علي المسعود
فيلم " موسم وحيد القرن " قصة حياة شاعرعظيم ناضل ضد أنظمة الظلام والتخلف في إيران .
لم يغِب منذ التسعينيات، فيلم إيرانيّ عن المهرجانات الدوليّة أو في الحصول على جوائز في المهرجانات السينمائية في العالم بعد ظهور جيل عظيم من المخرجين الذين دفعوا الثمن غاليا لمواقفهم أو أراءهم الجريئة والرافضة لكل القيود ، ومن هؤلاء المخرجين ، المخرج الكردي – الايراني "بهمن غوبادي" الذي يعتبر أحد المخرجين السينمائيين المعروفين على مستوى العالم ، ومن أبرز المخرجين الإيرانيين الأكراد . نالت افلامه العديد من الجوائز الدولية وشارك في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية كعضو في لجان التحكيم أو رئيسا لهذه اللجان . بدأ مسيرته السينمائية بالتمثيل ، ثمّ دخل عالم الإخراج مساعداً للمخرج الإيراني العالمي عباس كياروستامي ، إلى أن استقل وبدأ بإنتاج أفلامه بنفسه . قدّم العديد من الأفلام القصيرة كـ"سمكة الرب" عام 1996 و"انتهت الحرب" عام 2003 . أمّا فيلمه الطويل "زمن الخيول الثملة" في عام(2000)، فحصل على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي . يركز "بهمن غوبادي" في أفلامه على إظهار مأساة الأكراد من الحروب المتتالية. فكان فيلمه "السلاحف تطير أيضاً " (2004)، الذي يروي فيه قصة طفلين كردستانيين أثناء الحرب الإيرانية - العراقية. غوبادي لم يتوان في إظهار مواقفه السياسية في جميع أفلامه ، وبهذا وضع نفسه في مواجهة الرقابة الإيرانية ، في العام 2009 حين قدّم فيلمه "لا أحد يعرف عن القطط الإيرانية"، الذي افتتح به مهرجان (كان) عروضه في السنة نفسها، والذي أعتبرته الرقابة الإيرانية خرق لحدودها وتابوهاتها السياسية و الإجتماعية مما تسبب بطرده و نفيه من بلده . وباستمرار غوبادي في جرأته وفضوله في فتح التابوهات الإيرانية المغلقة الذي عكف على كشفها طوال فترة مسيرته ولكونه لا يستطيع العمل في إيران لذلك اخرج فيلمه (موسم وحيد القرن) في تركيا ، حيث أن منعه من العمل في إيران أعطى للمخرج خبرة وحرية في العمل ، يقول غوبادي: " بعد فلمي الاخير في إيران (لا احد يعرف عن القطط الفارسية ) وبعد اجباري من مغادرة ايران ، شعرت إنني شخص اخر ، شعرت إنني قد ولدت من جديد وبروح جديدة". المخرج الإيراني الكردي "بهمان قوبادي"، الذي تميز في مواضيع أفلامة التي تتناول قضايا أنسانية والتي تبرز نضال ومعاناة الكرد وكشف المأسي التي يتعرضون لها من قبل الانظمة الديكتاتورية أوالسلطة الدينية في كل من العراق وأيران وباسلوب شعري وواقعي . وعن فيلمه فيلمه (موسم وحيد القرن ) يصفه المخرج بهمن غوبادي بأنه ليس مقتصراً على السياسة حيث يقول “يختلف هذا الفيلم عن اعمالي السابقة بشكل كبير، انه فلم شاعري ، ويروي قصة حياة صديقي الشاعر الذي انقطع عن الحياة لمدة 30 عاماً بسبب شخص إتهمه وزوجته بتهمة سياسية باطلة ليودعهما في السجن لثأر شخصي" ، ورفض غوبادي الكشف عن هوية الشاعر ليجنبه المزيد من المتاعب. يقول المخرج غوبادي إنه حاول الاقتراب من الشاعر وعندما كان في موقع التصوير قرر أن يتصرف كالشاعر . وهذه المرة أيضا زاد غلته حسب نطاق حريته وسلطته السينمائية كمخرج وأتهم الثورة الإيرانية الإسلامية التي حدثت في نهاية سبعينيات القرن الماضي بأنها كانت أشبه بالمطرقة التي هوت على رؤوس المثقفين والأدباء والشعراء الإيرانيين!! . يعيش في المنفى الاختياري على مدار الأعوام الثلاثة والثلاثين الماضية (قضى بعض الوقت في الولايات المتحدة ، ثم برلين ولندن والآن اسطنبول) ، ويعاني من الاكتئاب العميق الذي يعاني منه كل فنان فقد الحق في العيش والعمل في بلدهم الأصلي . يقول بهمن غوبادي "عندما لا يسمحون لك بالحق في التعبير عن نفسك بحرية من خلال عملك ، فإنهم يعتبرونك ضد بلدك وهذا أمر محزن للغاية. أنا أحب بلدي ، أحب إيران ولكن لا يمكنني العيش هناك بعد الآن". عانى بهمن غبادي مؤخرًا من محنة أخرى عندما اختفى شقيقه بهروز ، مدير الإنتاج ومخرج الأفلام القصيرة ، ويعتقد أنه محتجز من قبل السلطات الإيرانية بتهمة العمل ضد الأمن القومي . قام غوبادى بإهداء فيلم (موسم وحيد القرن ) ، الى "سانى جالا" طالب المسرح في جامعة طهران، الذى فقد حياته خلال مظاهرات 2011, و"فرزاد كامنجار" الذى أعدمته السلطات الإيرانية فى 2010 بتهمة الإخلال بالأمن القومى، وإلى كل المعتقلين السياسيين فى السجون الإيرانية ".
الفيلم في البداية يكشف إنه يستند القصة حقيقية وهي قصة حياة الشاعر والمؤلف الايراني – الكردي صادق كامنجار ، الذي قضى 27 عاما سجينا في سجون الجمهورية الاسلامية الايرانية ، بينما أخبروا أهله بوفاته منذ عدة سنوات، عائلة صادق ظلت تبكي لسنوات على قبر وهمي بنته الحكومة . عنوان الفيلم مستمد من إسم أخر ديوان للشاعر والذي نشره قبل دخوله بالسجن . يفتتح الفيلم في خريف 2010 وهو موعد اطلاق سرا ح الشاعر (ساحل فرزان) . هذا الرجل تم سجنه لعقود من قبل الحكومة الإيرانية بسبب قصائده على الرغم من أن شعره لم يكن سياسياً . بعد 30 عاما كان فيها مدفونا وراء الشمس واليوم هو إطلاق سراحه ، نراه يغتسل من قبل حراس السجن ، يفكر في صمت بأشعة الشمس الأولى التي يشعر بها في "الحرية" ، وجه الشاعر ساحل الموجوع هوانعكاس لسجن الروح . وجه منحوت مثل شجرة عمرها قرون . يفتتح الفيلم في ايران وفي خريف 2010 ، بمشهد اطلاق سراح الشاعر(يكون الشيب قد غزا شعره، ونال منه السجن كثيراً)أغلب الوقت صامت ولا يتكلّم إلّا نادراً، يكتفي بصمته الذي كان يمثل وسيلة احتجاج على الظلم الذي أغرقه وعمره الذي سرقه خفافيش الظلام ، يؤدي دور الشاعر(ساحل فارزان ) في مرحلة الشباب وقبل دخوله السجن الممثل التركي " كانر سيندوروك " اما بعد خروجه من السجن يقوم بالدور وبأقتدار الممثل الايراني المخضرم " بهروز فوسوغي" ، الذي إستطاع أن ينقل بابداع جميع الانفعالات والصدمات الشاعر في محنته . وحال خروجه يرجع بنا الفيلم الى ايران عام 1977، قبل سنتين من قيام الثورة الاسلامية ، مينا الشابة الجميلة والتي تقوم بدورها الممثلة الجميلة" مونيكابلوتشي " إبنة العقيد في الجيش الايراني في زمن الشاه وهي زوجة الشاعر (ساحل) ، ونشاهد حضورها حفل توقيع ديوانه الشعري("قصيدة وحيد القرن الأخيرة") ، تاتي برفقة السائق ( اكبر رضائي) ويقوم بدوره الممثل التركي " يلماز أردوغان "، بعدها يذهب بالسيارة مع الحبيبة زوجته مينا في نزهة الى أحد الاماكن المحببة لدى الشاعر ، و يشكل هذا المكان أهمية عند الشاعر بكونه نقطة توهج الالهام لدى الشاعر عند كتابة قصيدته (موسم وحيد القرن ) ، يسيران بفرح غامر ، وعيون السائق ( أكبر رضائي ) تراقبها بحقد وحسد . كان ينتظرالشاعر مستقبل واعد سعيدة مع حبيبته لكن قيام الثورة الإسلامية ينهى كل ذلك ، وفي مشهد من مشاهد الفيلم ، السائق أكبر رضائي يلمع السيارة بانتظار نزول العقيد والد مينا ، يأمره العقيد بأخذ إبنته الى بيت عمها وعندما تنتهي يرجعها الى البيت ، وعند العودة وفي الطريق يوقف السائق "أكبر رضائي " السيارة ويصارح مينا بأنه مجنون بحبه لها ، تثور عليه وتتوعده بالعقاب الذي سيناله من أبيها ، وبالفعل ينهال عليه الاب بالضرب ويامر حراسه بضربه ورميه بالشارع ، بعد سقوط الشاه واندلاع الثورة الاسلامية في عام 1979 ، يراقب الشاعر ساحل وزوجته مينا الجموع الهائجة من النافذة ، وكيف تحول هتاف الجموع من ( فداءاً للشاه..) الى هتاف أخر ( يارسول الله ، يانور البشر ..ياخميني .. يانور الشعب ) ويصبح السائق (أكبررضائي )المغرم بمينا التي لم تبادله غرامه، من قادة رجال الحرس الثوري الايراني المتنفذين ، الذي لم يضيع وقتًا في تدميره وانتقامه من العائلة ، ويبدأ خطواته في الانتقام ، ينتقم من الاب ويسوقوه الى الاعدام بعد مصادرة ممتلكاته ويعتقل أبنته مينا وزوجها الشاعر ساحل بعد أن يلفق لهما تهمة الاساءة الى الثورة الاسلامية في أشعاره . أتهم زوراً بكتابة قصائد معادية للإسلام وزج به في السجن مع زوجته التي اتهمت بالمساعدة في جرائمه . وفي العودة الى الماضي ، وفي إسترجاع الى زمن الشاه ، يستذكر الشاعر ساحل فارزان المحكمة وصراخ القاضي المعمم المتخلف وشتائمه الذي يصف قصائده بالسخيفة والتهمة جاهزة وهي أن قصائده تحرض على نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحين ينطق القاضي بالحكم : " ساحل فارزان ، أبن قاسم ، سني المذهب ولد أيراني الجنسية كردي القومية أنت متهم بكتابة قصائد سياسية ضد نظام الحكم في جمهورية إيران الاسلامية ، وأيضاً قمت بالتعاون مع مجموعات العدو والذين هدفهم الاطاحة بنظام بجمهورية إيران الاسلامية، حكم عليك بالسجن ثلاثين سنة! "، ثم يلتفت الى زوجته ويقرأ عليها حكمه " مينا دارخشاني إبنة رحيم ، شيعية المذهب ولدت في (طهران) ، أنتِ متهمة بتعاونك مع زوجك (ساحل فارزان) ، الذي كتب قصائد سياسية ضد جمهورية ايران الاسلامية ، حكم عليكِ بالسجن عشر سنوات !. يصوّر الفيلم غباء وطائفية القاضي المعمم المقيتة في بيان الحكم والإدانة حين التعريف بالشاعر أنّه (سنّي المذهب كردّي الأصل) وكأنّ ذلك ضاعف من (جريمته) . ساحل مسجون في نفس الوقت مع زوجته مينا (مونيكا بيلوتشي) ، ابنة أحد قادة الشاه ، في السجن أمرت وبالاجبار بطلاقها من زوجها الشاعر (ساحل) وإلا سيكون مصيرها مثل نهاية أبيها . وعندما تطلب زيارة زوجها تجاب بالرفض ، ولكن يُسمح لهما بزيارة بعضهما البعض مرة واحدة فقط - وهي زيارة زوجية قاسية، يجب أن يظل كل منهما مقنعًا . يمارس 0أكبر رضائي)ورجاله بحق الشاعر وزوجته اقذر الوسائل في الترهيب للحد الذي يصل الى إغتصاب زوجته ( مينا) في داخل السجن من قبل رجل الحرس الثوري (أكبر رضائي) . ومن أجمل وأقسى مشاهدها هو اللقاء مع الشاعر فى السجن ، حيث تمت تغطية وجهيهما بكيس أسود ، ووضع القيود الحديدية فى رسغيهما وتتلامس الأيدى المقيدة فى عناق ملتهب ومتوتر ، لكن دون أن يرى أحدهما الآخر . في المعتقل تسمع صوت الزوجة ( مينا ) وهي تقرأ قصائد جبيبها الشاعر ساحل- ( شوكة عالقة في حلقك ..تبقيك هناك ..لآاقرب ..ولآ أبعد ، وانت سوف تنتحب .. ومن عذاب الشوكة سوف تطفو ، ولاأحد سيلاحظ ..عندما تموت القصيدة فيك ...جثتها سوف تتعفن وتخرج رائحتها .. الجثة التي بقيت منك تتساقط ..من جفن حصان ..نصف نائم ونصف مستيقظ ..أنظر الى جفن ذالك الحصان ، حقل ملح يختفي مع الرياح ). ونتيجة لاغتصابها من قبل "اكبر رضائي" تنجب مينا إبنتيها التوام في السجن ، بعدها بمدة يطلق سراج "مينا دارخشاني" وتستلم بناتها التوأم من دار الحضانة . عند سؤالها عن زوجها يخبروها بوفاته ، وعند استلامها شهادة وفاة زوجها الشاعر تسال مينا عن جثة زوجها ، ويتم إخبارها بأنه مدفون في مقبرة للكافرين ، تذهب للمقبرة لزيارة قبر زوجها في مشهد يطغي عليه اللون الرمادي وصوت الريح مثل عواء يرافق قصائد الشاعر وعلى لسان الزوجة ( بركات يد تغطي الارض.. من بذور التكفير.. نبتت بعض النباتات ، النباتات التي شهدت تلك القبور الخاوية الضالة ، لعنة هي التي حلت على هذه الارض ... أه أيتها الارض الغير مبروكة ، ايتها الارض المريضة .. التي تبكي تلالها مع عواء بردِ صافِ) - ويلحقها السجان أكبر رضائي الى المقبرة وهو يستجدي حبها –(أرحميني لأجل الله ، فانا لازلت واقعاً في حبك..ساعديني أترجاك ) تتركه وهو يجري وراءها ، لكنها تطلب مساعدته في توفير جوازات سفر لها و للبنتين كي ترحل الى تركيا. بعد خروج الشاعر من سجنه الذي سلب 30 عاما من عمرة ، يتعلّق بذكرى امرأته التي حسبته كغيرها من الناس مات في السجن غيظا وكمداً ويبدأ بالبحث عنها . امرأته "مينا" التي مثلت دورها الإيطالية المتمرسة الأنيقة "مونيكا بيلوتشي" التي تعلّمت اللغة الفارسية بشغف لتحاكيها، خسرت كل شيء وتسللت إلى تركيا لتظل سجينة سائقها "أكبر رضاي" الذي استغلّ كغيره من المرتزقة أحداث "الثورة" الإيرانية فانضمّ إلى الحرس الثوري، ساعياً في تحويل هوسه بزوجة الشاعر إلى حقيقة، عشقها خفية وتنشّق عطرها والتهم حمرة شفتيها بتلذّذ ، ليزجّ بها وبزوجها بالسجن . الفنان " بهروز فوسوغي " استطاع وبجدارة تقمص شخصية الشاعر والتماهى معها مستخدما تعبيرات وجهه الجامدة وعينية الحزينتين والمنكسرتين بفعل الزمن والظلم والاغتراب عن الذات والوطن، استطاعت عينا بهروز قول كل شىء بدون نطق كلمة واحدة فى الفيلم، ولا حتى ابتسامة ، دور صامت لكنه تمكن من تجسيد شخصية الشاعر المحطم ، وبخاصّة التركيز على قصيدة وحيد القرن التي كانت عنوان مجموعته الشعريّة الأخيرة قبل اعتقاله " ماذا تريد من هذه الارض والتربة ؟ ..لقد أطلقوا سراحك.. فتحوا الأرض وغطوا آثارك.. أعلنوا موتك.. سواء كنت حيا أو ميتا.. لا أحد يعلم بك.. أحمل جدرانك على كتفيك وارحل". ويكتشف أن جميع أهله قد رحلوا ، فقط والده ظل على قيد الحياة ، زوجته مينا غادرت الى تركيا . يسافر الى تركيا للبحث عن زوجته بمساعدة أحد ألاصدقاء ويعثر على عنوان زوجته ، ويلمحها بوجهها الحزين والمنكسرة تسكن فى أحد بيوت إسطنبول القديمة، تعيش مع إبنتيها التوأم وهما ثمرة اغتصابها فى السجن، امرأة فقدت كل شئ، الأب المحسوب على النظام السابق والزوج الذى منحوها شهادة وفاته على خلاف الحقيقة ، لتصبح "مينا" ذاكرة الشاعر الحية، تمتهنزوجته (مينا) نقش التاتو على الأجساد ، مستخدمة مقاطع من قصائد زوجها، وتعمل على نشر قصائده على أجساد البشر بعد أن تمت مصادرة ديوانه ومنعه ، ليبقى شعره محفورا ومرئيا إلى الأبد ويخبره صديق له في تركيا عن (أكبر رضائي) الذي كان في الحرس الثوري الايراني يزور بيت زوجته والبنات لايعتبروه أبوهم لانهما يعتقدان أن أبوهما مات في السجن منذ سنوات ، وينكر الشاعر معرفته به ، بل يرمي صورته في حوض فيه طفيليات تسبح ، وهذه صور معبرة ولها دلالات كبيرة . يواصل الشاعر ساحل مراقبته لزوجته مينا في تجواله و تنقلاتها ، وفي أحدى المشاهد يلمحها من خلال النافذة مع شاب وهو عاري الصدر وتقوم مينا بغلق ستارة النافذة ، يصاب بوجع حين يظن أن زوجته سقطت وأصبحت عاهرة لكن الحقيقة هي أن زوجته مينا تعمل على وشم الاجساد بقصائده لغرض العيش . بعدها يسود اللون البنفسجي من الاضاءة على صورة في غاية الشاعرية مع صوت النوارس وهي تحلق فوق رأس الشاعر ساحل وصوت زوجته مينا وهي تقرأ إحدى قصائده ( خيالك يختفي ..يسقط على الماء ..أنت تنظر اليه .. يبدو كذالك ايضاً) ، ثم تنعكس صورته في الماء وهويراقب من خلال شاشة زرقاء ، زوجته مينا تسبح في حوض سباحة و يتبادل معها القبل ، وكلمات قصيدته التي نسمعها بصوت زوجته الحاضرة الغائبة مينا ، (يصل عنكبوت ما ..ويخلط اللحظة مع لعابة .. مع الوقت ، ينسج شبكته ،، انت مطارد ..فيتركك،، عنكبوت بحجم عنكبوت ، السماء تظلم ..فتصفى ...ثم تظَلم ،، الشجرة تلهث للهواء كي يجف نسغها)وخلال مراقبتة لبيت زوجته مينا يلمح خروج رجل غزا الشيب رأسه يمشي وكلبه يتبعه وعرفه أنه سجانه ( أكبر رضائي ) الذي سلب حياته وحبه ، ( هل تشعر بالطفيليات وهي تمص دمائك...دماء الثلاثين سنة التي قضيتها في السجن ؟) ، ويملح ظل حبيبته مينا من النافذة ، لكنه يختفي حين تنتبه اليه وتلتفت ، يكتشف بعدها أنها أرغمت على العيش مع أكبر الذي جثم على أنفاسها بتمعّن .وعندما تطلب منه فتاتان توصليهما لعطل أصاب سيارتهما وهما على عجلة للحاق بموعد أو لقاء ، وتعطي أحدهما وهي أبرو وتقوم بدورها الممثلة التركي (بيرين سات) رقم هاتفها وهي احدى بنات زوجته مينا والتي تمتهن الدعارة( لغرض تامين مبلغ السفر والهجرة الى أوربا ) ويمر معهما بعدة مواقف تصل في أحدى المرات الى ضربه وجرحه من قبل مجموعة من الشباب . في أحد المشاهد يحاول الشاعر قتل وحيد القرن، يصدمه بسيارته فى محاولة من الشاعر لكسر صمته وسماع صرخته المدوية بوجه جلاده الذي سرق منه فرحه وعمره وحبيتته ، ويطلق العنان لروحه السجينة في زنزانة الالم و الوجع . لذا ترتطم السيارة به بقوة، تهتز قليلا قبل أن تعود للاستقرار ثانية، وصوت الشاعر ينشد "الأرض سطح ملح قاس..وحيد قرن مال برأسه ولَعقه بفم فارغ". وفى مشهد النهاية ، يقرر الشاعر أن يكسر حاجز الصمت ويذهب الى غريمه ( أكبر رضائي) ويأخذه بسيارته في جولة ، لكنه الشاعر يقفز بسيارته إلى البحر مع سجانه (أكبر رضائي) ، ينظر الى سجانه"أكبر رضائي" وهو يحاول عبثا فتح باب السيارة للنجاة من المصير المحتوم، ينظر إليه قبل أن تنفرج شفتيه عن ابتسامة تملا وجه الشاعر وهي ابتسامته الوحيدة والأخيرة له فى الحياة ، في نفس الوقت ، نرى الحيرة والاسى العميق المرسوم على وجه زوجته مينا وهي على ظهر المركب المتوجه الى أوربا في هجرتها الاخيرة . في الفيلم نستمع لمونيكا بيلوتشي – مينا – تلقي قصائد الفيلم بالفارسية، بصوتٍ حميمي منمق، متماشيًا مع الصور الشاعرية، والتي صنعها المخرج"بهمن غوبادي" لتجسد قصة الحب المأساوية إبان الثورة الإيرانية . في العديد من المشاهد يعرض المخرج غوبادي عدد من الحيوانات في لوحات سيريالية ، في مشهد حين يكون الشاعر ساحل في السجن، يظهرالشاعر "ساحل "مكمم الفم ومربوطا على عمود في فناء السجن وفي فضاء مفتوح ينزل الثلج ثم يعقبه تساقط السلاحف من السماء ويمد ويلتقط سلحفاة ، السلاحف تتساقط من السماء ، أو في مشهد أخر ، يقوم حصان بإدخال رأسه داخل سيارة الشاعر ، يتبادل النظر مع الشاعر فى صمت وفي لقطة مكبرة، يبدو أن الحيوانات أيضًا تريد أن تقول شيئًا عن مصير الشاعر (ساحل) وحالته النفسية وغيرها من المشاعر والاحباطات التي تصادف الشاعر في خسارته وإنكسار الروح في الجسد . وللعلم أن معظم أفلام المخرج"بهمن غوبادي" تحمل أسماء حيوانات مثل " زمن للخيول المخمورة – في عام 2000"، وفيلم "السلاحف تستطيع الطيران – 2002في عام"، وكذالك فيلم "لا أحد يعرف شيئا عن القطط الفارسية – 2009"، وأخيراً فيلم "موسم وحيد القرن".
في المشهد الختامي الذي كان قصيدة شعرية بحد ذاته ، وفيه أفضى المخرج المبدع غوبادي إلى أرض منبسطة متشققة ، مضى فيها الشاعر (ساحل ) إلى حد تداخل البياض الوافد من السماء على هيئة نور خفي ، مع البياض على الأرض، ليظهر البطل يتجه في السير نحو نقطة سوداء تصغر كلما اقترب الشاعر الذي تحول إلى نور لا متناه، وعند الوصول اليها ،يتحول الشاعر (ساحل) في هيئة نقطة سوداء تسير إلى المجهول، وتصغر كلما ابتعد، ربما اراد المخرج أن يشير الى الالم الذي يبقى موشوماً في الروح حتى بعد رحيلها !!. هذا الاستخدام المبهر للتداخل البصري مع التداخل النفسي لشخصية الفيلم وتطويعه لخدمة تكوين الصورة الشعرية من خلال الكاميرا هو ابداع وذكاء من المخرج والمصور(توراج أصلاني ) وبراعته في توجيه الكاميرا ، وكذالك قراءة قصائد الشاعر التي عوضت عن صمت الشاعر في أغلب المشاهد التي تلت خروجه من السجن، هذا الصمت الساكن الذي رافق البطل طوال فترة خروجه من الفيلم؛ حيث استعان المخرج بصوت زوجة الشاعر مع الموسيقى تصويرية ، والذي أبدع في صياغة الموسيقى التصويرية للفيلم عازف الكمان الكردي كيهان كلهور . وزوجته (مينا) تقرأ قصائده، وقد رافقت تلك القراءة كافة أحداث الفيلم، إلى أن تفاجأنا بأنها تعمل في توشيم قصائد زوجها على أجساد الناس في تركيا، كعمل تكسب منه لقمة العيش . عمل المخرج المبدع غوبادي على الاضاءة والتي أرتكز عليها في الصياغة الشعرية للفيلم بحيث اصبحت أساسية في إيصال الفكرة الى المشاهد وافراز حالات الشاعر النفسية وكشف حالة الاستلاب الروحي . فى هذا الفيلم وإن كان البطل كرديا أيضا، إلا أنه يعبر عن مأساة الإنسان عموما، وعلاقته الملتبسة مع السلطة، وهمجية الديكتاتورية وتدخلها السافر فى حياة البشر، يحفل الفيلم بالعديد من المشاهد السريالية، والتى أتت للتعبير عما يدور بداخل روح الشاعر، من تساؤلات وانفعالات وانكسارات. يُوكِل قُبادي إلى الممثّل الإيرانيّ بهروز وسوقي دورَ الشاعر ساحل فارزان، وإلى الممثّلة الإيطاليّة مونيكا بيلوتشي دور زوجته مينا دارخشتاني، كما تؤدّي التركيّة بيرين سات دور ابنة مينا . وجود الممثل الكبير (بهروز وسوغي) بدور ساحل كان له الأثر الأبرز في الفيلم فملامحه الهادئة والباردة كانت متناسبة بشكل كبير مع طبيعة أجواء الفيلم، كما أن اختيار الممثلة الايطالية(مونيكا بيلوتشي) لهذا الدور الجديد عليها كليا بعد أن عرفت بادوار الكوميديا والإثارة أعطى حيوية للفيلم كون بيلوتشي تمتلك ملامح شرقية متميزة، ولا ننسى الدور الكبير الذي لعبه الممثل والمخرج التركي (يلماز اردوغان) والنجمة التركية (بيرين سات) وغيرهم ، اختار جوبادي الممثلة الإيطالية الفاتنة مونيكا بيلوتشي لتؤدي دور’’مينا’’ وجعلها تتدرب لتتقن اللغة الفارسية ، وفي الحقيقة أنها قدمت آداء مؤثر ورائع جدا ، وعن مشاركتها في هذا الفيلم تقول مونيكا: إنها لم تعتقد يومًا أنها ستعمل مع مخرج إيراني وستتحدث الفارسية ، وتستكمل حديثها عن الفيلم قائلة: " فالمرأة في هذا الفيلم هي امرأة فقدت كل شيء، وعندما يسألني المحيطين عن كيف بإمكاني أن أتفهم شخصية بعيدة كل البعد عني كهذه، أقول لهم: إنني أتيت من بلادٍ كان الرجل بإمكانه أن يقتل زوجته، دون أن يذهب إلى السجن حتى 60 عامًا مضت، ومن ثقافة تعتقد أن العذرية هي أمر حتمي للزواج، ولذلك فإني أتفهم جيدًا مأساة مينا". يُعد موسم وحيد القرن الذي تم إنتاجه في تركيا وكردستان أول فيلم روائي طويل يصنع في المنفى للمخرج الإيراني الكردي البارز بهمن غبادي ، تم تصوير موسم وحيد القرن في العراق وتركيا الممثلون: بهروز فوسوغي ، مونيكا بيلوتشي ، يلماز أردوغان ، المخرج وكاتب السيناريو والمنتج، بهمن غبادي والموسيقى " كيهان كالهور" . أحتفى بالفيلم بشكل ملقت ولاقى ترحبياً كبيراً عند عرضه في الكثير من المهرجانات والفعاليات السينمائية في العالم لطريقته الشعرية في الاخراج والتنفيذ والتصوير حيث طغى على العدسة الألوان القاتمة التي تكشف لنا مأساة الشاعر وسنين عمره الذي ضاعت ظلماً. في فيلم (موسم وحيد القرن ) أو موسم الكركدن ، جرى التركيز على إيماءات الجسد وتعابير الوجه من خلال الشخصية المحورية "ساحل فرزان" التي أبدع في دوره الممثل "بهروز فوسوغي" الذي انقطع عن التمثيل لحقبة طويلة وعاد بحضور قوي في الفيلم الأخير. قال غوبادي "إن قصة الساحل كانت في الواقع قصة ثلاث شخصيات حقيقية مختلفة ، قبل سبع سنوات ، التقيت ... فوسوغي في لوس أنجلوس. لقد كان بطلي في إيران قبل 35 عامًا ، لكنه غادر إيران بعد الثورة الإسلامية. أخبرته أنني أريد تصوير فيلم عنه. لذا فإن هذا الفيلم يدور حول حياته وحياتي وحياة شاعر كردي" . بهروز فوسوغي ، النجم الإيراني الذي يعيش في المنفى منذ عام 1977 يقول غبادي عنه "لقد كان بطلي منذ أن كنت طفلاً" ، ولقد وعدته بأن نصنع فيلمًا معًا ، فيلمًا سياسيًا عن كل ما يحدث في إيران . أشعر أن قصة هذين الفنانين اندمجت مع قصتي وأسفرت عن فيلم عن الرقابة والسجن والنفي ".
في الختام : الفيلم لوحة فنية متحركة، قصة حياة شاعر عظيم ناضل ضد أنظمة الظلام والعنف والديكتاتورية ، وفيه تتحول القصة إلى قصيدة، فتتحول القصيدة إلى فيلم سينمائي يروي قصة حياة ذلك الشاعر. هذا ما قدمه الفيلم الإيراني - الكردي "موسم وحيد القرن" ، يغرق في رومانسيته الرمزية التراجيدية، على الرغم من أنه مبني على قصة واقعية للشاعر الإيراني الكردي "صادق كامنجار" الذي سجن 30 عاماً وتوهّم الجميع ومن ضمنهم عائلته أنه مات في المعتقل .
علي المسعود
المملكة المتحدة
923 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع