نزار السامرائي
يوميات مسافر على طريق أحمر - ٦
الخطوة الثامنة ١٤ ساعة في الجو للوصول إلى شيكاغو
السفر من الأردن إلى الولايات المتحدة زمنه طويل جدا ومرهق إلى أبعد الحدود، ومما فاقم من تعبه أن مقاعد الطائرة متقاربة على نحو يبعث على إزعاج وتعب وإرهاق أكثر، وهذا مما لا ينسجم مع طبيعة الرحلات الطويلة من جهة، ونوعية الطائرة من جهة ثانية لأن اتساع المساحة المخصصة للمقاعد تضيف أعباء على عموم الركاب ونوعية الخدمات المقدمة لهم وحتى عدد المرافق الصحية، وهذا يعود لرغبة شركات النقل العالمية في مزيد من الإيرادات وتحقيق ربح أكبر، ولو كان على حساب راحة المسافرين، والشركات المصنّعة غير مسؤولة عن تحديد عدد المقاعد، الأمر منوط برغبة الشركات الناقلة حصراً، إلا أنها يفترض بها أن تفرض مقاييس على شركات النقل عند تقديم طلبات الشراء، فهل يتحقق هذا في زمن التنافس غير المتكافئ بين الشركات المصنّعة للطائرات وهي معدودة على مستوى العالم.
الطائرات الحديثة نثرت شاشات على عدد مقاعد الطائرة لتخفيف وطأة الوقت عن المسافرين وخاصة في السفرات الطويلة، وبمجرد استقرار الطائرة في الجو تم إنزال الشاشات ليختار كل راكب ما يشاء من أفلام روائية عربية وأجنبية على وفق ما يرغب أو أية فعاليات فنية أخرى، أو يتم عرض رصدٍ الكتروني مستمر لسرعة الطائرة وارتفاعها عن مستوى سطح البحر ودرجة الحرارة خارج الطائرة، وخط الرحلة ومواعيد الاقلاع والهبوط.
على الرغم من طول الرحلة فإن الشركة الناقلة لم توفر ما يكفي من وجبات طعام للركاب في هذه الرحلة، فالطعام الذي وزعته المضيفات كان قليلا جدا، حتى أن الطائرة التي كان حوالي ثلث ركابها من الأطفال الصغار، كانوا يُلحون على آبائهم أو أمهاتهم بطلب المزيد من الأكل، ولكنهم لم يحصلوا على شيء أبداً، كما أن الأوامر لا تسمح للمسافرين بإدخال الطعام معهم إلى الطائرة.
لم يتوقع أحدٌ من الركاب أنّ طائرة تعمل بين الأردن والولايات المتحدة ستجوّع ركابها وخاصة الأطفال، لاسيما وأن سمعة الملكية الأردنية جيدة بين شركات الطيران الدولية، ولهذا أثار الأطفال ضجيجا اضافيا ومشروعا إلى مستوى الضجيج داخل طائرة "الأير باص" التي تأكد لي أنها لا تضاهي طائرة البوينغ الأمريكية وخاصة الجامبو، فأصوات محركاتها عالية جدا ولم تنجح تدابير العزل التي قامت بها الشركة المصنّعة من منع وصوله إلى المسافرين بقوة، ولهذا لم يتمكن معظم الركاب من النوم طيلة السفرة على كراهة مع أن التعب والنعاس كانا رفيقين معنا في عبور المحيط الأطلسي.
كان أعلى ارتفاع حلّقت فيه الطائرة فوق الأطلسي اثني عشر كيلومترا، وكانت درجة الحرارة خارج الطائرة في ذلك الارتفاع عند أدنى مستوى لها وهو 71 مئوية تحت الصفر، ووصلت سرعتها في بعض الأحيان 880 كم، وأخيراً وبعد رحلة مضنية استغرقت أربع عشرة ساعة، انتهى وقتها وبدأت الطائرة بالهبوط التدريجي في مطار شيكاغو في الثانية وعشرين دقيقة فجر يوم الجمعة 31/12 /2004 بتوقيت بغداد ومكة المكرمة، وبعد توقف الطائرة ونزولنا منها توجهنا لتأشير جوازات سفرنا، وهنا بدأت متاعبنا الجديدة مع شرطة المطار، فقد ساورتها شكوك في صحة التأشيرات التي نحملها، هذا أمر طبيعي فنحن عراقيون، وأرضنا تشهد أسخن مواجهة مع القوات الأمريكية التي كانت أرقام خسائرها في تزايد مستمر، ويبدو أن لسان حال شرطة الجوازات يقول ماذا جاء بكم إلى أرضنا وأنتم تقتلون جنودنا؟ يضاف إلى ذلك أننا عرب ونحن في دائرة الاتهام حتى يتأكد الجميع من أننا لسنا ممنوعين من دخول أمريكا، ربما كان الشرطي يبحث لنفسه عن درع يحميه من أية مسائلة قانونية.
مع أن مرافقنا الأمريكي السرجنت واتسون تدّخل من أجل حل هذا الاشكال، إلا أنه فشل في تغيير قواعد العمل الصارمة في هذا المطار وكل المطارات الأمريكية، تأخرنا أكثر من ساعتين في انتظار لم نرَ له مبرراً، ثم مضينا إلى صالة الأمتعة وكان الحزام الناقل للحقائب قد توقف منذ ما يقرب من ساعة، بعد عثورنا على موقع أمتعة مسافري الملكية الأردنية صُدمنا لأننا لم نجد حقيبة مروان، سألنا عنها ولكننا لم نجد جوابا شافيا واستذكرنا الساعة التي غادرنا فيها مطار الملكة علياء في عمان، كانت حقيبة مروان متوسطة الحجم ويمكن حملها باليد، ولكن نقطة التفتيش قبيل الصعود على متن الطائرة، رفضت السماح له بحملها معه داخلها، ولهذا أنزلوها ووعدوا بإرسالها مع بقية الحقائب، ولكنهم لم يَفوا بوعدهم، لأنهم ارتابوا أصلا بالأسباب التي دعت مروان إلى حملها معه وعدم وضعها مع حقائبنا، ولذا وجدنا أن علاج الأمر يتطلب توفير ملابس بديلة لمروان لحين معرفة مصير حقيبته، وهذا ما حصل في أقرب المدن الأمريكية إلى قاعدة فورت هود.
في مطار شيكاغو كان علينا الانتظار عدة ساعات لنغادر إلى أوستن عاصمة ولاية تكساس بطائرة أمريكية، اللافت أن معظم الطائرات العاملة على الخطوط المحلية في الولايات المتحدة هي من الطائرات المروحية الخفيفة ذات المحركين، والتي لم تحذف من الخدمة على الرغم من دخولنا في الألفية الثالثة، ويعكس طياروها طبيعة الكاوبوي الأمريكية المغامرة أثناء الإقلاع والطيران والهبوط، ربما كان احساسنا هذا نابع من تعودنا عند سفرنا على متن الخطوط الجوية العراقية مع طياريها الذين ننظر إليهم على أنهم خيرة الطيارين في العالم، حتى عندما كانت مروحية من نوع فايكونت بأربعة محركات، أن الطائرة حين تهبط فإن الركاب لا يشعرون بذلك لولا مشاهدتهم لمدرج المطار ومنشآته، غير أن الطائرات ذات المروحتين التي تنقّلنا بها بين المدن الأمريكية، كانت تسقط ككرة من الهواء وتتقافز على المدرج عدة مرات قبل أن تأخذ مسارا عاديا على المدرج حتى تتوقف، وهذا يعكس استهانة الطيارين الأمريكان بحياة الركاب، وربما هو تعبير عن طبيعة الشخصية الأمريكية المغامرة أو الحنق على شركاتهم لأنهم ما زالوا يعملون على طائرات قديمة ومتخلفة بالمقاييس المعتمدة في عالم الطيران، لاسيما وأنهم ينتمون لبلد هو الذي اخترع أول طائرة وما يزال يصنع أفضل الطائرات في العالم.
حقا لم أكن لأتصور أنني سأرى هذا النوع من الطائرات المروحية في الولايات المتحدة وهي التي تنتج أحدث الطائرات النفاثة في العالم، ولكنني حينما رأيتها وجدت تفسيرا لجشع الشركات الرأسمالية فهي تريد استنزاف هذه الطائرات حتى الساعة الأخيرة من عمرها الافتراضي، وهي على العموم ذات كلف تشغيلية أقل من الطائرات النفاثة وهي طائرات لا تلقى منافسة في داخل البلاد وهي تستخدم للخطوط القريبة وربما أسعار تذاكرها أرخص من أسعار تذاكر الطائرات النفاثة.
في الساعة الثامنة وعشر دقائق بتوقيت مكة المكرمة أيضا من صباح السبت، أخذنا طائرة "أمريكان أير لاين" في سفرة إلى أوستن حيث وصلناها بعد ساعتين ونصف، وكانت الساعة تشير إلى الواحدة وأربعين دقيقة من فجر الجمعة بالتوقيت المحلي، علما بأن فرق الوقت بين أوستن ومكة المكرمة هو ثماني ساعات، ووجدنا سيارة عسكرية بانتظارنا في المطار وكان هناك مترجم اسمه ولسون بانتظارنا مع سيارة خاصة، وبعد استكمال الإجراءات تحركنا صوب قاعدة فورت هود العسكرية، واستغرقت الرحلة بالسيارة من مطار أوستن إلى القاعدة أكثر من ساعتين، وبعد سفر بين مطار وآخر استغرق أربعا وعشرين ساعة تقريبا، وجدنا أن التعب حد الإرهاق قد انتزع قدرتنا على المطاولة، وألقى كل منا نفسه على الفراش كجثة لا تعي ما حولها بانتظار الخطوة التالية.
فجأة انطلقت صفارات الانذار من سيارات الإسعاف والإطفاء، أفسدت علينا نوماً كنا بأمس الحاجة إليه، إذ كانت السيارات تزعق بلا توقف ليلة رأس السنة من دون أن نتبين سببا محددا لذلك، خرجنا من شقتنا إلى واجهتها الأمامية، وإذا بألسنة اللهب ترتفع عالياً في سماء مدينة كلين المجاورة لقاعدة فورت هود، وتحركت فينا الرغبة في معرفة ما يحصل في أقوى بلد في العالم في ليلة رأس السنة الميلادية، بلد بقدر ما نقدّر دوره في النهضة الحديثة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فإننا نضمر له مشاعر الكراهية، لأنه بلد شن حربين على بلدنا في غضون ثلاثة عشر عاما جاءت الثانية بعد حصار ظالم فرضه على وطننا ودمر فيه أسباب الحياة، بلد يسعى لتدمير القيم الإنسانية بسرعة وإعادتها إلى الوراء بسرعة تفوق سرعته في التطور التكنولوجي، وربما لم نشعر بأسى للخسائر التي تتكبدها قواته في أي أرض تتعرض لغزوها، ومن أي قوة تواجهها سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، صحيح قد يكون في هذا النمط من التفكير تعبيرا عن عجز لأنه سلاح الضعفاء وفيه شماتة أكثر مما فيه من عزم المقاومة، ولكن الصحيح أيضا أن العراقيين لم يألوا جهدا في تحجيم دور أمريكا في العالم وتقزيمها، ولولا وقوف العراقيين الباسل بوجه ماكنة الحرب الأمريكية، لكانت جيوش الولايات المتحدة تنتشر في كثير من بقاع الشرق الأوسط، ويرتفع علمها على المقار السيادية في أكثر من عاصمة في المنطقة.
كنا على يقين بأن الشعب العراقي قاتل ببسالة ورجولة نيابة عن شعوب المنطقة بل عن الإنسانية، وجعل الإدارات الأمريكية المتعاقبة تفكر ألف مرة قبل أن تُقدم على مغامرة عسكرية جديدة، ومع ذلك فأكّف العراقيين ترتفع بالضراعة إلى الله سبحانه أن ينتقم من كل من كان سببا في ما لحق بهم من موت ودمار على يد الجيش الأمريكي، الذي نقيم (في ضيافته على كراهة وحزن ويعتصرنا الألم) الآن في أكبر قاعدة برية له في العالم على كثرة ما يمتلك من قواعد منتشرة على طول الكرة الأرضية وعرضها، سواء من كان هذا المشارك في ذبح العراق عربيا أو عراقيا أو أجنبيا، وهذه القاعدة هي التي دفعت إلى العراق الآلاف من الجنود القتلة لقتل العراقيين.
كما قلت كان هذا هو اليوم الأخير من عام 2004 والذي بدا لنا نحن الغرباء الثلاثة وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ببطء شديد ووقعُ خطواته فوق صدورنا كان ثقيلا جدا، الليلة ستسهر مدن العالم وفي هذا الجزء من الكرة الأرضية، على أنغام الموسيقى الصاخبة حد الجنون وعلى أنغام الرصاص المنهمر من بنادق الغزاة بجنون أعظم ولكن في بلدنا وعلى أبناء شعبنا بهدف تركيعهم، لم نشعر بأسىً أننا فرضنا على أنفسنا إقامة إجبارية في الغرفة، فهذا هو شأننا حتى عندما كانت الأيام أنيقة ومترفة والليالي في العراق جميلة وجميلة أكثر من قدرة كثير من العراقيين على التحمّل والتخيّل، فالزمن الجميل لم يمكث إلا بعمر الربيع في العراق، لم يكن أحدنا ليفكر فيما خلا من الأيام بالبحث عن المكان الأفضل لقضاء الساعات الأخيرة من أعمار السنين التي مرت علينا، ثم ليبق في حالة انتظار حتى يتعانق عقربا الساعة ويعود الإنسان إلى بهيمته.
على العموم الآن بل ومنذ ساعات دخل العراق يوما حزينا جديدا في عام حزين من سنوات الاحتلال، وعجبنا لحالنا أننا جئنا إلى مركز العصابة التي قتلت ولدنا وسرقت أموالنا وما تزال تُفكّكُ كل ما بنيناه بتعب السنين وتضحيات العراقيين وأموالهم وتفعل في بلدنا كل منكر، لنسترد جزءً من حق ضاع كما ضاعت فلسطين ولم يكن أمامنا إلا أن نواصل خطانا التي بدأنها في العراق ونلاحق عدو يعرف أنه يرتكب من الجرائم ما يُلحق عارا بقواته، ولكنه يستميت لنفيها عن نفسه مستعينا بكل ما هو متاح تحت يديه من إمكانات.
كان علينا انتظار انتهاء عطلة نهاية عام ولّى وعام أقبل والتي تزامنت مع عطلة نهاية الاسبوع، حيث ستصاب الحياة بالشلل التام في البلاد، وسنبقى ننتظر حتى بداية الأسبوع الجديد كي نشهد انعقاد جلسة المحكمة، وحينها سنعرف أين وصلنا بعد كل هذا الجهد الشاق الذي بذلناه خلال عام كامل من دون أن تلوح في الأفق حتى الآن بوادر تطبيق العدالة الأمريكية التي رأيناها كثيرا في أفلام هوليود، ولم نجد لها أثرا على الأرض لا في العراق وقبله في فيتنام وبعد ذلك في أفغانستان أو حيث وجدت قوات أمريكية تحتل أرض بلد آخر، وما رافق تطبيقات العدالة الأمريكية المعصوبة الأعين في غوانتانامو وأبو غريب، وما يجري في فلسطين ومع شعبها بدعم ومظلة أمريكية بالمال والسلاح والإعلام، أو صمت أمريكي حتى تجددت الأسئلة القديمة وصارت ترتفع من جديد كلما أصابنا كدول وشعوب أو كأفراد بعض رذاذها.
نحن هنا في معركة قضائية علينا أن نستخدم مهاراتنا وخبراتنا الشخصية، فنحن نواجه عدواً مسلحا بالقوة وقدرة الغدر ويستند على خبرات متراكمة في مختلف المجالات وخاصة القانونية، وما يصلح في العراق وفي بلدان العالم الثالث لا يصلح في أمريكا، ومن قال إنه نجح في بلد أو مجتمع ما فلا يعني ذلك أنه سينجح في كل مكان؟
أمريكا جاءتنا غازية تحت شعارات براقة عن تصدير الديمقراطية الغربية إلى مجتمعنا الذي قد يحتاج إلى عقود طويلة ليتعامل مع ما يسمى بالديمقراطية فمجتمع ما زالت فيه الأمية سائدة وبأي قدر من المقادير لا يستطيع اختيار ممثليه إلى الهيئات التشريعية، الديمقراطية مثل شجرة ما يصلح منها للمناطق المتجمدة لا يصلح للمناطق الحارة، على العموم هذه بركات الديمقراطية الأمريكية خصوصا والغربية عموما، التي وفرت أعلى مراتب الحماية للقتلة، متى كانت الديمقراطية المصممة على مقاسات الغرب قابلة للفرض على مجتمعاتنا بقوة السلاح؟ أم أن الديمقراطية أغنية جميلة للأمسيات الملونة من غير المتاح نقلها لبلداننا من الناحية العملية؟ وما قيمة الديمقراطية من دون احترام حقيقي لحقوق الإنسان وخاصة من أطراف نَصبّت نفسها كجهة مكلفة بتطبيقها على مجتمعات أخرى ونسيت ما يحصل داخل أرضها؟ ومن هو المخوّل بمراقبةٍ دقيقةٍ لتطبيقاتها على الجميع؟ هل هي المنظمات الدولية والإنسانية والدول الضامنة لها؟ أم هي القوى المحلية المعبرة عن إرادة الشعوب؟ هي أسئلة لا يمكن أن نعثر لها على جواب بين ما خلّفته حروب الغرب العدوانية على الدول النامية والعالم الثالث، وخاصة الوطن العربي الذي دفع أعلى التكاليف السياسية، جراء ركونه إلى الوعود الغربية التي كان يتأكد زيفها وخداعها في كل مرة.
لم يحصل أيام العطلة التي أمضيناها في مقر إقامتنا بالقاعدة أي تطور يتعلق بقضية الشهيد زيدون، ما عدا زيارات من قبل المحاميين العسكريين اللذين عينتهما المحكمة عنا، وكانا حريصين على إقناعنا بأن العدالة ستأخذ مجراها ولن تستطيع السلطة التنفيذية أو القيادات العسكرية التأثير على مسار العدالة بأي شكل من الأشكال، وكانا يركزان على أن فلسفة القانون في الولايات المتحدة تستند على مبدأ إحقاق حقوق المتخاصمين وليس الانتقام من أحد طرفي التقاضي، حاولا أن يسوّقا لنا بضاعة أمريكية عرفناها عن كثب، منذ أن فرض بلدهما على مجلس الأمن الدولي سلة القرارات الجائرة التي شرّعنت حصارا لم يسبق وأن فُرض مثله على أي بلد في العالم منذ أن فرض نابليون بونابرت الحصار القاري على الجزر البريطانية.
أثناء مجيئنا في المرة السابقة إلى قاعدة فورت هود، طلب منا المترجم اللبناني الأصل إبراهيم حسين تمراً من العراق وقال إنه أكل منه عندما خدم ضمن القوات الأمريكية كمترجم خلال العام الأول للحرب، وقال إن طعمه ما زال حاضرا في فمه، طبعنا نحن العراقيين أننا كنا نحمل هدايانا من التمر عند سفرنا خارج القطر، ويراها من نقدّمه له أنها أثمن هدية، فكيف إذا طلبه أحدٌ منّا وكان قد قدّم لنا مساعدة خلال وجودنا في ولاية تكساس لمتابعة قتلة الشهيد زيدون قضائيا؟ صحيح أنها جزءٌ من واجبه الذي كلفته به مراجعه العسكرية في القاعدة، ولكنه أظهر لنا مشاعر التعاطف خارج حدود الوظيفة مما جعلنا نشعر بالامتنان له، فجلبنا له كمية منه وسألنا عنه لإيصال الهدية إليه، ولكن أحدا لم يعطنا جوابا عن مكان وجوده، بل أن البعض أنكر معرفته به وكأن في الأمر سراً عسكريا يجب إخفاؤه، نحن لسنا بحاجة إليه طالما توفر لنا مترجم بديل، ولكنه هو الذي طلب بلسانه تمراً عراقياً، ولما كان طبعنا نحن العراقيين عدم ردّ سائل فقد وجدنا أن طلبه صار واجباً.
كان رقم تلفونه مسجلاً عندي وطلبت من أحد المترجمين الاتصال به واتصل به بالفعل، عندما تحدثت معه حاول أن يتخلص من الحرج الذي وقع فيه، لاسيما وأن عسكريا أمريكيا هو الذي اتصل به ثم حوّل المكالمة لي، قلت له من غير الممكن أنك نسيتنا ونحن كنا هنا منذ شهرين فقط.
هل يمكن أن يُنكر معرفته بنا وهو الذي كان مكلفا بواجب رسمي لمرافقتنا؟ هل يُعقل أن يتعمدّ تجاهلنا بسبب الخوف في بلد الديمقراطية الأمريكية؟ أخبرته بأننا جلبنا له التمر، شكرني على ذلك ووعد بأنه سوف يأتي لرؤيتنا وأخذ التمر، ولكنه لم يفعل وقدّرت أنه محرجٌ لأن أصله عربي، ولا يريد أن يضع نفسه في موضع الشبهة مع الاستخبارات الأمريكية، خاصة وأنه يعمل في الجيش الأمريكي، هذه عقدة الغرب مع العرب والمسلمين بصرف النظر عن البلدان التي ينتمون إليها، والذين يُؤشر كل أمريكي نحوهم بأصبعه أنهم متهمون إلى أن تثبت براءتهم.
يعتقد العرب المقيمون في أمريكا والمتجنسون بجنسيتها، أن ما حصل لبرجي التجارة الدولية في نيويورك يوم 11 سبتمبر2001، وما رافقها من أحداث وردود فعل، قد وضع العرب "الأمريكان" جميعا في دائرة الاتهام، وحوَلَهم إلى مشاريع تفخيخ افتراضي حتى تتأكد سلامة مواقفهم.
ومن أجل التأكد من ذلك نشط مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي، في جمع أكبر قدر من المعلومات عن تاريخ كل عربي مقيم في الولايات المتحدة، وفتح لكل واحد منهم ملفاً أمنياً بصرف النظر عن مكانته وما قدمه للمجتمع الأمريكي من خدمات علمية وإنسانية، ربما لهذه الأسباب وغيرها من الحسابات الشخصية لم نرَ المترجم اللبناني إبراهيم حسين أبداً، والذي انتهت مهمته كمترجم ومرافق لنا بمجرد عودتنا إلى العراق، وإن كان لم يكلف بواجب جديد معنا، فليس له الحق بأي اتصال بنا.
ربما سحبنا تقاليدنا العربية في هذا المقطع من العلاقات الاجتماعية ولم نأخذ بنظر الاعتبار أن لمجتمع المهاجرين الأمريكي وحتى في غيره من المجتمعات الغربية، تقاليدها البعيدة عن تقاليدنا بعد الأرض عن الشمس، وفي نهاية وجودنا هناك أعطينا التمر لعاملة النظافة الأمريكية التي كانت تتولى تنظيف مقر إقامتنا في قاعدة فورت هود، والتي قالت إنها تحب التمر كثيرا.
أواخر عام 2004 ومع الانتقال من عام إلى آخر، كانت إندونيسيا تعيش كارثة مروّعة، فقد تعرضت لمد بحري هائل (تسونامي) أعقب زلزالا هائلا في أعماق المحيط الهادي وقُتل نتيجته مئاتُ الآلاف وشُرّد الملايين، وكان ذلك أسوأ كارثة طبيعية مسجلة حتى ذلك الوقت، فقد كانت بلاجات السواحل الاندونيسية التي تعيش عز الصيف، وتعج بملايين الهاربين من شتاء أوربا وأمريكا الشمالية، ولهذا تنوعت جنسيات الضحايا من بلدان مختلفة، ولم نمنع أنفسنا من التمني لو أن أمريكا هي التي ضُربت بتسونامي انتقاماً لكل الضحايا الذين سقطوا نتيجة جرائمها في العراق وشتى أرجاء العالم، ولكن الأمنيات تدور في مكانها داخل الرؤوس الحالمة والنفوس التي أتعبها طول السفر وقلة الزاد، والتي تريد أن تنوب عنها قوى الغيب في استرداد حقوقها، أو تبقى تسبح في فضاء الكون الرحيب ولا تنتقل إلى الأرض لأن الله سبحانه وتعالي يمد بالعون والمدد من يقف إلى جانب نفسه ويتصدى لكل من يعتدي على حومته وحرماته.
كنت أتساءل مع نفسي لماذا تتكبد البلدان الفقيرة والمتخلفة أكبر الخسائر البشرية والمادية عند تعرضها لأية كارثة طبيعية؟ الإجابة جاهزة وواضحة على الرغم من أن بعض البسطاء أو المغرضين يحاولون تصوير الأمر وكأنه نقمة ربانية على المجتمعات الفقيرة، لاسيما وأن معظمها بلاد إسلامية، هذه فرضية ساذجة، فالأمر إشارةً ربانية لتلك المجتمعات بالذهاب إلى الأسباب، وأخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة أي خطر محتمل، سواء كان ذلك في تطوير أساليب التعاطي مع الظواهر الطبيعية التي تحيط بها أو في حياتها كلها، فالإسلام وهو دين "اقرأ" لم يمنع المسلمين من صُنع وسائل الاستشعار المبكر أو في أساليب البناء العمراني على أسس تواجه مثل هذه المخاطر، أو استيرادها من الخارج لمواجهة أخطر التحديات.
الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين أثناء الصلاة بأخذ الحيطة والحذر إذا خافوا من أعدائهم أن يميلوا عليهم ميلة واحدة، ومن باب أولى أن يتنبهوا إلى سائر الأخطار التي تهدد وجودهم في تفاصيل حياتهم اليومية، ولا يعد الاحتراز للظروف الطبيعية وتقلباتها مغايرا لسنّة الله في خلقه.
ماذا لو وقع التسونامي على شواطئ الولايات المتحدة؟ هل كانت خسائره بنفس المستوى؟
نعم شهدت الولايات المتحدة وما تزال كثيرا من الأعاصير والكوارث مثل كاترينا وريتا وغيرها كثير، ولكن الخسائر التي تقع هناك لا تتناسب مع قوة تلك الأعاصير أو الزلازل، ولنا في مدينة نيو أورليانز التي عاشت تجربة مرة مع كاترينا قبل بضع سنوات مما يمكن أن يدلنا على أساليب مواجهة الكوارث الطبيعية مع أن خسائرها كانت قاسية على أمريكا كلها.
خلال أيام عطلة نهاية السنة في الولايات المتحدة ومن شقتنا في فندق قاعدة فورت هود، كنا نقضي وقتنا في متابعة التلفزيون والذي لم تكن لديه قضية إلا تسونامي كما هو شأن كل الفضائيات ومحطات الإذاعة والتلفزيون والصحف في العالم، ولأننا كنا نجلب احتياجاتنا الغذائية من أسواق قريبة فقد كنا مضطرين لإعادة تسخينها في فرن كهربائي من نوع مايكروويف، وفي اليوم التالي وإذ كنا قد وضعنا الخبز في الفرن وانشغلنا عنه قليلا، فإذا بالدخان يتصاعد من الفرن فبادرنا من فورنا إلى قطع التيار الكهربائي عنه، ولكن صافرة إنذار منصوبة داخل الشقة تحسست من الدخان وسبقتنا، فبدأت تطلق صفيرا في أنحاء المعسكر كله، وما هي إلا دقائق حتى كانت سيارات الشرطة تصطف على مقربة من شقتنا، وكانت عاملة الخدمة قد وصلت قبل سيارات الشرطة (كما في معظم الأفلام الأمريكية التي تصل الشرطة فيها بعد أن تنتفي أسباب قدومها) واطمأنت العاملة إلى أن الأمر أصبح تحت السيطرة فاتصلت بالجهات المعنية وأبلغتهم بذلك فانسحبت الشرطة من المكان بعد وقت عشنا فيه قلقا مشروعا مما وقع، فنحن عراقيون وجئنا لمتابعة قضية شائكة، وحادث كهذا يمكن أن يُفسر ضدنا من قبل أجهزة بلد تبحث عن الأدلة ضدنا بعد أن أصدرت حكمها.
على كل حال الحمد لله انتهت المشكلة وعدنا إلى مسار حياتنا اليومية انتظارا ليوم الاثنين، غير أن مترجمة اسمها سيرا جاءتنا لتبلغنا أنها مكلفة بمرافقتنا والترجمة لنا طيلة مكوثنا هناك وقالت بأن المحكمة ستعقد جلساتها يوم الثلاثاء 5 / 1 / 2005 .
هذا يوم تأخير آخر ولكن علينا أن نتعامل مع التقاليد السائدة في العالم المسيحي بل في العالم كله في الاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، فنحن الآن في بلادهم وليس أمامنا إلا انتظار جلسة الثلاثاء، ومعنى ذلك أننا لن نستطيع مبارحة المعسكر إلا بإذن رسمي ومع المترجم.
مرة كنا في أحد مراكز التسويق الكبيرة في مدينة كلين القريبة من القاعدة، جاءنا أكثر من مواطن أمريكي ليعبر عن تعاطفه مع قضيتنا المعروضة على المحكمة، كان بعضهم ساخطا على ما ارتكبه الجنود وقالوا إنهم كانوا يتابعون مجريات المحاكمة عن طريق الصحافة والتلفزيون ويشعرون بالأسى لما وقع، تساءلت في نفسي لماذا يبدو الفرد الغربي إنسانيا في مشاعره وسلوكه عندما لا يكون مسؤولا؟
أو هو ممثل بارع عندما يؤدي هذا الدور؟ أكاد أجزم أن مشاعرهم كانت صادقة من خلال تلقائيتهم في احاديثهم معنا، فما يحرك المشاعر داخل النفوس هو عامل واحد عابر للأديان والقوميات والمذاهب، ولكن للدول مصالحها العابرة للقارات والتي تدوس على كل القيم الإنسانية، وهي التي تنتج ببراعة الأزمات المستحكمة بين الشعوب والأمم، ولهذا ينزع الأمريكي عنه مشاعر الانتماء لبلد يريد الهيمنة على ثروات الدول وإرادتها ويتصرف بنوعية انسانية، هذه مشاعر لمسناها عند أناس يحتلون مواقع غير مؤثرة في سلك الخدمة العامة؟ على الرغم من أن تلك الوظيفة تجرده من إنسانيته وتتركه يتحرك بآلية عمياء يفقد فيها كل ما يمت إلى ما يميز البشر عن سائر المخلوقات إذا اقتضت ضرورات الوظيفة ذلك.
انتهت عطلة الأعياد والتي لم نجد أنفسنا نرغب بنهايتها بأسرع وقت كما يحصل هذه المرة، وفي الساعة الثامنة صباحا من يوم الثلاثاء 5 / 1 / 2005 انتقلنا إلى مبنى المحكمة الذي لم يكن بعيدا عن سكننا, وأُجلسنا في إحدى غرف المحكمة بعيداً عن قاعة التقاضي، فقالت لنا المترجمة إن المحكمة تستمع الآن لشهادات الجنود الأمريكيين أنفسهم الذين شهدوا الجريمة إما عن قرب أو كانوا ضمن الدورية الأمريكية الآلية، وعلمنا أنهم لم يتمكنوا من بلورة موقف موحد بشأن القصة التي سيقدمونها أمام المحكمة، ونتيجة استيقاظ ضمير أحد الجنود فقد اعترف بأن الجريمة وقعت حقا وبالتفاصيل التي سبق لنا وأن قدمناها للمحكمة، ولأنهم وأثناء الخدمة وتحت القسم, فإن من غير الممكن أن يتواطأ جميع من شهد الواقعة على سرد قصة مغايرة لما جرى لمجرد أن آمرهم العسكري يرغب في ذلك، وقد علمنا أن الملازم الأول جاك سافيل قد حاول عرقلة سير المحاكمة بما يؤّمن إبعاد المسؤولية الجنائية عن نفسه وعن الدورية التي نفذت جريمة القتل، ورُفعت الجلسة إلى الغد.
في العاشرة صباحا من يوم الأربعاء 6/ 1 /2005 عقدت المحكمة جلستها الثانية برئاسة قاضي المحكمة (الكولونيل) العقيد تيودور ديسكن، عندما هممنا بالدخول إلى مبنى المحكمة، صادفنا في الممر الخارجي عدد كبير من الصحفيين المحليين من ولاية تكساس، وهم يمثلون الصحف المطبوعة والتلفزيون والإذاعة، وقد سبقتنا القضية إلى الصحافة مما ساعد على أن تكون الصورة متاحة أمام مواطني مدينة أوستن وولاية تكساس، حتى بفرض أن ذلك لن يضيف لنا شيئا ولن يغير من نتائج المحاكمة ولن يعيد لنا زيدون إلى الحياة، فإنه كان يبعث في نفوسنا قليلا من الارتياح لأن المحكمة مراقبة من الشعب الأمريكي الذي كما أشرت كان قد تعاطف معنا، كانت الجلسة منصبة على دور العريف (تيريسي بيركنز) الذي قام بتنفيذ أمر الملازم الأول سافيل بإلقاء الشهيد زيدون وابن عمه مروان في بوابة ناظم الثرثار، تم استدعاء مروان للشهادة واستغرقت شهادته ساعتين وربع وسرد القصة كاملة كما وقعت ليلة ارتكاب الجريمة، وعندما سأله القاضي عن أسباب نجاته ومقتل زيدون، أجاب بأنه كمسلم يؤمن بأن إرادة الله هي وحدها التي تتغلب على إرادات خلقه، ومع أن القاضي اعتبر ما قاله مروان قضية غيبية لكنه لم يمتلك الجرأة الكافية للسخرية منه لأنه سيضع نفسه في دائرة انتهاك حرية الاعتقاد.
حاولت هيئة المحكمة إيجاد ثغرة تتمكن من توظيفها لغلق القضية ولكنها لم تنجح في هذا المسعى، ليس بسبب قدرتنا في التفوق على رجال مدربين ومتمرسين في القضاء، وإنما لسبب واحد وهو أننا تمسكنا بقول الحق وسرد القصة كما وقعت من دون رتوش، على نحو سد نهائيا كل الثغرات في نقل تفاصيل الواقعة، لقد كان مروان صادقا مع نفسه وفي كل ما كان يُدلي به من أقوال عايشها قبل عام بالضبط، وتعايشت معه في عقله وقلبه وضميره والشهيد صديقه قبل أن يكون ابن عمه، والحادثة هزته من الأعماق وبالتالي عندما ذهب إلى هناك أراد أن ينتصف لحق الأسرة التي فقدت أحد أعمدة مستقبلها، فالصدق أقوى الأدلة ولن تنفع معه مهارات القضاة والمحامين وخبراء القانون، وقالت العرب قديما إما أن تكون صادقا وإما أن تكون قوي الذاكرة، وناقش محاميا المتهمين, مروان بشأن ما جاء في إفادته وسألاه عن موقفه مما أسمياه بالوجود الأمريكي في العراق، فكان موقفهما مدعاة للتوقف، فهل تخليا عن صفتهما كمحاميين عن المتهمين وتحولا إلى جزء من منظومة المحكمة انطلاقا من كونهما أمريكيين؟ قال لهما مروان إن الاحتلال مرفوض من كل شعوب العالم ولا أظنكما تقبلان أن يُحتل بلدُكم، ولما سألاه عن موقفه من المقاومة والتي أطلقا عليها اسم الإرهاب، قال أنا "أؤيد مقاومة الاحتلال باعتبارها اختيارا دينيا ووطنيا وأخلاقيا"، ومن دون إبطاء سألاه هل تؤيدها أم تدعمها؟ كنا قد تناقشنا في احتمال طرح مثل هذا السؤال أو أسئلة قريبة منه، وأكدت على مروان مرارا على أن يعلن عن تأييده للمقاومة ولا يتنصل من موقفه الوطني، ولا يتحدث عن دعم أو إسناد لأن ذلك يعني تقديم أحد أشكال الدعم المالي أو المساهمة بأنشطتها مما قد ينسحب على القضية التي صممنا على متابعتها حتى النهاية.
كان المحاميان يبحثان عن ثغرة تساعد على تبرئة القتلة من خلال الزعم بأن مروان وزيدون إرهابيان، وأن رد فعل العسكريين الأمريكيين كان وقائيا أو دفاعا عن النفس، خاصة بعد أن انهارت كل محاولات نفي وقوع الجريمة، خرج مروان وهو راض عن أدائه أمام المحكمة إذ ربما توقع البعض من هيئة المحكمة المنحازة إلى الجنود الأمريكان باعتبارهم مواطنين يدافعون عن المصالح العليا للولايات المتحدة ويعرضون أنفسهم لأخطار جدية بما فيها الموت، أن يرتبك مروان أو يتلعثم ويقدم ما ينفع المحكمة في بحثها عن فرصة لطي قيد هذه القضية، أو البحث عن مسالك قانونية أو نفسية تخفف عن أولئك الجنود تبعات فعلتهم، فهذا الهدف يتقدم على البحث عن الحقيقة الواضحة أمام الجميع، ولكن المحكمة تحاول إلقاء أغطية فوقها لطمس معالمها دفاعا عن (أبناء الوطن) بوجه إرهابيين لم يكتفوا بمقاتلتهم في العراق، بل (تواقحوا) كثيرا حينما جاءوا إلى الأراضي الأمريكية باحثين عن إيقاع العقوبة بجنود الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن الحرب هي وعاء مشروع للموت، كنا نلاحظ أن القضاة وهيئة المحلفين منقسمون على أنفسهم في معاقبة أمريكي بسبب قتله عراقيا، وبين إرسال رسالة تتناغم مع مزاعم البيت الأبيض والخارجية الأمريكية في الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية المحلقة فوق أجنحة الصواريخ العابرة للقارات، وجد القضاة صعوبة في تبرئة القتلة.
بعد انتهاء مروان ابن أخي عبد الحكيم من شهادته استدعت هيئة المحكمة أخي مأمون والد الشهيد زيدون للإدلاء بشهادته ولا شك أنه سيستذكر تلك الساعات التي وقعت فيها الكارثة وكيف جاد ابنه بروحه التي صعدت إلى بارئها لتشكو ما وقع عليه وعلى أسرته وبلده من ظلم، واستهداف همجي قادته الولايات المتحدة لتركيع العراقيين، مضى مأمون إلى قاعة المحكمة وهو يعيش مشاعر تتصارع داخله وهو يتساءل من أين جاءت الإنسانية لهؤلاء القتلة حتى ينصفوا أبناء بلد ما ذهبوا إليه إلا من أجل أن يذلوه ويسلبوا حقوقه ويدمروا فيه معنى الحياة؟ ومع ذلك صمم على أن يسلب الأمريكيين آخر فرصة لهم في الزعم بأنهم حملة العدل وحقوق الإنسان وقرر ضبط أعصابه كأب مفجوع، حتى اللحظة الأخيرة من المرافعة والتحكم بمشاعر الأب المكلوم وهو يرى قتلة ابنه أمامه وهم يمثلون دورهم في مسرحية إنسانية بالية.
عندما حضر مأمون كشاهد وبعد أن أقسم أن يقول الحق، بدأت هيئة المحكمة مناوراتها لاستدراجه وإيقاعه بتناقض قد يخدم المتهمين، بدأت أسئلتها له على قضية افتراضية اختلقها القضاة هنا في ولاية تكساس، ومن قبلهم لجان التحقيق العسكرية الأمريكية في العراق، وكان الهدف منها التشكيك بما ذكرناه مئات المرات عن دفن جثمان زيدون، وسألوه "هل أنت متأكد أن الذي دفنتموه هو ابنك زيدون؟ ألا يمكن أن يكون القبر لأي شخص آخر"؟ وراحوا أبعد من ذلك فقالوا له "ربما لا يوجد جثمان تم دفنه أصلا".
كان القضاة يتساءلون ببلاهة بل بوقاحة مقصودة ومعهودة عند الأمريكي الذي يعيش عقدة التفوق، منذ الأيام الأولى التي حطت فيها أقدام القتلة الأوائل الذين نفتهم بريطانيا إلى مستعمرتها فيما وراء الأطلسي، فخاضوا معاركهم الأولى ضد السكان الأصليين في تلك البلاد، ثم ترسخت في نفوسهم عقدة التفوق أكثر فأكثر عندما بدأت حربهم على عبيدهم من الزنوج التعساء الذين قادهم سوء حظهم للإقامة القهرية في العالم الجديد، كانت أسئلتهم التي يوجهها قضاة المحكمة العسكرية جارحة لمشاعر أبٍ فقد ابنه البكر لتوه، أي عقلية هذه التي تختفي تحت رؤوس هؤلاء القوم الذين وعلى كثرة ما يتحدثون عن قيمة الإنسان، فإن الاستهانة بمشاعر الآخرين تعد ديناً جديداً ينمو في العالم الجديد؟ هل يظنون أن كل ما في أمريكا يستأهل أن نختلق له قصة ونزعم فيها موت ولدنا لمجرد أن نخوض هذا الجدل السقيم؟ يمكن أن يكونوا هم على استعداد ليفعلوا ذلك، ولكن هل من حق القاضي "أي قاض" أن يوجه أسئلة مستلة من تقاليد بيئته ويسقطها على بيئة شاهد جاء من آلاف الكيلومترات باحثا عن العدالة والانتصاف لنفسه من قتلة ابنه، حسنا قال القاضي لكي نتأكد أن زيدون هو الذي تم دفنه، فهل تسمحون بفتح القبر وجلب الجثمان إلى الولايات المتحدة لتشريحه في مختبرات لا تتوفر لا في العراق ولا في المستشفيات التي أقامها الجيش الأمريكي في بلدكم كي نتأكد من أنه مات غرقا وربما نجد علامة تؤكد لنا أنه دفع بالقوة إلى الماء؟ يا ابن اللئيمة أيها الثعلب الماكر بل أيها الخنزير القذر، ترى أي مشورة خبيثة وصلتك وتعرف أن المسلمين لا يسمحون بفتح قبور موتاهم، قال لهم مأمون نحن لا نستطيع ذلك إلا بعد العودة إلى علماء الدين عندنا وأعدكم بأنني سأبذل جهدي للحصول على فتوى في هذا الشأن.
طلب محاميا المتهمين الحديث فسأل أحدهما وبطريقة استفزازية، ماذا تتمنى أن تفعل بمن قتل ولدك لو كان موجودا هنا؟ أجاب مأمون أولا اخبرني إن كان القاتل موجودا هنا وقل لي من هو؟ وأنا على استعداد للإجابة، أما إذا كان السؤال مجرد سؤال افتراضي فلست على استعداد للإجابة على الأسئلة الافتراضية، سأل محام آخر وبنبرة أكثر عدوانية، كم مرة شارك ولدك في توجيه ضربات للقوات الأمريكية في العراق؟ يا له من سؤال تحريضي علينا، المهم وبهدوء طلب مأمون من القاضي أن يأمر المحاميين بالكف عن مثل هذه الأسئلة التي لا صلة لها بالقضية، فزيدون لم يسقط في اشتباك مسلح وإنما قتل بعد إلقاء القبض عليه بتهمة مخالفته لقانون حظر التجول، وعلى الرغم من أن هذه التهمة باطلة إلا أن مخالفة القانون لا تعالج بالقتل وإنما بالتدرج بالعقوبات على وفق نصوص القانون المعمول به، استجاب القاضي للطلب، وأردف مأمون فقال هذا ما تعلمناه من مشاهدة الأفلام الأمريكية التي تعرض قضايا التحقيقات والمحاكم بأبهى الصور.
ولكن المحاميين لم ييأسا من إمكانية استدراج مأمون لموقف منفعل قد ينفع في رسم صورة تساعد على إعطاء تصور عن الموقف السياسي لعائلة زيدون، وكأن المطلوب أن يتجرد العراقي عن عراقيته، ليرضي هيئة المحكمة والمحامين والشعب الأمريكي، فأجاب مأمون بشكل قاطع أنه كعراقي لا يمكن أن يقبل باحتلال بلده من أي طرف كان، وبالتالي فهو ضد الاحتلال ويؤيد مقاومته من أي طرف جاءت هذه المقاومة.
انتهت جلسة المحكمة من دون اشعارنا بشيء وسرعان ما خرج المحاميان اللذان وكلتّهما المحكمة عن أسرة الشهيد زيدون وهما على درجة عالية من الارتياح، لأنهما على وفق ما ذكرا نجحا في إقناع هيئة المحكمة بتطابق مسلسل الأحداث يوم ارتكاب الجريمة مع شهادة مروان، وكي أعرف مدى خبرتهما القانونية، سألتهما عما إذا كانا محاميين فنفيا ذلك وقالا أنهما يتدربان على العمل القانوني من أجل الحصول على منحة من الجيش لدراسة القانون في إحدى الجامعات.
من المعروف أن الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة باهظة التكاليف، ولا يستطيع كل راغب بالدراسة الجامعية، الحصول على مقعد دراسي في الجامعة إلا إذا كان من عائلة ثرية أو كان أهله على استعداد أن يتخلوا عن الكثير من الاحتياجات الأساسية في حياتهم من أجل أن يكمل ولدهم دراسته الجامعية، ولهذا يبرر كثير من الأمريكيين انخراطهم في الخدمة العسكرية بالرغبة في الحصول على منحة للدراسة الجامعية.
كان المترجم القانوني المصري مروان عبد الرحمن حاضرا في المحكمة، ولكننا لم نره بعد ذلك فقد طار إلى مقر عمله في نيويورك.
في اليوم التالي صدرت الصحف المحلية وهي تحمل صورنا أنا ومأمون ومروان ونحن نخرج من قاعة المحكمة، وكنا في غرفة المحامين التقينا بالمحاميين اللذين عينتهما لنا المحكمة وجرى حديث طويل بشأن تفاصيل الحادث وقدم المحاميان لنا نفسيهما على أنهما يسعيان لإحقاق الحق ومعاقبة الجاني أيا كان، وكانا قد طلبا من مروان مرارا وتكرارا سرد تفاصيل القصة، واستفسرا عن جزئيات صغيرة، لا ندري هل هما على استعداد لإدانة مواطن أمريكي وينتمي إلى المؤسسة العسكرية التي ينتميان إليها؟ ساورتني شكوك كثيرة ورأيت أنهما يؤديان دورا مرسوما كجزء من المسرحية الكاملة من أجل إسدال الستار على فصلها الأخير، وبدا لي أنهما ومن خلال انتحال صفة المدافع عن قضيتنا يحاولان العثور على ثغرة تمنح من ارتكب الجريمة حكما بالبراءة، وربما يكونان صادقين ولكننا وبسبب مرارة الاحتلال وجرائمه المروعة لم نعد نثق بوجود أمريكي واحد يتعاطف مع القضايا الإنسانية ونتصور كل من يفعل ذلك إنما يؤدي دوره في مسرحية لن تستمر طويلا.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/maqalat/48318-2021-03-21-10-56-14.html
1471 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع