أوباما ، الذي استبشر العرب المسلمون خيراً برئاسته ، فإذا به يقايض الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإنجاح المفاوضات حول التسلح النووي ، وهو يعرف ، وهو المثقف والسياسي الذكي أن ثمن ذلك كان وقوع العراق، ربما عن عمد ، في المجال الحيوي لإيران وهذا ما حصل مع الأسف ،اذ كانت النتيجة صفرية بين الجارين المسلمين من بركات الرئيس باراك .
تلك أمثلة من البراغماتية النفعية الأنانية ، أنظر معي ايها القارئ الكريم لمقابلة صحفية اجريت مع السيد بول بريمر الحاكم المطلق للعراق منذ 2003م، هذا الرجل الدبلوماسي العريق يقول في المقابلة أن السّنة حكموا لمئات من السنين وعلينا أن نساعد الشيعة الان على استرداد دورهم في الحكم. هنا يضيف السيد بريمر الإهانة الى الجرح ، فقد خطط وأفتى ونفذ هذا الرجل لتمزيق نسيج المجتمع العراقي وإذكاء الطائفية والمحاصصة وشرعنتها فيه ، تضاف هذه الى مثالب الرجل كإداري فاشل أدى بالعراق لأن يفقد أمنه بحل قوات الأمن وأفساد الحكام برشوتهم ولا اوضح أكثر ، ففي فمي ماء كما يقول المثل ، : فهل تكفي هذه الأمثله لتبرر تقديري للبراغماتية بأنها إنتهازية ليس للأخلاق أهمية في تطبيقاتها ، و مع احترامي للشعب الأمريكي ومواساتي لشعبي الجريح المكلوم في العراق بسبب تلك الفلسفةو من بين عوامل أخرى.
والله من وراء القصد
*سفير عراقي سابق
359 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع