نزار السامرائي
يوميات مسافر على طريق أحمر - ٧
بانتظار قرار الحكم
بعد رحلة طويلة ومتعبة جدا، رجعنا إلى بغداد عبر قاعدة علي السالم، من دون أن نحصل على وعدٍ واضح من الجانب الأمريكي في قاعدة فورت هود، عن الحكم الذي سيصدر عن المحكمة العسكرية في القاعدة المذكورة على العريف الأمريكي بيركنز الذي نفذ فصول الجريمة، على الرغم من أن المحامي شيفرز وزميلته أكدا بصورة قاطعة، بأن بيركنز سيدّان بارتكاب الجريمة، وأن العقوبة تعني طرده من الجيش وحرمانه من حقوقه التقاعدية، وتعميم اسمه على جهات كثيرة لمنع توظيفه، وقالا إن هذه العقوبة تعتبر قاسية جدا بكل المقاييس.
في اليوم التالي غادر مأمون ومروان إلى سامراء على هذا الطريق الذي يحمل ذكرى المأساة، بعد أن استراحا من عناء سفر متصل، وكنت أتلقى مكالمات هاتفية من داخل العراق ومن خارجه عن نتيجة المعركة القانونية التي دخلناها، وكالعادة في مثل هذه الظروف كنا نُواجه كثيرا من الأسئلة عما حصل خلال سفرتنا للولايات المتحدة، حينما كنا نجيب بأن الجلسة كانت للتحقيق وليس لمحاكمة المتهمين، كانت تعليقات المتصلين تُجمع على إبداء الأسى والأسف والدهشة في وقت واحد، ذلك أن التحقيقات قد أخذت وقتا طويلا جدا في قضية واضحة ولا ألغاز فيها أبدا، وكنت اقول لهم هذه تقاليد القضاء فى الدول الغربية، كانوا يُجرون مقارنات بين القضاء العراقي والقضاء الأمريكي فى سرعة الحسم، وبعد أن كنت أوضح ذلك تنتقل الأسئلة للقادم عن التدابير والإجراءات، وفي هذه النقطة بالذات نجد أنفسنا أكثر رغبة من غيرنا في معرفة ما ستؤول الأمور إليه لأننا أصحاب القضية.
اتفقت مع مروان أن يُبلغني بأي اتصال يتم من جانب الأمريكان معه قبل أن يُقدم على أية خطوة غير مدروسة، كنت أظن أن الأمريكان ربما يسعون للتخلص منه لأنه الشاهد الوحيد على جريمة لم يكونوا ليتصوروا أنه سيفلت من الموت، فإن لم يبتلعه ناظم الثرثار ويقذفه مع زيدون إلى الطرف الآخر، فإن الماء البارد في بداية شهر كانون الثاني/ يناير كافٍ لقتل من ينزل إليه، ولهذا فقد تعمّدت المجموعة التي نفذت الجريمة على البقاء لمدة ساعة تقريبا في حالة مراقبة لموقع الجريمة وإن عن بُعدْ لرصد المشهد وقتل من يتمكن من الخروج منهما.
واصلت حركتي ونشاطي على مستوى الصحف المطبوعة والفضائيات وحيثما أتيحت لي فرصة الحديث عن الجريمة، فقد كنت أطرح المعلومات القديمة وما يستجد من معلوماتٍ، وكنت في حالة انتظار الخطوة التالية.
بعد نحو شهر من عودتنا من فورت هود، اتصل بي السرجنت واتسون وهو مساعد لسينترون وأبلغني بالحضور إلى منطقة المطار لمراجعة السفارة الأمريكية مرة أخرى بهدف الحصول على تأشيرة جديدة لدخول الولايات المتحدة، ولكنني أوضحت أن هذا الطلب لا مبرر له أبدا وأننا نستطيع الذهاب إلى بوابة المنطقة الخضراء قرب جسر الجمهورية، وننتظر هناك لحين مجيئكم وتسلمون أسماءنا لشعبة الاستعلامات، وعندها سنتمكن من إجراء المطلوب بشكل اعتيادي، وأضفت لا معنى أبدا لمجيئنا إلى منطقة المطار ثم العودة مرة أخرى إلى بغداد فهذه رحلة شاقة ولا مبرر لها، وبعد نقاش لم يخل من تباين حاد في وجهات النظر، اقتنع بوجهة نظري، ومن المحتمل أنه لم يبت من تلقاء نفسه بذلك وهذا هو المرجح، وحدد يوم الخميس الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2004 موعدا للذهاب إلى السفارة. اتصلت بمأمون ومروان وطلبت منهما المجيء من سامراء، وكان السفر على الطرق الخارجية الرابطة بين بغداد والمدن الأخرى يحمل من المغامرة والمجازفة الشيء الكثير، بسبب انعدام الأمن على طول تلك الطرق وخاصة طريق بغداد سامراء، بسبب النشاط الذي تُمارسه المقاومة الوطنية المسلحة ضد قوات الاحتلال الأمريكي. كانت فصائل المقاومة تتحرك بمرونة عالية وتنقل نشاطها من مكان إلى آخر، لإرباك الخطط العسكرية الأمريكية المحتلة، وكانت ردود الفعل الانتقامية التي ترد فيها تلك القوات على المواطنين الآمنين المسافرين على الطرق الخارجية، عشوائية وكأنها تريد أن توصل رسالة للمقاومة بأنها ستؤلب المواطنين على المقاومة.
في اليوم المحدد ذهبنا إلى بوابة القصر الجمهوري في كرادة مريم عند جسر الجمهورية، وبعد انتظار طويل نودي بأسمائنا للدخول، وجدنا واتسون بانتظارنا في عربة عسكرية مدرعة، ومضينا معا إلى مبنى السفارة الذي كنا قد جئناه قبل عدة أسابيع للغرض نفسه، كانت المهمة هذه المرة أسهل من السابقة حيث أن السفارة "القنصلية" سبق لها أن ثبتت المعلومات الخاصة بنا في حواسيبها ولم تفعل أكثر من استخراج تلك المعلومات مع تغيير تواريخها.
بعد الانتهاء من هذه المهمة المزعجة حقاً والتي لم نرغب يوما في مراجعة سفارة بلد جاء بقواته عبر آلاف الكيلو مترات تحت لافتة نقل الديمقراطية وإقامة اقتصاد متطور في العراق بحيث أن بوش قال مرة "سأجعل من الحصول على تأشيرة دخول العراق أمنية" هذه الوعود التي اتضح زيفها وأن هذه الدعوة مجرد مسوغ للسيطرة على المنطقة، سألت واتسون عن سينترون فقال إنها أنهت خدمتها وعادت إلى الولايات المتحدة، وأنه شخصيا حل محلها في مهمتها القانونية، وسألته عن موعد السفر فقال إنه لا يعرف وعند توفر أية معلومة عنده سوف يخبرنا قبل وقت كاف من أجل الاستعداد للسفر.
بعد عشرة ايام اتصل بي واتسون وأبلغني بالحضور إلى المطار يوم السبت 4 /12 /2004 لغرض السفر، وعند الساعة الثالثة عصرا كنا عند بوابة القاعدة الجوية العسكرية الأمريكية في المطار، وبعد تكرار الإجراءات الأمنية عند البوابات المتعددة للمطار، وسلمنا حقائبنا لواتسون وجلسنا في صالة الانتظار مع ملاحظتنا بعدم وجود استعدادات حقيقية للسفر، وبعد انتظار طويل قالوا لنا إن السفرة تأجلت حتى الغد، وخيرونا بين المبيت في صالة الانتظار أو العودة إلى المنزل، من الطبيعي أننا اخترنا العودة للمبيت في البيت، وأكد علينا أن نكون في المطار عند الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي أي يوم الأحد 5 /12 وهذا ما حصل، غير أن طائرتنا لم تقلع إلا في التاسعة والربع مساء في حفلات تعذيب كان الأمريكيون يمارسونها معنا بهدف إدخالنا في منطقة الجزع، ولكننا كنا نلقي عليهم دروسا عملية في القدرة على المطاولة والصبر.
بعد أن أقلعت الطائرة وأخذت حركتها اللولبية بالارتفاع فوق منطقة المطار عادت بي الذكرى إلى أيام الشباب عندما كنا نرتقي درجات أجمل مئذنة إسلامية في العالم أي ملوية سامراء، من حيث طبيعة الحركة اللولبية، على كل حال وصلنا الكويت مرة أخرى حوالي العاشرة والنصف مساء، ومن هناك انتقلنا إلى مطار الكويت الدولي، ولكن المشهد السابق تكرر هذه المرة أيضا بكل فصوله وتفاصيله، وعجبت أن بلداً مثل الولايات المتحدة يقع في الخطأ نفسه مرتين وفي غضون خمسة أسابيع، فأية دولة متقدمة في كل شيء وعالية التطور هذه؟ قلت لواتسون لو أن بلداً مثل العراق ارتكب هذا الخطأ الذي وقعتم فيه ماذا كنتم ستقولون عنه وماذا ستطلقون عليه من الأوصاف؟ لم يعطِ جواباً عن السؤال لأنه كان مقتنعا بأن المشكلة سيتم حلها في غضون ساعات، وسنغادر على متن طائرة لاحقة كما حصل في المرة السابقة، ولذا فقد تم نقلنا إلى دار الضيافة في قاعدة الدوحة العسكرية الأمريكية في الكويت، وهذه القاعدة كانت بالأصل ميناءً بحرياً تجارياً كويتيا، وتم تحويله إلى قاعدة بحرية أمريكية.
استمرت الاتصالات خلال الليل مع السلطات الكويتية والتي كررت حجتها السابقة بأننا دخلنا الأراضي الكويتية بصورة غير مشروعة، وكأننا كنا نرغب بدخولها بأية صورة من الصور، أو كأن هذه السلطات تمسك بحدود الكويت من أطرافها، ولما وصلت الاتصالات إلى طريق مسدود، أبلغنا واتسون بأن السلطات الكويتية أبلغته بضرورة مغادرتنا الكويت فورا، من أجل ذلك تم نقلنا من القاعدة البحرية في الدوحة إلى قاعدة علي السالم الجوية وتم وضعنا تحت حراسة على وفق ما زعموا، وقابلنا آمر القاعدة وهو ضابط برتبة عقيد وطمأننا على سلامتنا، قال لنا بأنهم حريصون على التحفظ علينا لحمايتنا من الكويتيين لأنهم يعرفون نواياهم تجاه كل عراقي، فأبدينا استغرابنا من هذا الطرح من ضابط جاء إلى المنطقة للدفاع عن الكويت نفسها، ليس لأننا نعجب من عُقَدِ الكويتيين تجاه كل من هو اكبر منهم حتى في أسوأ ظروفه، وإنما لأننا سنكون في حماية أمريكية على حد زعمهم من عرب لم نشعر بخوف منهم في أي ظرف من الظروف، ومهما لوثت السياسة المشاعر والعقول، فهل يكون مَنْ قتل العراقيين ودمر كيان دولتهم بل وقتل ابنهم بتلك الطريقة التي لا ترد على بال إنسان سوي، أن يحرص على حياة أبيه وعمه بل وعلى من ألقي معه في اليم؟
أمر العقيد بترتيب غرفة نوم فجلبوا لنا ثلاثة أسرة على عجل، وكان سؤالنا الملّح، هل يصح لبلدٍ مثل الولايات المتحدة والذي يطرح نفسه أعلى قمة في التطور والتقدم الإنساني والعلمي والسياسي والقانوني، أن يكرر هذا الخطأ الكبير في قضية صغيرة بهذا المستوى، ولماذا لم تستفد السلطة المختصة من تجربة منعنا في المرة السابقة ولم تمضِ عليه إلا خمسة أسابيع؟ الكويت أرادت أن تستعرض معنا أهميتها وتمنع دخولنا إلى أراضيها في المرة السابقة وبعد تدخل قائد القيادة المركزية الأمريكية تم السماح لنا بالمغادرة إلى أمريكا، فما بال السلطة نفسها ترتكب نفس الخطأ مع نفس الجهة في غضون خمسة أسابيع؟ ترى ماذا كان سيقول الأمريكيون؟ بلدٌ فيه أهم مراكز الدراسات الاستراتيجية وبلدٌ يمتلك أكثر جامعات العالم تطورا وبلدُ أجهزة الكومبيوتر الأكثر تعقيدا وتطورا، لو أن بلداً عربيا كرر هذا الخطأ؟ ألا يعتبرونه فضيحة تنم عن غباء مستحكم ومركب؟ وينم عن بداوة وتخلف؟ أم أنهم سيعتبرونه سهوا يمكن أن يقع فيه الجميع؟ نعم هذه أمريكا عارية بالتجربة الميدانية الصغيرة، تم إشعارنا بأننا سنعود إلى بغداد بانتظار فرصة أخرى للسفر.
على العموم في الثانية والنصف من يوم الاثنين 6/ 12 أقلعت بنا الطائرة عائدة إلى بغداد ووصلناها في الرابعة وخمس دقائق، وكان طبيعيا أن تؤجل الجلسة مرة أخرى لحين جلب شهود حق الادعاء الشخصي.
رجعنا إلى بغداد ولم يبلغنا الأمريكيون عن موعد سفرنا البديل وإن قالوا لنا سنتصل بكم في وقت لاحق لإبلاغكم بالموعد، وطلبتُ منهم أن يتم الاتصال بنا قبل ثلاثة أيام كي تتاح لنا الفرصة للتهيؤ للسفر لاسيما وأن مأمون ومروان يسكنان في مدينة سامراء التي تبعد عن بغداد بـ125 كيلو مترا، وفي ظل الظروف الأمنية المعقدة وتنقل الأرتال العسكرية الأمريكية على الطرق الخارجية في العراق، وقطعها لمدد طويلة، فلا بد من إبلاغهما قبل وقت مناسب للانتقال إلى بغداد على الطريق نفسه الذي سار عليه مروان وزيدون في اليوم الذي سبق ليلة الجريمة الأمريكية.
ويوم 24 كانون الأول/ ديسمبر2004 اتصل السرجنت واتسون وطلب منا الحضور إلى نقطة السيطرة الأولى التابعة للمطار، ولم نعلم ما هو المقصود من هذه الخطوة الجديدة ولِمَ الذهاب إلى المطار مرة أخرى خاصة وأن واتسون لم يبلغنا بجلب حقائب السفر، وطالما أننا أصبحنا جزء من هذا المشهد فعلينا أن نذهب به إلى نهايته مهما عانينا من أعباء التحرك وطريقة الأمريكيين في التعامل معنا فلا بدّ من صنعا وإن طال السفر.
عدونا هو الذي يحدد المواعيد لنا على نحو مقرف ولا يخلو من محاولة الإيقاع بنا، إن لم يحصل ذلك بنيران قواته فبنيران المقاومة النشطة على طريق المطار، وبناء على مواعيد يفرضها عدونا نذهب إلى المطار ونعود منه فهو الخصم والحكم، ليس في جريمة قتل زيدون فقط وإنما في جريمة قتل مشروع العراق النهضوي الكبير، وكانت معاناتنا عند المرور على طريق الموت تتكرر وبصورة مؤلمة كلما ترافقت مع مشاعر البغضاء لجنود يرتهنوننا كدروع بشرية لحمايتهم أو لقتلنا معهم في حال لم نوفر لهم الأمن في طريق محفوف بكل الأخطار المحتملة وغير المتوقعة، ومع كل متر نجتازه ونشعر فيه بالطمأنينة تضغط علينا هواجس مئات الأمتار الأخرى بكل ثقلها.
وصلنا وانتظرنا مرة أخرى عند نقطة السيطرة الخارجية للمطار، ثم جاءنا واتسون وأخذنا إلى قصر الفاو الرئاسي الذي تحول إلى مقر القيادة العسكرية للقوات الأمريكية في العراق، كانت السيطرة على القصر بحد ذاتها، كابوسا مرعبا بسبب هذا السطو المركب في معناه المادي والاعتباري، وكنت أشعر بتوتر عصبي حاد كلما فكرت بأن هذا القصر الذي كان رمزا لشموخ العراق وانتصاره في الحرب مع إيران وحصرا رمز انتصار في معركة الفاو الذي حطمت آمال إيران في كسبها.
مع ذلك كنت أفكر مع نفسي ماذا لو سبقت قطعان الغوغاء وزحفت على هذا القصر قبل احتلال القوات الأمريكية له، وفعلوا به ما فعلوه في القصر الجمهوري في كرادة مريم وسائر الأبنية الحكومية التي سرقوا منها كل ما يمكن سرقته وما لم يتمكنوا منه أتلفوه بوسائل اشتهر بها أعداء التاريخ والحضارة الذين سكنوا بلاد ما بين النهرين "ميزوبيتاميا" ونقلوا إليه تقاليدهم وأخلاقهم وقيمهم التي جاءوا بها من أوطانهم القديمة، وبدلا من العيش بسلام في أرض السواد نقموا عليها وعلى شعبها، لأنهم من مجتمعات همجية في غاية التخلف وعندما يعجز شعب من الشعوب أو قبيلة من القبائل عن التعايش مع الانجازات الحديثة، فلا مناص من التآمر عليها وإزالتها من جذورها إن أمكن.
هؤلاء الذين استوطنوا العراق بحثا عن الخبز، لم يحبوا ماءه وهواءه فعملوا فيه كل منكر وخراب ودمار، فهل تستحق القوات الأمريكية منّا قليلا من الثناء لأنها احتلت القصر في أولى ساعات دخولها إلى بغداد؟ ووفرت له الحماية كي تتخذه مقرا لها على الرغم من أنها دمرت بلدا بكامله؟ هذا هو المحال.
هنا برزت أمام ذاكرتي التي أتعبها حب العراق وامتلكها بجدارة، حكاية قديمة من أيام الحرب العالمية الثانية، فبعد أن احتل الألمان باريس في نزهة سريعة، سارع المارشال فيليب بيتان بإعلان حكومة فيشي تحت الاحتلال الألماني، وحاول أن يبرر لنفسه اصطفافه الذليل مع قوات الاحتلال النازية بزعمه أنه خاف على باريس الجميلة وموجوداتها الحضارية من التدمير، فضحى بسمعته من أجل عظمة فرنسا، وتساءلت مع نفسي هل يمكن الفصل بين الشرف الشخصي والشرف الوطني؟ أي بمعنى أن خونة فرنسا لهم شرف وطني وحرص على بلادهم من عبث المحتلين في موجوداتها الثقافية والحضارية ومتحف اللوفر ومقتنياته من المآثر الفنية وبقية المتاحف الفنية والتاريخية و التي تزخر بها مدينة باريس، وقصر فرساي ومتحف نابليون وغيرها من الآثار؟ أم أن هذه الادعاءات التي طرحت لاحقا، كان الهدف منها تبييض سمعة من خان فرنسا وتعاون مع الألمان؟ بعد عدة عقود من حصول تلك الواقعة، وكأن من أراد الخروج بها على الملأ سعى للقول بأن فرنسا لم تنتج خونة و نفوسا مريضة وعقولا مستعدة لمد اليد للعدو؟
هل في العراق من بيتان واحد كان على استعداد للتضحية بسمعته من أجل الحفاظ على مصانعه ومنشآته التي أنفق عليها أموالا طائلة وجهدا استثنائيا وعرق أبنائه عبر السنين؟ أو على المتحف العراقي الذي يحكي قصة الحضارات التي تعاقبت على أرض الرافدين منذ سبعة آلاف سنة؟ أو المتاحف الفنية الحديثة التي نشرها الحكم الوطني في عموم مدن العراق، حتى تحولت بغداد إلى أعظم مشروع حضاري نهضوي وفني كبير تحت الشمس؟
على العكس من ذلك فإن من غزا العراق ومن مهدّ له الطرق للوصول إلى مدنه كان يحمل موروثا من الحقد التاريخي والاقتصادي والفني على كل شيء جميل في العراق، فتحركت معاولُ خونةِ الداخل لتحرق المكتبات العامة ومركز الوثائق العراقي الذي كان بمثابة ذاكرة عراقية حية، ولتدمر المنشآت الصناعية والطبية والأسواق المركزية "السوبر ماركت" ولتسطو على كل مؤسسات الدولة ومعسكراتها، وحتى الآثار القديمة في المتاحف تم العبث بها وتدمير كثير منها وسرقتها بهدف تهريبها إلى الخارج، وفُقدت الآلاف من اللوحات الفنية الثمينة من متاحفها، ومن أجل التغطية على جرائمها أحرقت الأبنية، ثم انتقلت العقول المريضة والضمائر الميتة والنفوس الحاقدة إلى النصب والتماثيل في مختلف المدن العراقية فأزالتها بالجرافات تنفيسا عن عقد مزمنة لم تشفها كل عمليات البناء الثقافي والتعليمي والعلمي الذي شهده العراق قبل الاحتلال.
ومع كل ذلك أُجزم بأن الفصل بين الشرف الشخصي والشرف الوطني في غاية الاستحالة ولا يعدو عن كونه محاولة بائسة لتلقين الحمار النطق أو تعليم السمك المشي على الرمال، فالخيانة واحدة وقد أكدت تجربة غزو العراق واحتلاله أن خونة الداخل كانوا أكثر إيذاء للعراق من كل جحافل الأعداء الخارجيين، فلا أحد منهم على الاطلاق برئ من جريمة تدمير العراق والإساءة إلى كرامته وسمعته، عندما اصطف الآلاف من الغوغاء والمخربين في شوارع بغداد وهم يحملون على ظهورهم أي شيء قابل للسرقة من أي مكان عام.
كما أن كل من تسلم مسؤولية وظيفية بعد الاحتلال، جاء من أجل استكمال تدمير العراق ولتحقيق ما قاله جيمس بيكر للأستاذ طارق عزيز، إن أمريكا ستعيد العراق إلى عصر ما قبل الصناعة، وهذا ما تحقق فعلا.
المهم كان سبب تبليغنا بالحضور إلى قصر الفاو هو لمجرد إبلاغنا بأن موعد سفرنا الجديد إلى الولايات المتحدة قد تقرر في يوم الثلاثاء 28 /12 /2004، ألهذا استدعيتمونا إلى المطار؟ ألم يكن ممكنا تبليغنا هاتفيا؟ تساءلنا عن ذلك بسخط ظهرت علاماته على وجوهنا، ولكن جوابا لم يصل أبدا، ورأيت أن سلوك الأمريكيين هذا يهدف إلى إصابتنا بالملل والسأم من الانتظار الطويل.
يوم الثلاثاء 28/ 12 لم يبق من عمر العام الميلادي 2004 سوى ثلاثة أيام، ثم نودع عاما ذاق فيه العراقيون مرارات متلاحقة لم يذوقوا أمرّ منها من قبل، ولكنهم قد يذوقون ما هو أمرّ منها في قابل الأيام والأشهر والسنين، فبلدُنا مكتوبٌ عليه ألا يستقرَ ولا يذوق طعم الطمأنينة والأمن، وكأن هذه البقعة من الأرض اختيرتْ لاختبار صبر من يسكن فيها وجلدهم، ولهذا يسأل كثير من العراقيين "هل هي إرادة الله سبحانه أم إرادة شر اجتمعت عليه قوى دولية التقت مصالحها مع دول الجوار الشرقي والجنوبي على منع العراق من الاستقرار والراحة"؟ ولأن هؤلاء الأغراب استطاعوا شراء ذمم قوى محلية وضمائر أصحابها بثمنٍ بخس، فتحولوا إلى أدوات بيد الشيطان، وتنطق بأصوات سادتها، وأذرعٍ يحركها أولياءُ نعمتها كما يريدون لتدمير كل ما يُبنى في بلدهم.
وفي هذا العام كانت الفلوجة "جوهرة العمل العراقي المسلح المقاوم للاحتلال الأمريكي، قد شهدت في العام الثاني للاحتلال أي 2004، معركتين ضاريتين الأولى من 4 نيسان إلى 1 أيار/ مايو، والثانية من 7 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 23 كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام"، وسجل العراقيون أثناءها، أن الحزب الإسلامي الشريك الرقمي في العملية السياسية التي صممها الأمريكيون، أراد أن يتاجر بدماء أبناء المدن السنية للحصول على دور أكبر ومغانم اضافية لأنه كان منبوذا من الوسط الذي يزعم أنه يمثله، بل وحتى التحالف الشيعي يحتقره ويعتبر سلوكه نفاقا سياسيا رخيصا، أما المحتلون فهم يتعاملون مع من يتعاون معهم لاحتلال بلدانهم كبائعات الهوى تكتفي واحدتهن بثمن ليلة ماجنة.
ولتحقيق هذه الصفقة السيئة تم تكليف حاجم الحسني القيادي في الحزب المذكور، كوسيط بين أهالي مدينة الفلوجة وقوات الاحتلال، بعد أن وصل قادة القوات الأمريكية إلى استنتاج بأنهم يواجهون مدينة لا تنحني لأحد إلا أثناء الصلاة، وفعلا تحرك في المعركة الأولى وخذل الفلوجة وتسبب بخسائر هائلة لحقت بالمدنيين فيها وألحق بها دمارا مريعا.
استخدمت الولايات المتحدة في المعركتين، كل ما في ترسانتها من وسائل القتل ورسل الموت، ولكن الفلوجة كعادة رجالها، استبسلت ولقنت الأمريكيين دروسا مؤلمة وكبدت قواتها خسائر كبرى بعد هزائم منكرة ومريرة ستبقى مرارتها تحت ألسنتهم إلى الأبد وتذكرهم بتجربة هزيمتهم في هانوي قبيل رحيلهم الذليل من هناك.
لم يكن قادة جيش الاحتلال ليتصوروا يوما أن تواجههم مدينة الفلوجة بهذه الشجاعة، ومن دون أن تلقى إسنادا خارجيا لا من شقيق عربي ولا من صديق أجنبي، فما جرى في الفلوجة كان معارك شوارع من حي إلى حي ومن بيت إلى بيت بل ومن غرفة إلى أخرى، وما زال الأمريكان يتذكرون بمرارة وألم وحسرة، حي نزّال والحي الصناعي وحي الشهداء والحي العسكري، التي طال أمد القتال اياما بلياليها حتى اصطبغت شوارعها بلون الدم وتناثرت جثامين الشهداء التي تم دفنها في الحدائق المنزلية أو العامة، وجثث قتلى الغزاة من دون أن يجرؤ زملاؤهم على إخلائها.
قبل انطلاقة المعركة ظنت قيادة القوات الأمريكية أن الفلوجة لن تحتاج إلى أكثر من فوج من قوات المارينز، ولا إلى أكثر من ساعة لتلتهمها لقمة واحدة، ولما استعصت عليها لم تترك سلاحا محرما في القوانين الدولية إلا وجربته على رؤوس أبنائها، وكانت صور المعارك تنقل لنا صور قنابل الفوسفور الأبيض المحرم دوليا، الذي لم تتردد الولايات المحتدة عن استخدامه لقهر إرادة رجال المقاومة في الفلوجة في أبشع ما تكون وحشية المحتلين، وسيبقى العراقيون يذكرون أن معركتي الفلوجة الأولى والثانية قد تم تسجيلهما باسم إياد علاوي رئيس الوزراء الذي عينته سلطة بول بريمر بهذا المنصب، والذي تحملت حكومته وزرهما، على الرغم من أن تلك الحكومة ليست أكثر من ساعي بريد صغير في مكتب بريمر.
لم يسأل أحد من المراقبين الدوليين نفسه، عما كانت هذه الأسلحة المحرمة، محرمة على الولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى التي صاغت القوانين على مقاساتها وفرضتها على الغير؟ أم أنها محرمة على الدول الصغيرة فقط والتي لا تستطيع حتى إبداء رأي في المحافل الدولية أثناء التصويت على تشريع القوانين المحددة لسلوكها فقط؟ أم أن في القتل سلاحا نظيفا وآخر محرم؟
كما شهدت مدن عراقية أخرى معارك كثيرة وبدرجات متفاوتة من الضراوة، فقد هاجم الأمريكيون مدينة سامراء في الأول من تشرين الأول/أكتوبر من عدة محاور وأطبقوا عليها وبعد معارك شرسة مع رجال المقاومة الوطنية تمكنوا من الوصول إلى مركز المدينة أي في منطقة المزار، وفي ذلك العام شهدت مدينة النجف عام 2004 أيضا معركة من نوع آخر بين أطراف شيعية متنازعة فيما بينها، في حينها تضاربت أسباب اندلاع المعارك، فقد ذكرت عناصر محسوبة على جماعة الحكيم "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي أسسه محمد باقر الحكيم في طهران في تشرين الثاني عام 1982"، أن نزاعا نشب من أجل السيطرة على خزائن مرقد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومفاتيح المزار للسيطرة على المداخيل اليومية التي تضخ في الضريح، من أجل إزاحة أي طرف شيعي يسعى للاستحواذ على هذه الثروة الكبيرة، وقد اتهَمَ المجلس الأعلى، التيار الصدري بإثارة الأزمة التي أدت إلى سفك دماء كثيرة، ولأن عبد العزيز الحكيم كان عضوا في مجلس الحكم الانتقالي ومقرباً من الأمريكان، فقد انحاز الأمريكيون ومعهم حكومة إياد علاوي إلى جانب المجلس الأعلى، ودفعَ أبناءُ النجف ثمن صراع مفاتيح المزارات وخزائن الضريح المليئة بالمقتنيات الثمينة بل لا تقدر بثمن، ولعل معركة النجف هي الصفحة الوحيدة التي يتاجر بها شيعة السلطة ويحاولون تصويرها على أنها مقاومة للاحتلال الأمريكي.
وفي عام 2004 شهدت سجون الاحتلال الأمريكي وخاصة سجن أبو غريب، انتهاكات مروعة ومورس فيها أسوأ أساليب التعذيب الجسدي والنفسي بأوامر منهجية من الرئيس الأمريكي جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، ولو لم تعرض في شبكة سي بي إس الأمريكية يوم 28 نيسان 2004، تفاصيل تلك الانتهاكات لبقيت تلك الوقائع طي النسيان، ولبقيّت أطراف العملية السياسية تدافع عن إنسانية المحتلين ووحشية العراقيين الذين يتصدون لهم.
وألحقت هذه الفضيحة أذى كبيرا بسمعة الولايات المتحدة، دفعت وسائل الإعلام الأمريكية لمتابعة ملف حقوق الإنسان في سجون القوات الأمريكية في بوكا وكذلك معتقل غوانتانامو في القاعدة البحرية الأمريكية في كوبا.
كنت أراقب الأحداث عن كثب وأغطي بعضها من خلال عملي الصحفي وظهوري على بعض الفضائيات العربية أو الناطقة بالعربية كمحلل سياسي، مع أنني كنت أنتظر موعد السفر إلى الولايات المتحدة لمتابعة ملف الشهيد زيدون.
وأخيرا جاء يوم السفر إلى أمريكا في الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2004، فأخذنا سيارة إلى المطار، وكانت في كل مرة تتجدد مشاعر القلق عند جميع أفراد عائلاتنا والأقارب في بغداد وسامراء، وتتجدد مخاوفهم من احتمالات الغدر الأمريكي بنا، لأن التجارب السابقة لا تدع مجالا للاطمئنان بين الغازي وابن البلد، كنت أطمئن الجميع وأحكي لهم قصصا عن حسن معاملتهم لنا خلال مراحل التحقيق والسفر بل وكنت أبالغ في ذلك لمجرد بث روح من الأمل بحسن الخاتمة، طبعا كنت أقرأ في عيون الجميع شكاً بما أقول.
عند منتصف نهار يوم 28 كانون الأول 2004 كنا عند (جيك بوينت 1) في المطار، أنزلنا حقائب السفر وبدأ الكلب الأمريكي المدرب يؤدي دوره ويدور حول السيارة من دون توقف، وصلنا المقطع الثاني وفيه تفتيش من قبل أفراد (الحرس الوطني وهي قوة عراقية هزيلة شكّلها المحتلون لتكون لهم قفازا يضربون به العراقيين متى أرادوا) وتم التفتيش بآلية بليدة، شعرنا عندها أن كل شيء قد تم بسرعة حرصت على أن تبدو الإجراءات الأمنية مستوفية لشروطها الشكلية.
عند اجتيازنا لآخر نقطة سيطرة وجدنا واتسون بانتظارنا، تسلم حقائبنا وركبنا السيارة العسكرية الأمريكية المدرعة والتي أصبحت هدفاً ثمينا لرجال المقاومة العراقية الوطنية المسلحة، وعندما وصلنا قاعة الانتظار، وجدنا المئات من الجنود الأمريكان وهم يغطون في سبات عميق، منهم من استلقى على ما متوفر من كراسٍ ومنهم من ألقى بنفسه فوق حقائبه ومنهم من افترش الأرض وقليل منهم من وجد سريراً، يا لها من فرصة سانحة لحصاد عظيم لو أن قذيفة أو صاروخاً يسقط وسط هذه الجموع من القتلة والذين يُمكن رؤية دم العراقيين يقطر من بين أصابعهم، ولكن قليلا منهم من يشعر بتأنيب ضمير أو أسف لما ارتكب من جرائم، ونحن في هذه الخواطر والأفكار وإذا بالسرجنت واتسون يبلغنا بأن السفرة تأجلت إلى الغد، وبدم بارد كما يقتل الأمريكيون ضحاياهم قال لنا عودوا إلى بيتكم وتعالوا غدا صباحا، هنا تصطك المشاعر مع بعضها بقوة وتبعث أنينا مكبوتا لهذه الاستهانة بقيمة الإنسان والوقت، لم يعتذر عن هذا التأخير ولو أنه غير مسؤول عنه، لكننا افترضنا أن الأمريكي يحمل قليلا من الذوق وكثيرا من الوقاحة كي يكلف نفسه عناء الاعتذار، ولكن كيف جاز لي أن أفكر بهذا الأمريكي وهو الذي حمل آخر ما في ماكنته الحربية من أسلحة دمار ليجربها فوق رؤوس العراقيين، من دون احتجاج أو اعتراض أو حتى نقد من المنظمات المعنية ولو على استحياء، فأمريكا وضعت نفسها فوق القانون الدولي وفوق ميثاق الأمم المتحدة وفوق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفوق كل أجهزة الإعلام في العالم، وتعايش الأمريكي مع هذه الفرضية الساذجة واعتبرها حقا مقدسا له ليس من حق أحد أن ينازعه به.
كان علينا هذا اليوم أن نجتاز طريق المطار مَرّتين إضافيتين، ولهذا غادرنا المطار واتصلنا بالمنزل كي تحضر السيارة لأخذنا لعدم توفر وسائط نقل عامة تعمل بين المطار ومدينة بغداد، ولم يطل انتظارنا فقد حضرت زوجتي من دون تعب أو تذمر، وأعادتنا إلى المنزل على أمل العودة إلى المطار في الغد وهذا ما كان، وفي اليوم التالي أي يوم الأربعاء 29 /12 تكرر الانتظار عند نقاط التفتيش ولكن بصورة أسرع مما حصل بالأمس ولم نتأخر لتفتيشها من قبل الكلاب المدربة، فالحقائب بقيت في المطار، وربما حصل الأمريكيون على اطمئنان أكبر عن محتوياتها، وربما كان الهدف التعرف على ما في الحقائب من محتويات من خلال مضي الوقت من غير أن يحصل فيها انفجار مفاجئ، ومضينا إلى نفس الأماكن التي كنا قد مررنا بها قبل أربع وعشرين ساعة.
لا أحد يعرف موعد إقلاع الطائرة، والجنود الذين ألقوا بأنفسهم بهذه الطريقة فوق الأرائك وعلى الأرض لو لم يكونوا قد وصلوا إلى الحد الأخير من طاقتهم في مواجهة الموت والخوف منه، هو ما منعهم من النوم أياما وليالي، إذ كانت لحظة نوم واحدة تساوي العمر كله، نحن أكثر الناس طمأنينة وسط هذا الحشد المرتعب، كنا نتلفت وندعو بضراعة مع استعداد حقيقي لكل أسباب القوة لمواجهة قوات الغزو، ولم نكن نمتلك حقداً على واحد من هؤلاء الجنود كأشخاص ولكنهم كمشروع عدواني يستحقون كل ما يلحق بهم، هؤلاء الجنود الذين نعرف أنهم لم يأتوا من تلقاء أنفسهم وإنما بموجب أوامر قيادتهم العليا، لم يكن دعاؤنا مجردا من أدوات الفعل الميداني أن يزداد عدد قتلى مَنْ عبرَ المحيطات والبحار، ليقتل العراقيين ويدّمر بلدهم استجابة لأكاذيب خونة من حملة جنسيته ولم يحترمهم أحد لا الأمس ولا اليوم ولا غدا، وسيرجمهم الناس كما يرجم الحجيج موضع أبي رغال.
الطائرة ستقلع في الواحدة والنصف، هكذا قال واتسون، وقف البعض وظل كثيرون نياماً، فالطائرات العسكرية الأمريكية تقلع من مطار بغداد باتجاهات مختلفة، ولكن الموعد تأجل إلى الثانية والنصف بعد الظهر، ولكنها لم تقلع إلا في الثالثة والنصف.
هزت أربعة انفجارات متوسطة منطقة المطار المترامية الأطراف، من دون أن نتبين المكان الذي سقطت به القذائف أو ما هي طبيعتها وما تركته من آثار ولكن الأثر النفسي الذي يتركه أي انفجار في منطقة عسكرية أمريكية يفوق كثيرا حجم الخسائر المادية التي يُخلّفها، بدأنا التوجه إلى الطائرة المتوجهة إلى عمان هذه المرة بعد تجربتين مُرّتين مع الكويت، بدأت الطائرة تتحرك على مدرج الإقلاع توقفت عن الحركة فجأة من دون سبب، ثم دوى انفجار هائل أوشك أن يقتلع الطائرة الضخمة وهي من طراز C130 عن المدرج، ثم سارعت للإقلاع بسرعة استثنائية خشية من تعرضها لضربة مباشرة، وإذا بعمود دخان أسود يرتفع في السماء وكأنه ثمرة الفطر، وبدأت طيرانها اللولبي فوق المطار ثم أفلتت من جاذبيته باتجاه الغرب، أحسسنا أننا نقترب رويدا من الفلوجة لأن الطائرة أخذت ترتفع بصورة غير متوقعة وغير معهودة ولأن الضغط داخل الطائرة يتأثر بالخارج، فقد ظهر تأثير الصعود والهبوط واضحا على آذاننا، كل الذي حصل للطائرة أن قائدها ربما وصله من مركز السيطرة الأرضية إنذار بأن الخطر على الطائرة لا يقتصر على الأرض أو في منطقة المطار وإنما فوق سماء الفلوجة، نعم الفلوجة التي مزقت أرتال الجيش الأمريكي وأوصلته إلى سن اليأس المبكر، وأوشكت أن تدّمر حلمهم إلى الأبد لولا خيانة ما يسمى بـ"الصحوات" التي أسستها عقول عفنة رضيت لنفسها الحصول على فتات موائد الخط الأول من العملاء، ومع كل الحزن الذي يعتصرنا ونحن نذهب لمتابعة قضية زيدون، ومع كل ما يرافق العسكريين الأمريكيين من هلع نكاد نسمع وجيبه من بين الصدور، كنا نشعر بالفخر أن المقاومة العراقية المسلحة اليتيمة من كل دعم أو اسناد من قريب أو بعيد، كانت تُدخلُ في قلوب جنود أقوى قوة عسكرية عرفها تاريخ البشرية، كل هذا الفزع والهلع.
والطائرة تحلق عاليا وفي خطوة قلقة جاء جندي يحمل مصباحا يدويا بعد أن نقل له الآخرون أن رائحة حريق قد شمها بعضهم في الأسلاك الكهربائية المخفية وراء جدرانها، وبعد فحص دقيق أعطى إشارة الاطمئنان للركاب .
متى تنتهي متاعبنا نحن الباحثين عن الحقيقة والعدالة في بلد الظلم؟
بعد رحلة استغرقت ساعتين بدأت الطائرة بالهبوط في مطار ماركا في عمّان عاصمة الأردن، وبعد أن استقرت بنا الطائرة وانتقلنا إلى الصالة بدأت عمليات تفتيش الحقائب المرافقة، شك أحد رجال الكمارك الأردنية بأن أحد الجنود الأمريكيين يحمل في حقائبه ما يريب، فأمره بفتحها وإذا به يحمل الكثير من القطع النحاسية أو المذهبة من قصر الفاو، ولم يكن هذا الجندي وحده من يحمل مثل هذه القطع ولكنه كان أكثرهم جشعا وطمعا، وبعد مداولات واتصالات تمت تسوية الأمر، ثم وجدنا شخصا أردنيا يعمل مستخدما محليا في السفارة الأمريكية في عمان بانتظارنا وهو يحمل لافتة كتبت عليها أسماؤنا باللغة الإنكليزية، وأخذنا إلى فندق قريب من مطار الملكة علياء الدولي والذي يبعد عن مطار ماركا بعدة كيلو مترات، وربما تعود ملكية الفندق لشركة الخطوط الملكية الأردنية، وتوزعنا على الغرف وبعد استراحة قصيرة وأخذ حمام ساخن نزلنا إلى المطعم لتناول طعام العشاء، كان علينا أن نبيت ليلتنا مبكرين كي ننهض مبكرين، فالسيارة ستحضر في الثامنة صباحا والطائرة ستقلع في العاشرة والدقيقة الأربعين من يوم الخميس 30 /12 باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
استيقظنا مبكرين ومضينا إلى المطعم لتناول طعام الفطور بعد أن حزمنا حقائبنا، وجاءتنا السيارة في الثامنة صباحا ومضينا إلى مطار الملكة علياء الدولي على أمل أن تقلع بنا طائرة الخطوط الجوية الملكية الأردنية في الساعة العاشرة والدقيقة الأربعين، ولكننا علمنا بأن موعد إقلاع الطائرة قد تأخر ساعة واحدة على الأقل على عادة كل خطوط العالم الثالث الجوية من دون إبداء الأسباب.
في مواضع كثيرة من المطار شاهدت طائرات الخطوط الجوية العراقية ذات اللون الأخضر جاثمة على أرض المطار وكان العراق قد أخرجها من أراضيه قبيل العدوان الأمريكي البريطاني الثلاثيني عام 1991 ولكنها بالنتيجة تعرضت للموت البطيء تماما كما لو أنها ضربت بقذيفة قتلتها على الفور، كانت الطائرات كلها من نوع بوينغ ومن حجوم مختلفة فهناك الجامبو وهي طائرة بوينغ 747، وهناك بوينغ 707 وهناك من 737 و727 وهي تحكي قصة مأساة أكثر الخطوط الجوية في العالم أمانا في طيرانها لدقة الصيانة الدورية ومهارة الطيارين العراقيين، ولكنها وقد تحولت محركاتها إلى أعشاش للطيور لا بد أن تستدعي دمعة حزن وألم على ما آل إليه وضعها ووضع العراق بسبب الحصار الاقتصادي الظالم والعدوان الثلاثيني، ومحاولات إذلال العراقيين والنيل من إبائهم وشموخهم ومنع طائرهم الأخضر من التحليق، لم أطل النظر إلى تلك الطائرات الموزعة على المزاغل المفضية إلى مدارج المطار، فلم أرغب برؤية شيء عراقي تعمد الغزاة على إذلاله حتى ولو كانت طائرة مصنوعة في البلد الذي جيّش جيوشه لتدمير اسم العراق وحضارته وتاريخه وحذف اسمه من الخارطة، تحت عنوان نقل الديمقراطية وتطبيق حقوق الإنسان والفدراليات، ذلك المشروع الانفصالي اللئيم الذي يريد تهديم أعلى سياج عربي للأمن القومي وتشتيت قوته، دلفنا إلى صالة المطار وبعد وزن الحقائب والإجراءات الأمنية الدقيقة لفحص محتوياتها بأجهزة السونار، وتأشير تذاكر السفر مضينا إلى كابينة شرطة الجوازات والذين دققوا مطولا في سلامة تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، ولما مررنا عبر البوابة المؤدية إلى الطائرة خضعنا لتفتيش دقيق جدا، فنحن ذاهبون إلى زعيمة العالم الحر والتي كانت ما تزال تعيش أكبر كابوس مرعب في حياتها اسمه الإرهاب الذي تصنفه على أنه عربي إسلامي سني منذ أحداث 11 /9/ 2001، والذي صنعته سياساتها العدوانية على كل شعوب الأرض حتى بات الأمريكي رديفاً للون الدم وعنوانا للتعذيب والقتل وكأنه حادلة تريد سحق كل ما يقف في طريقها، مررنا سريعا إلى الطائرة التي كانت من نوع أير باص 340 بأربعة محركات وهي الطائرة المخصصة للرحلات الطويلة، وفي الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين بتوقيت مكة المكرمة وبغداد تحركت الطائرة نحو مدرج الإقلاع، وبدأ قائدها بقراءة دعاء السفر والذي بعث في النفوس طمأنينة كبيرة والذي يقول (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)، وقال قائد الطائرة إن الرحلة ستستغرق من عمان إلى شيكاغو حوالي أربع عشرة ساعة من دون توقف، ولاحظنا أن الطائرة عبرت فوق فلسطين وفي غضون دقائق شاهدنا الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/maqalat/48426-2021-03-29-11-08-17.html
1466 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع